هل تصنع الجيوش الديمقراطية؟

اضيف الخبر في يوم الأربعاء ٢٩ - مايو - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: الدستور الأصلى


هل تصنع الجيوش الديمقراطية؟

عمرو صلاح

العالم شهد أربع موجات للتحول الديمقراطى كانت الجيوش تلعب دورًا مهمًّا فى إتمامها أو فشلها

 

فى تشيلى والبرازيل والسنغال وإسبانيا لعب القادة العسكريون دورًا مهمَّا فى صنع الديمقراطية

 

الذاكرة لا تغفل ما ارتكبته أنظمة عسكرية من انتهاكات وأعمال قمع وحشية

 

فى كل عمليات التحول الديمقراطى التى عرفها العالم كان هناك دور حيوى وغاية فى الأهمية تلعبه الجيوش فى تلك البلدان فى هذا الإطار، وكلمة حيوى هنا لا تعنى الفعل الإيجابى بالضرورة أو العكس، ولكن الحيوية هنا تأتى من كون القوات المسلحة فى أى دولة هى أكثر مؤسسات تلك الدولة قوة، كونها تملك أدوات العنف (السلاح)، وإن كانت الفرضية المثالية تقول إن الجيوش هى جيوش «الدول» لا جيوش «الأنظمة»، تستخدم هذا السلاح فى الدفاع عن شعبها لا مواجهتهم، إلا أن هناك سياقات وأحداثا مختلفة وتفاصيل غاية فى التعقيد قد تحدد دور الجيوش أو علاقتها بالتحولات الديمقراطية التى جرت فى بلدان عدة خلال أربع موجات للتحول الديمقراطى هزت العالم.. سواء كانت تلك العلاقة تتشكل بفعل سلبى مضاد للتحول من خلال الجيش فى بلد ما، أو فعل محايد يجعل القوات المسلحة فى دور المراقب الحذر الذى يتبنى موقفا فى النهاية بعد أن تحسم المعركة بين الأطراف المتنازعة أو تقترب من الحسم، أو الدور الإيجابى المحفز والمبادر والدافع لهذا التحول وإن كان الأخير فعلا نادرا إلا أنه ظل موجودا فى التاريخ وله سياقاته المختلفة، وينبغى التأكيد هنا أن مساحة هذا الدور سواء أكان سلبيا أم إيجابيا فقد يستمر فترة من الزمن إلى حين انتهاء عملية التحول أو فشلها. فالتحول الديمقراطى يمر عادة بثلاث مراحل رئيسية، المرحلة الأولى هى مرحلة الاحتجاج أو الصراع بين القوى الاجتماعية، والمرحلة الثانية هى مرحلة اتخاذ القرار بناء على إجماع صريح، وبالتالى تأسيس النظام الديمقراطى هنا على أسس جذرية وقواعد محددة للعملية الديمقراطية، وتأتى المرحلة الأخيرة فى عملية التحول وهى مرحلة الاعتياد الديمقراطى، حيث يعتاد القادة والمواطنون على السواء على تطبيق القواعد الديمقراطية والالتزام بها.

 

لقد شهد العالم أربع موجات للتحول الديمقراطى كما أشرنا، وكانت الجيوش تلعب دورا مهما فى إتمامها أو فشلها أو تركها تؤول إلى مصيرها، وإن كان علماء السياسة قد تحدثوا عن ثلاث موجات فقط، إلا أن البعض ذهب لاعتماد الثورات العربية بداية للموجة الرابعة، التى ما زالت فى مراحلها حتى الآن.

 

الموجة الأولى بدأت فى بدايات القرن التاسع عشر وانتهت بتأسيس وبقاء 12 دولة ديمقراطية حتى عام 1942، أما الموجة الثانية فقد بدأت فى نهاية الحرب العالمية الثانية، وعرفت فى عام 1962 بما تمخض عنها من 36 ديمقراطية مؤسسية فى العالم، والعديد من تلك الديمقراطيات كانت مستعمرات سابقة، فى آسيا وإفريقيا غير أن العديد منهم عادوا إلى أنظمة ديكتاتورية.

 

أما الموجة الثالثة فقد بدأت فى منتصف 1970 وكانت أكثر قوة فى أوروبا الغربية، إسبانيا والبرتغال واليونان، حيث تحولت ديكتاتوريات مدعومة عسكريا إلى نظام ديمقراطى. فحينما انهار الاتحاد السوفييتى، تحولت 12 دولة تقريبا فى وسط وشرق أوروبا إلى نظام ديمقراطى، وفى آسيا أصبحت 6 أنظمة ديكتاتورية، مدعومة عسكريا، ديمقراطية.

 

1- التحولات الديمقراطية فى أوروبا ـ آسيا الوسطى

 

أغلب دول وسط وغرب أوروبا لديها أنظمة ديمقراطية راسخة، والقوات المسلحة فى علاقتها بالنظام السياسى تكاد تكون محدودة، وقد جرت التحولات الديمقراطية فى تلك البلدان من خلال مسارات مختلفة، فمثلا النظام الديمقراطى فى ألمانيا فرض من خلال انتصارات أمريكا وإنجلترا وفرنسا بعد أن نجحوا فى سحق نظام هتلر الفاشى فى الحرب العالمية الثانية، وقد تم تعزيز وتعميق هذا المسار الديمقراطى بجلاء قوات الاحتلال، وبانتهاء الحرب الباردة. أما ديمقراطية فرنسا المعاصرة فقد ترسخت مع الجمهورية الخامسة التى أسسها الجنرال «شارل ديجول»، فما كان قبلها يصفه البعض بأنه لم يكن ديمقراطيا بالمعنى العصرى للكلمة وإن وجدت فيه إرهاصات لهذه الديمقراطية.

 

أما إسبانيا والبرتغال، وهى دول حكمت بأنظمة ديكتاتورية مدعومة عسكريا لمدة نصف قرن، فقد نجحت فى أن تحقق تحولا ديمقراطيا بدور بارز للجيش فى إسبانيا. وفى أثناء الحرب الباردة، كانت دول وسط وشرق أوروبا التى حكمت من خلال أنظمة مستبدة وشمولية تحت سيطرة الاتحاد السوفييتى، غير أنه فى أغلب بلدان أوروبا الشرقية لم تلعب القوات دورا إيجابيا فى التحول نحو الديمقراطية. وفى عدد من دول شرق أوروبا كان للقوات المسلحة فى أثناء عملية التحول الديمقراطى مواقف متباينة، ما بين مواقف الضباط القدامى والكبار الذين كانوا أقل دعما للديمقراطية على عكس شباب الضباط. أما فى آسيا الوسطى فقيادات الاتحاد السوفييتى من المسؤولين الشيوعيين كانوا غير قادرين على البقاء فى السلطة من خلال الفوز فى الانتخابات. لكن دور القوات المسلحة كان سلبيا فى آسيا الوسطى خلال الأحداث السياسية التى تلت الاستقلال. وهناك كازاخستان الموجودة فى نفس المنطقة من العالم، والتى كان التأثير الأقوى على قواتها المسلحة يجرى من قِبل روسيا والصين فى مواجهة التأثير الغربى، وبالتالى فإن الصين وروسيا لم تدفعا فى اتجاه تحول كاراخستان.

 

2 - التحولات الديمقراطية فى أمريكا اللاتينية

 

أمريكا اللاتينية بشكل عام تحولت من منطقة تعج بالأنظمة المستبدة إلى واحدة من المناطق التى تصعد فيها العملية الديمقراطية، وهنا فالقوات المسلحة فى بلدان تلك الدولة لعبت دورا بارزا فى كل التحولات. وقد حازت دول تلك المنطقة استقلالها من خلال ثورات مسلحة فى القرن التاسع عشر، ثم انخرطت القيادات العسكرية فى الجيش بعمق فى توطيد الديمقراطية منذ التحرر من الاستعمار.

 

فى نهاية 1970 كانت السلطة فى «الأرجنتين، بوليفيا، البرازيل، تشيلى، إكوادور، السلفادور، الهندوراس، وباراجواى، وبيرو» تحت سيطرة ديكتاتوريين عسكريين، لكن منذ عام 1978 بدأ النظام العسكرى التحول للديمقراطية.

 

وفى عام 1992 انتهت الحرب الأهلية فى السلفادور، بعد عملية سلام رعتها الأمم المتحدة، وعقدت انتخابات، ثم ما لبثت أن تحولت الدول التسع السابقة وصنعت تحولا ديمقراطيا. المسار فى كل دولة كان متفردا، لكن كانت هناك الكثير من القواسم المشتركة على أى حال.

 

والمشترك هنا أنه فى وقائع كل حالة من تلك الحالات، كان انقسام الجيش الداعم للديكتاتور عاملا مهما أفقد النظام الديكتاتورى وحدته، وفتح الطريق أمام التطور الديمقراطى. لكن على الناحية الأخرى كان الضغط الشعبى من أجل الديمقراطية عاملا آخر حاسما هنا، فالنظام السلطوى كان غير قادر على الإبقاء على سلامة الاقتصاد. (تشيلى كانت استثناء) ومن ثم كان اللجوء إلى إجراءات قمعية لحفظ الأمن.

 

وكمقابل للتخلى عن السلطة سعت الحكومات العسكرية، بدرجات متفاوتة من النجاح إلى التفاوض حول الضمانات والامتيازات المؤسسية فى ظل الحكومات اللاحقة. شمل ذلك العفو عن متورطين فى قمع فى أثناء الحكم العسكرى، مخصصات الموازنة، ومحدودية الرقابة الخارجية على شؤون الجيش.

 

3 - الديمقراطية التركية ودور الجيش

 

فى ورقة تحليلية أصدرها «منتدى البدايل العربية» وصاغها الباحث الشاب جورج فهمى تحت عنوان «استدعاء الجيش إلى السياسة: دور الوسيط الضامن» أشار الكاتب إلى أن تركيا قد عرفت «أشكالا مختلفة لتدخل المؤسسة العسكرية فى الشأن السياسى بدءا من التدخل العسكرى المباشر، كما جرى فى سبتمبر 1980، عندما قام الجيش التركى بتولى مقاليد السلطة السياسية عقب حالة من الانفلات الأمنى اقتربت من الحرب الأهلية بين قوى اليمين واليسار واستمرت القوات المسلحة فى إدارة شؤون البلاد لمدة 3 سنوات قامت خلالها بكتابة دستور تركيا الحالى فى عام 1982 ثم سمحت بعودة الحياة السياسية فى عام 1983، وإن احتفظ قائد الجيش كنعان أفرين بمنصب رئيس الجمهورية، كما عرفت تركيا فى عام 1997 ما عرف بالانقلاب الناعم، أو كما يسميه الأتراك «الانقلاب ما بعد الحداثى»، عندما فرض الجيش التركى من خلال مجلس الأمن القومى على حكومة نجم الدين أربكان المنتخبة مجموعة من الشروط دفعت الأخير إلى الاستقالة، خوفا من انقلاب عسكرى مباشر.

 

4 - أنماط الفعل العسكرى السياسى «إيجابى ـ سلبى»

 

عمليات التحول السابقة التى شهدتها أوروبا أو أمريكا اللاتينية، جميعها شهدت اشتباكا مباشرا من الجيوش مع علميات التحول الديمقراطى تلك، وهنا يمكننا أن نصنف أنواع هذا الاشتباك إلى ثلاث حالات:

 

فعل سلبى: وهنا نجد أن الجيوش تدخل بشكل واضح لدعم النظام الديكتاتورى القائم، سواء بإبقائها على تأييدها له، أو بتدخلها المباشر لقمع المتظاهرين أو المحتجين كما فى الحالة الإيرانية مثلا فى عام 2009، والحالة السورية الحالية فى بدايتها وقبل انقسام الجيش إلى فصيلين متنازعين.

 

أو قد يكون فعلا محايدا: فما يحدث هنا هو أن تعلن الجيوش حيادها، تراقب الأوضاع عن كثب رافضة التدخل فيها بشكل مباشر، انتظارا لما ستؤول إليه الأوضاع، وتاركة المجال للأطراف المتصارعة لحسم صراعها اعتمادا على أنفسها، وهنا تكون الجيوش تابعة للسلطة السابقة الناجية أو السلطة الجديدة التى تسيطر على مقاليد الأمور وفقا للحسم النهائى.

 

أما الفعل الإيجابى فله حدود، حده الأدنى هو أن ترفض الجيوش أن تكون أداة عنف فى التعامل مع المحتجين أو المطالبين بالتغيير الجذرى أو الإصلاحات الديمقراطية، وهناك نمط آخر أكثر راديكالية وهو أن تجبر تلك الجيوش السلطة على التنحى والنزول استنادا إلى رغبات الجماهير، أو تلزمها بوعود والتزامات ديمقراطية فى تفهم ضمنى مغزاه تهديد بالانقلاب على هذه السلطة فى حالة عدم الالتزام بهذا التفهم، أو أن تقوم الجيوش بما يشبه الانقلابات، حيث تتولى الجيوش السلطة لفترة انتقالية تضمن وضع قواعد واضحة لعملية ديمقراطية متكاملة المراحل، تبدأ بالتوافق السياسى، وتنتهى بتحديد أطر العمل الديمقراطى التى تكون خطوة على أعتاب نظام ديمقراطى راسخ.

 

5 - العسكر والسياسة - نماذج مختلفة

 

تاريخ علاقة العسكر بالسياسة بشكل عام يحمل الكثير من التفاصيل التاريخية التى تمثل جزءًا أساسيا من عداوات اليسار إزاء علاقة العسكر بالسياسة، فالذاكرة السياسية المعاصرة لا يمكن أن تغفل ما ارتكبته أنظمة ديكتاتورية عسكرية عدة حكمت العالم من انتهاكات وأعمال قمع وحشية، سجلت تفاصيل حكمها وقمعها أدبيات عدة وروايات عالمية، فانقلابات العسكر فى بعض البلدان نفذت تحت ادعاءات السعى لتحقيق طموحات الشعوب وأحلامهم وتطلعاتهم إلى الديمقراطية، والقادة العسكريون فى مثل تلك الحالات ادعوا أنهم يتبنون إقامة نظام ديمقراطى، لكنهم يحتاجون إلى بعض الوقت للتعاطى مع مشكلات تهدد وجود الديمقراطية، وهنا يتحول هذا الوقت، ربما، إلى عقود! وربما يخلع هؤلاء الملابس العسكرية ويرتدون زى رجال الأعمال، ويظل هؤلاء فى الحكم دون الحاجة إلى انتخابات ديمقراطية كونهم على قناعة بأنهم ليسوا فى حاجة إلى انتخابات حقيقية لإثبات شرعيتهم، وهذا مثل نموذج الانقلابات الثورية العسكرية المناهضة للاستعمار فى إفريقيا.

 

وهناك النموذج الاستبدادى الصريح من الحكم الذى دعمه العسكر، الذى يقف قلبا وقالبا مع النظام الديكتاتور فى مواجهة شعبه، وأبرز الأمثلة الحديثة لذلك هو الدور الذى لعبه الجيش فى إيران فى مع الاحتجاجات التى نشبت عام 2009، وبفضل هذا القمع نجح النظام الإيرانى فى استعادة توازنه والبقاء على رأس السلطة حتى الآن. وهناك أيضا النظام السورى الذى وقف الجيش بجواره فى مواجهة الاحتجاجات فى سوريا فى بدايتها، وارتكب قمعا مفرطا بحق المحتجين، وهو ما قاد الجيش إلى الانقسام فى الفترة الحالية ما بين مؤيدين للنظام ومواجهين له وكله يستخدم قوة السلاح ويرتكب الانتهاكات.

 

الواقع يقول إن تلك ليست هى الصورة الوحيدة لعلاقة الجيوش بالسياسة أو بالثورات، فقادة الجيوش لا ينحازون بالضرورة إلى النظام المستبد الذى يعملون فى ظله، خصوصا وقت حدوث الأزمات السياسية، حيث يصنع القادة العسكريون وقتها قراراتهم التى يرونها فى خدمة بلدانهم أو فى خدمتهم هم شخصيا، أو فى خدمة مصالحهم، كما فى الفلبين عام 1983 أو كما فى إندونيسيا عام 1998 أو فى أوكرانيا 2004 أو فى صربيا عام 200، وهنا نماذج لرفض قيادات القوات المسلحة فى تلك البلدان التعاون مع السلطة لقمع الشعب، فسقط النظام الديكتاتورى.

 

وهناك النموذج المضاد، أو النموذج الإيجابى للقادة العسكريين الذين يحظون بعقيدة أخرى، والتى كانت قادرة على استشعار تطلعات الشعب وإدراك مطالبهم بالديمقراطية، حى نفذ هؤلاء القادة عمليات التحول تلك بأنفسهم كما فى حالة تشيلى والبرازيل.

 

وهناك، وفى السنوات الأولى من عمر الولايات المتحدة، جورج واشنطن صاحب الخلفية العسكرية الذى أسس شكلا ديمقراطيا دستوريا حقيقيا للحكم متمثلا فى حكومة ديمقراطية، وفى تركيا فهناك كمال أتاتورك الذى قاد انقلابا رسخ لاحقا لنظام ديمقراطى ذى صبغة علمانية جعل تركيا حاليا واحدة من كبرى الدول فى المنطقة، وهناك أدوار لعبها قادة عسكريون فى سبيل ترسيخ نظام ديمقراطى مثل الجنرال السنغالى جين ألفريد ديالوا فى عام 1960، والذى أسس دورا بارزا للجيش فى النظام الذى استقل وأصبح قواما لدولة ديمقراطية، وما زال هذا الدور قائما حتى الآن. وفى إسبانيا عام 1970 قاد الجنرال مانويل غوتييريز ميلادو المبادرة لإجراء إصلاحات ديمقراطية حقيقية أسقطت نظام فرانكوا المستبد. وهناك الجنرال جوان إميليو الذى دفع نظام بينوشيه فى تشيلى أيضا إلى السقوط، متبنيا مانيفيستوا تاريخيا يلزم الجيش بخدمة نظام ديمقراطى.

 

6 - كيف يفكر قادة الجيوش تحت حكم الديكتاتورية؟

 

الفرضية تقول إن الجيوش يجب أن تلعب دور المدافع عن شعبها وأن لا تستخدم السلاح فى مواجهتهم أو لقمعهم. غير أن هناك أوضاعا وظروفا ربما تؤدى إلى أن يدع القادة العسكريون النظم المستبدة لفترة من الوقت، فبعض القيادات العسكرية التى ألحقها النظام قد تكون ذا ميول لاستخدام العنف لصالح السلطة، أو لصالح مصالحها الخاصة، أو دفاعا عن الفساد، أو خشية أن تلعب دورا يتماشى مع القيمة الحقيقية لدورها، خصوصا أن الحكام المستبدين عادة ما يعتنون بالصف الأول تحديدا من قيادات المؤسسات العسكرية فى بلدانهم، وهذا يحدث فى البلدان الفقيرة بشكل كبير، ففى كوريا مثلا يؤمِّن النظام الحاكم ميزات مهمة للصف الأول من ضباط جيشه، كذلك تراقب السلطة أداءهم من خلال أجهزتها الأمنية، بما يجعلهم فى حالة خضوع دائم، وتستبعد هؤلاء الذين لا تثق فى ولاءاتهم.

 

غير أن هناك أيضا مجموعة من المعتقدات التى تحكم العقلية العسكرية فى مثل تلك الحالات، خصوصا فى فترات الاضطراب التى تكون مدفوعة بدعم من قوة معادية، أو يشتبه فى أن تكون مدعومة، وهنا ترى القيادات العسكرية فى الجيش أن دورها الأساسى هو مواجهة تلك الاضطرابات، وفرض النظام والحفاظ على الأمن وفرض القانون، وبهذا يكون المجهود موجها بشكل أساسى نحو محاربة الخصم الأجنبى الذى تراه تلك القيادات محفزا للاضطراب فى البلاد.

 

وهناك اعتقادات أخرى قد تكون موجودة لدى القادة العسكريين للقوات المسلحة، خصوصا فى الدول التى تعانى من حالة احتقان أو انقسام طائفى، حيث يكون احتمالية دعم القادة العسكريين لعملية تحول ديمقراطية ضعيفة، وتزداد محدوديتها، خصوصا إذا كانوا ينتمون إلى طائفة قد تحرم من مزاياها فى حالة تأسيس نظام ديمقراطى، وهذا النمط من المعتقدات أو الأفكار ما زال موجودا بشكل واضح، خصوصا لدى قيادات الجيوش فى مناطق عدة من إفريقيا.

 

وهناك نوع ثالث من التصورات والأفكار تكون موجودة لدى القادة العسكريين تبرر لهم عدم انحيازهم للديمقراطية الكاملة كبديل للديمقراطية الشكلية القائمة، وهى تصورات مفادها أن شعبهم ما زال غير مؤهل لتلك الديمقراطية، ووجود مؤسسات ديمقراطية ليس بالضرورة من وجهة نظر هؤلاء أن يكون فعلا آنيًّا أو وقتيا، وحتى يتقلص الفساد ويتم الالتزام بالتشريعات وتحترم الأقليات يجب أن تظل البلاد فى وضعها القائم كما هو.

 

7 - ما الدوافع التى تتحرك الجيوش معها؟

 

إدراك الدوافع الحقيقية وراء التحرك، وهى دوافع متنوعة ومتعددة هو أمر مهم فى إدراك تحركات الجيوش واشتباكها مع الواقع السياسى بشكل مؤثر.

 

فهناك مجموعة المصالح التى يرتبط بها قادة الصفين الأول والثانى فى جيش ما، وهنا الحديث عن المصلحة المتمثلة فى رواتب وحوافز وترقيات وامتيازات اجتماعية، وهل هى مرضية أم لا؟ فإن كانت مرضية فربما تكون عاملا محفزا للقادة العكسريين بالانحياز إلى النظام القائم أيا كان، بل وقد يتطور الأمر إلى تحالف أكثر قوة مع الأنظمة الديكتاتورية حال إن كانت علاقات المصلحة أكبر وأكثر عمقا، وترتبط بمصالح شخصية لدى قادة عسكريين بعينهم، فتمتد كى تصل إلى الهيمنة العسكرية على عدد من المؤسسات الموجودة فى الدولة مثلا، أو تتيح لهؤلاء مسارا سياسيا موازيا للخارجين والمتقاعدين من تلك المؤسسة العسكرية يضمن لهم وضعا متميزا لاحقا، بآليات خارجة عن أطر الديمقراطية. هذا بالإضافة إلى المصالح المرتبطة بعلاقات فساد مالى، وعمولات فى صفقات توريد السلاح فى حالة الدول التى تعج بالفساد.

 

وهنا تتحدد شكل علاقة المصلحة بالفعل العسكرى السياسى، فربما تدفع المصلحة إلى إبقاء الأوضاع كما هى عليه، أو قد يكون الأمر مخالفا، وتكون اللحظات المحفزة للتحول الديمقراطى هى لحظات محفزة لهؤلاء القادة بالتحرك طمعا فى تحقيق وإيجاد صيغة أفضل للحصول على المصالح التى نتحدث عنها.

 

أوضاع الجيش أيضا فى بلد ما فى حالة ثورة أو انتفاضة عارمة قد تكون محفزة لفعل سياسى داعم للديمقراطية حال إدراك قادة الجيش أن الديمقراطية هى السبيل الأفضل لعملية تطوير داخل مؤسستهم، فمثلا الجيوش التى تعانى من انهيار أو انحدار فى المستوى المهنى، أو التدريب التكتيكى والفنى، بالإضافة إلى ضعف مستويات التسليح بداخلها قد يشكل لها ما سبق حافزا لأنْ تتفاعل مع الحالات الثورية أو الانتفاضات أملا فى أن تتطور أوضاعها، أو قد تجد أملا فى أن تتحرك بفعل سياسى لتحقيق هذا، ولاحظ هنا الحنق والغضب اللذين كانا موجودين داخل الجيش المصرى إبان حكم الملك فاروق، عقب الهزيمة فى حرب فلسطين وما تلا ذلك من تزوير نتائج انتخابات نادى الضباط فى نهاية حكم فاروق، وهى حالة اتسمت بالإحباط والرغبة فى الانتقال من عهد إلى عهد جديد كما يقول محمد حسين هيكل فى كتابه «مذكرات فى السياسة المصرية»، حيث كان سوء الأوضاع داخل الجيش والهزيمة عوامل محفزة للجيش المصرى أن يدعم حركة الضباط والقيادات الموجودة بداخله التى أثارت تلك النقاط بشكل محدد أعلنت أنها طامحة لتغييرها من خلال نظام سياسى جديد.

 

وهنا يكون مستوى الثقافة والإدراك عاملًا مهما، والاهتمام بالشأن العام فى بلدانهم، خصوصا حينما يلتقى هذا مع نوازع وطنية وجرأة فى اتخاذ الفعل. وفى الحالة المصرية مثلا، فمنذ عقود حينما تحركت طليعة من الجيش فى ثورة يوليو كانت تلك الطليعة تحظى بنصيب وافر من اليقظة والوعى السياسى والإدارك، وتجد أغلب هؤلاء كان حدهم الأقصى أنهم مروا على تنظيمات سياسية، وحدّهم الأدنى هو الاهتمام بالشأن العام وبالثقافة والاطلاع.

 

وقس على هذا ما قام به كمال أتاتورك فى مطلع القرن العشرين من تأسيس نظام علمانى فى بلاده وهو فعل كان محفزا، له مستوى عال من الثقافة لدى أتاتورك ورجاله، الذى جعلهم يتطلعون إلى الحداثة والتطور واللحاق بركب التقدم والتخلص من الإرث الثقيل لإخفاقات الدولة الدينية.

 

وإن كان مستوى الثقافة والتربية والنشأة يؤثر أيضا فى القدرة على اتخاذ قرار سياسى، فالأمر يكون أيضا مرتبطا بجرأة وشجاعة فى كل القرارات المتعلقة بفعل له علاقة بالسياسة.. وعلى الجانب الآخر فهناك الخوف والتردد فى اتخاذ مثل تلك القرارات خشية إلحاق العقوبات أو التعرض للأذى أو كون عناصر الجيش فى الدول الديكتاتورية تكون مرصودة من قِبل أجهزة أمنية أخرى، تقدم تقارير دائمة عن أدائهم وسلوكياتهم وتقييما بشكل دورى لمدى ولاءات القيادات فى الصفين الأول والثانى من الجيش.

 

8 - ويبقى أخيرا الدعم الخارجى

 

فى أحد الكتب التى أصدرها مختبر الأبحاث الأمريكى بروكنجز عن اشتباك العسكر مع التحولات الديمقراطية حاول الكاتب أن يكون أكثر مناورة ولباقة فى استخدام عباراته فى وصف توجيهات تعطى من جيوش القوى الدولية الكبرى للجيوش الأقل التى تعمل لصالح أنظمة ديكتاتورية حول مواقفها من عمليات التحول الديمقراطى، وهنا طبعا لا يمكن الغفلة عما تلعبه صفقات السلاح والدعم اللوجيستى والمادى والتكتيكى والتزويد بالسلاح الذى يحدث بين الدول الكبرى والدول الأقل تطورا على صعيد الصناعات العسكرية.. لكن دعونا نلتزم بما تحدث عنه الكاتب، الذى عمد إلى تصنيف الجيوش إلى نوعين، جيوش قد تكون عرضة للتأثير، وهى الجيوش الأكثر انفتاحا على العالم والقوى الديمقراطية مثل مصر على حد وصفه، والجيوش البعيدة عن هذا التأثير بحكم انعزالها عن تلك الدول مثل الجيش الإيرانى والكورى والصينى والسعودى.. فالكاتب هنا يتحدث عن التدريبات والنقاشات التى تحدث بين الجيوش المنفتحة والقيادات الموجودة فى جيوش الدول الكبرى التى سماها دولا ديمقراطية فى أثناء التدريبات وفاعليات أخرى مختلفة.

 

لكن أيضا تجد أن الكاتب قد أكد على الظروف والمتغيرات التى تؤثر هى الأخرى على إمكانية ممارسة التأثير على الجيوش من قبل الدول الكبرى، وهنا يتحدث الكاتب عن برامج الدعم أو التشجيع من خلال رسائل دعم الديمقراطية، ويسهب فى نوعية تلك الرسائل والأسلوب الأكثر لياقة فى التوجيهات، فالأسلوب الأمثل من وجهة نظره يجب أن يكون لَبِقًا يعطى المتلقى احترامه ووضعه وشعورا بقيمته كون الرسائل ذات الطابع العكسى ربما تتسبب فى نتيجة سلبية.

 

المدهش فى هذا السياق أن الكاتب أورد فى ما يشبه نموذجا محددا العبارات أو الجمل التى تنصح بها الدول الديمقراطية الجيوش فى مرحلة التحول، والغريب هنا هو أن أغلب تلك الجمل قد تجده كثيرا ومتكررا فى خطابات المجلس العسكرى فى أثناء إدارته فترات المرحلة الانتقالية عقب تنحى مبارك وكأنها كانت تلقن لجنرالات المجلس العسكرى من طرف ما، بل إن تلك الرسائل هى التى كانت تمثل الجزء العاقل والمدروس فى الخطابات التى كان أغلبها رسائل متخبطة وغير مدروسة وتسبب استفزازا، فعلى سبيل المثال من بين تلك الرسائل التى ربما تسعفك ذاكرتك وتستحضرها:

 

«الدكتاتور سوف يدعو قواته المسلحة إلى استخدام السلاح والقوة فى مواجهة شعبه» تذكر هنا التأكيد الذى أطلقه قادة المجلس العسكرى فى أكثر من مناسبة عن أنهم رفضوا استخدام السلاح فى وجه الشعب، ولاء القوات المسلحة ودعمها هما للشعب واختياراته الديمقراطية»، رسالة لطالما كررها المجلس العسكرى.

 

«القوات المسلحة يجب أن تدافع عن شعبها فقط ولا تستخدم القوة ضده أبدا».. وطبعا مع تغير ضمائر المخاطبة تجد أن تلك الرسائل قد استخدمت فى بيانات المجلس العسكرى المصرى إبان فترة حكمه الصريح.

 

ويؤكد الكاتب فى موضع آخر ضرورة تحفيز الجيوش وتشجيعها على القبول بالنظم الديمقراطية التى بالضرورة سوف توفر احتراما أكثر للقوات المسلحة وفرصا للترقيات ومعاشات كبيرة وتقاعدات مصحوبة بعمليات تكريم.

 

ويؤكد الكاتب هنا أن المهمة، كما أبرزها فى نمط صياغة مظللة «إقناع القوات المسلحة فى النظام الديكتاتورى بأن تدعم التحول الديمقراطى أو على الأقل أن لا تقف ضده»، إذ لا بد أن تطلق الضوء الأخضر من القوى أكثر تأثيرا فى المنطقة حول السماح بحركة الجيش وتدخله من عدمه، محددة بذلك نوع التدخل المنشود.

 

 
اجمالي القراءات 3958
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق