"حقيقة تعرفها أنت وأنا.. حقيقة عاشت فينا، عاشت معانا.. حقيقة خلاتنا نعملوا للكحالش جبّانة "مقبرة" ونسميوها جبّانة العبيد، قال شنيّة مايجيش يتدفن العبد بحذا السّيد"، هكذا أطلق الشاعر التونسي أنيس شوشان، صرخة ألم ممزوج بالغضب في قصيدته "!Silence"، رفضاً لاستمرار تجلّيات العبودية في تونس اليوم، رغم مضيّ أكثر من 17 عقداً على إلغاء الرقّ فيها.
الشاعر سلّط الضوء في قصيدته على وجود "مقبرة العبيد" في منطقة سدريان، بضواحي حومة سوق، بجزيرة جربة من محافظة مدنين (جنوب شرق)، إلى يومنا هذا، تُدفن فيها وفيات ساكني الجهة من أصحاب البشرة السوداء.
"يقولون نحن سواسية، لكنّ موتانا وموتاهم لا يُدفنون بنفس المقبرة"، تقول سلوى (34 سنة)، موظفة في تونس العاصمة، وتنحدر من قرية ربانة من معتمدية ميدون في جزيرة جربة، لرصيف22: "ليت مأساتنا تقف عند المقبرة".
مخلّفات العبودية في تونس لم تتوقف عند اسم المقبرة، بل أن تجلياتها مستمرة، سواء في سلوك التونسيين بين بعضهم البعض، أو في استمرار اعتماد بعض الألقاب العنصرية التي تشير ضمنيّاً إلى "العبودية" لدى عدد من التونسيين، من أحفـاد العتقاء في السابق.
كسرنا القيْد لكن...
تقول سلوى شاكية: "لقبي "عتيق بن يدّر"، وكان أجدادي عبيداً، لا أخجل من حقيقة أن أجدادي كانوا عبيداً، لأن ذلك كان واقع تونس قبل قرن وسبعة عقود، لكنّني أخجل من تواصل تأثير ذلك على حياتي اليوم ونحن في القرن21".
تصمت هنيهة متأملة لوحة معلّقة في غرفتها، صُوّرت عليها يدان تكسران قيداً طوّقهما، ثم تردف: "كلّ من يعرفني يظنّ أن كنيتي "بن يدر" وليست "عتيق بن يدر" لأن ذلك محرج، لقد كسرنا القيد لكن أيدينا ظلّت مكبلة".
"ذات يوم قالت لي مدرّستي كيف أسموك "أميرة" وأنت "وصيفة"، لا يوجد أمراء سود!.. كانت كلماتها أشبه بخنجر دُقَّ في قلبي"
"عتيق" هي من أصل فعل "عَتَقَ" أي حرّر، وكنية "عتيق فلان" تعني "المُحرّر من طرف فلان"، وتعود جذورها إلى تاريخ إلغاء الرق في تونس سنة 1846، ونَصَّ الفصل الأول من الأمر العليّ المؤرخ في 23يناير 1846، المتعلق بإلغاء الرق أن "لا عبودية بمملكتنا ولا يجوز وقوعها فيها، فكل إنسان حر مهما كان جنسه أو لونه، ومن يقع عليه ما يمنع حريته أو يخالفها، فله أن يرفع أمره للمحاكم".
"يزعجني تفسير كنيتي في كل مرة أتوجه فيها إلى الإدارات لاستخراج وثائقي الرسميّة"، يقول كريم عتيق دالي (39 سنة)، يعمل بأحد فنادق جربة، لرصيف22، مؤكّداً أن لقبه دائماً ما يعرّضه للإحراج، بسبب "خلفيته التاريخية ورمزيته الدالة على العبودية".
كريم، الذي يفضل الإبقاء على لقب دالي والتخلص من صفة "عتيق"، يقول إنه سعى كثيراً إلى تغيير لقبه، وباشر إجراءات ذلك، إلا أن طلبه قوبل بالرفض بسبب فراغ مؤسساتي يحول دون ذلك: "أخبروني عندما تُعيّن لجنة للنظر في الألقاب سننظر في طلبك، وها قد مرّت ثلاث سنوات ولا زلت لا أجد صدى لندائي".
وينصّ القانون عدد 20 لسنة 1964 على أنه: "لا يمكن لأي شخص تغيير لقبه".
كريم أكّد لرصيف22 أن هناك الكثيرين ممن يعانون من مشكلة الألقاب العنصرية، على غرار "شوشان بن صالح"، "عتيق بن يدر"، "عتيق رواي".
معاناة كريم وغيره ممن يحملون ألقاباً توحي بالعبودية، لا تتوقف عند ألقابهم، بل تشمل أيضاً ممارسات، سواء عن قصد أو دونه، تظهر الصورة النمطية العنصرية التي يحملها مواطنون تجاه آخرين يختلفون معهم في لون البشرة، ويعتبرونهم بناء عليها من سلالة العبيد.
"أنت وصيفة ولست أميرة"
"العبيد" هكذا يلقبنا بيض البشرة، بينما يلقبون هم بالأحرار"، تقول أميرة (25 سنة)، طالبة بكلية الحقوق بتونس، وأصيلة قرية آركو من جزيرة جربة، محدّثة رصيف22: "هناك موروث ثقـافي تـاريخي يربط أسود البشرة بالعبد، إلى يومنا هذا ينادي سود البشرة بـ"العبيد" و"الوصفان" وهي جمع وصيف، والوصيف هو الخادم".
تصمت قليلاً، تلمع عيناها بعبرة حاولت قدر المستطاع إخفاءها، تشيح بوجهها إلى الجهة الأخرى كي لا أرى دمعتها، وتتابع: "ذات يوم قالت لي مدرّستي كيف أسموك "أميرة" وأنت "وصيفة"، لا يوجد أمراء سود!.. كانت كلماتها أشبه بخنجر دُقَّ في قلبي".
تأخذ منديلاً ورقياً من فوق طاولة المقهى الذي نجلس به، في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة، تمسح دمعتها بعد أن التفتت إلي، كما لو أن رؤيتي لدموعها لم تعد ذات معنى بالنسبة لها، وتستطرد بصوت واثق: "منذ انتقلت للدراسة هنا، لم أعد أتعرض لمضايقات عنصرية، ربما لأن العاصمة أكثر تحضّراً من مسقط رأسي، وربما أيضاً لأنني صرت سيدة قانون، وصاروا يخشونني"، قالتها بفخر وضحكت ملء محيّاها: "سأصبح محامية، سأحرص على نصرة الأقليات العرقية، وسأخلق للأجيال القادمة واقعاً أجمل، وتصبح تونس بلد الجميع، اسماً على مسمّى".
"الإرادة السياسية غائبة"
"من الطبيعي تواصل تمظهر مخلفات العبودية في تونس رغم مرور 174 عاماً على إلغائها، لأننا لم نشهد في أي وقت من الأوقات أي محاولة حقيقية لنشر الوعي والمصالحة بين المستعبَد والمستعبِد، لاستيعاب الطرفين للواقع الجديد"، يقول الشاعر أنيس شوشان، وهو عضو بجمعية "منامتي" لمكافحة العنصرية، لرصيف22.
وفق شوشان، فإن "فكرة تحقير الآخر والحط من شأنه، هي الطاغية في المجتمع التونسي في أغلبه، فالتفرقة هنا لا تعتبر عرقية فحسب، بل هي بالأساس خلل فكري مبني على النظرة الدونية للآخر. بعد الثورة وعلو سقف الحريات، اصطدمنا بغياب الإرادة السياسية وإنكارها لوجود موروث ثقافي عنصري، حتى أن القانون الذي يجرم العنصرية لم يُصادَق عليه إلا بعد مرور سبع سنوات على الثورة، بضغط من المجتمع المدني".
"بعد الثورة وعلو سقف الحريات، اصطدمنا بغياب الإرادة السياسية".
وكان البرلمان قد صادق، في 9 أكتوبر 2018، على القانون المتعلق بالقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، الذي يهدف إلى تجسيد المبادئ الكونية لحقوق الإنسان ولمقتضيات الدستور الداعي إلى تحقيق المساواة بين المواطنين، والتأكيد على قيم الاحترام والتسامح.
"لازلت إلى الآن أطمح لأن تعترف الدولة بالجرائم التي ارتكبتها في حق السّود، وأن تعمل على نشر وعي مجتمعي"، يضيف أنيس.
وبالحديث عن عدم سماح القانون للمواطنين بتغيير ألقابهم، علّق قائلاً: "من يضع القانون بشر، والعيب فيمن يستند إلى قانون لمواصلة ارتكاب جريمة عوض معالجتها".
ويتساءل أنيس: "كيف يعقل أن تتواصل هذه المهزلة القميئة بحق مواطنين تونسيين؟ كيف يقبل مشرّع أن يكون في تونس من لقبه "عتيق فلان" ولا يحرّك ساكناً؟"، ثم يستطرد: "كان من الأجدر أن يسمح المشرّع بتغيير كل لقب يوحي إلى العنصرية بلا تردّد، من أجل حفظ كرامة الإنسان.. الدول لا تُحترم إلا إذا احترمت مواطنيها".
حافلة للسّود وأخرى للبيض
المنسّق العام بجمعية "منامتي"، زياد روين، تحدّث لرصيف22 عن واقع التمييز العرقي في تونس، وقال: "إن العنصرية مُقَوْلَبَة في المخيال التونسي منذ القديم، ورغم التشريعات التي تجرّمها فإن السلوكيات التي تكشف عن العنصرية والعبودية لاتزال موجودة".
"في 2001، انطلق الفصل بين ركاب الحافلات في مناطق من محافظة مدنين، تم تخصيص حافلة للسكان سود البشرة، وأخرى لبيض البشرة"، يوضح زياد: "أصل الحكاية بدأ عندما تزوج أسود من منطقة "القُصبة" من فتاة بيضاء من منطقة "سيدي مخلوف"، ما أثار حفيظة سكان منطقة "سيدي مخلوف" الذين استنكروا زواج أسود بإحدى بنات منطقتهم، وخلق ذلك توتراً بين المنطقتين، ما استدعى فصل الحافلات".
وبالحديث عن الفصل بين المقابر، يقول المسؤول بالجمعية: "قبل 174 سنة في جربة، كان "العبيد" يدفنون في مقابر معزولة مخالفة لمقابر أسيادهم، لكن تواصل ذلك إلى 2020 يضعنا أمام تساؤلات عديدة.. المسؤولون بالجهة يبررون استمرار وجود مقبرة العبيد بكونه مسألة تاريخية، دفن فيها السابقون، وظلّ أحفادهم يدفنون موتاهم هناك على خطاهم"، ثم يستدرك: "لو كانت الدولة جدية في محاربتها للعنصرية لكانت ألغت الفصل بين "مقبرة العبيد" و"مقبرة الأحرار"، وخصصت مقبرة تجمع كل الوفيات، كي تقطع تماماً مع كلّ ما يرمز للعبودية والعنصرية".
"هناك موروث ثقـافي في تونس تـاريخي يربط أسود البشرة بالعبد، إلى يومنا هذا ينادي سود البشرة بـ"العبيد" و"الوصفان"، ندفن في مقابر "العبيد" وهم لهم مقابرهم"
بخصوص جدل الألقاب، يقول روين: "بالعودة إلى التاريخ، كان هناك عبيد بيض وهم الذين حملوا ألقاباً من قبيل "بن مملوك" و"بن علوج"، لكن الصورة النمطية التي ظلّت راسخة تاريخياً تربط العبيد باللون الأسود، واليوم لا نجد أحفاد العتقاء بيض البشرة ممن ألقابهم "بن مملوك" أو "بن علوج" يتعرضون لممارسات عنصرية، على عكس أحفاد العتقاء سود البشرة".
"السلطات المعنية لا تتجاوب مع مطالبنا بإلغاء الألقاب العنصرية".
"جمعية منامتي لطالما نددت باستمرار اعتماد الألقاب ذات الرمزية العنصرية الدالة على العبودية، وطالبت بإلغاء ذلك وحذفه تماماً من البيانات الشخصية، دون أن تجد تجاوباً من السلطات المعنية"، يقول زياد، معتبراً إن ذلك "يضعهم أمام عنصرية ممنهجة من قبل الدولة".
وحول المخططات القادمة للجمعية في هذا الإطار، يقول روين: "لدينا مشروع بالشراكة مع "نقاط مكافحة التمييز"، وهي مراكز أنشئت في تونس لتوثيق حالات التمييز على أساس العرق ولون البشرة والميول الجنسية..، نحن بصدد توثيق كل الانتهاكات العنصرية، وسنعدّ ملفاً كاملاً بناء على دراسات ميدانية حول كل من واجه مشاكل ذات طابع عنصري، وسنعرضه على وزارة العدل لبحث سبل تغيير الألقاب".
ويختم روين حديثه بالقول: "نحن نحاول أن نصنع غداً أفضل للأجيال القادمة، فلا يجب أن يعيش أبناؤنا وأبناء أبنائنا نفس المشاكل التي عشناها نحن، وعاشها آباؤنا وآباء آبائنا".