مركز الكون.. مليارات من الفضاءات المطاطية تبطل مركزية الإنسان

اضيف الخبر في يوم الأحد ٠٤ - ديسمبر - ٢٠٢٢ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: الجزيرة


مركز الكون.. مليارات من الفضاءات المطاطية تبطل مركزية الإنسان

في عام 1543 أقدم الراهب والرياضي والفيلسوف والفلكي البولندي “نيكولاس كوبرنيكوس” على خطوة ستغير علم الفلك تماما.

قبل هذا الرجل بنى الناس فكرتهم عن هذا الكون على قاعدة بسيطة عمرها أكثر من ألف سنة، تقول إننا -نحن البشر على الأرض- نقع بالضبط في مركز الكون، وكل شيء بالأعلى من شمس وقمر ونجوم وكواكب يدور حولنا، لكن “كوبرنيكوس” كان يرى أن كل ذلك ما هو إلا تمظهر لنموذج أكثر تعقيدا، تكون الشمس فيه في المركز، بينما تدور الكواكب حولها.


حاليا نتعلم هذا النموذج في المدارس الابتدائية أطفالا، ونصدقه لأنه بالفعل حقيقة علمية، لكن في أيام “كوبرنيكوس” لم يتقبل أحد الفكرة بسهولة، في أحد جوانبه كان ذلك بسبب أن هذا النموذج يفقدنا شعورنا كبشر بأننا مركز الكون.

“منطقة أخرى في هذا الكون”.. ما وراء المجرة
لم يقف الأمر عند الحد الذي وصل إليه “كوبرنيكوس”، إذ لم تمر أربعة عقود حتى جاء فلكي إيطالي يدعى “جوردانو برونو” وقال إن الشمس ليست فريدة من نوعها، بل هي إحدى النجوم في السماء، مثل تلك التي نراها بالليل. وبعد ذلك بمئات الأعوام، وحينما رفع الفلكيون تلسكوباتهم الضخمة إلى السماء، تبيّن أن الأمر أكبر بكثير مما ظن البشر قبل “كوبرنيكوس”، فهناك ألوف بل ملايين من النجوم في الكون الواسع.


لطالما اعتقد القدماء بمركزية الأرض للكون فرسموها في وسط السماء وأداروا حولها بقية الكواكب والنجوم
لكن الحكاية لا تقف هنا، فقد تطلب الأمر قفزة زمنية طويلة بعض الشيء، وصولا إلى العشرينيات من القرن الفائت حينما جاء “إدوين هابل”، وهو مدرب كرة سلة ومحامٍ قرر ترك كل ذلك ومتابعة شغفه بعلم الفلك، ليدرس نوعا خاصا من النجوم يسمى المتغيرات القيفاوية من وراء تلسكوب مرصد جبل ويلسون بكاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية، ليكتشف أن كل ما نراه من نجوم في السماء -بأعيننا أو بالتلسكوبات- يقع داخل جزيرة كونية واحدة فقط هي مجرتنا، وأن هذا الكون أوسع بكثير جدا مما نظن، إذ يحتوي على مئات المليارات من المجرات الأخرى، كلٌ منها تحتوي على مئات المليارات من النجوم مثل الشمس.

مرة أخرى، يبتعد البشر أكثر عن شعورهم بالمركزية، فنحن “منطقة أخرى في هذا الكون” فقط، بحسب ما يسميه العلماء بالمبدأ الكوني (Cosmological Principle)، الذي يفترض أن النجوم والمجرات موزعة توزيعا متساويا في جميع أنحاء الكون بشكل متجانس، أي لا تتميز منطقة فيه عن الأخرى. ويمكن أن نعيد صياغة هذا المبدأ بصورة أخرى تقول: إذا نظرنا إلى الكون على نطاق واسع بما فيه الكفاية، فإن خصائص الكون هي نفسها بالنسبة لجميع المراقبين.

حسنا، هذا التعريف الأخير قد يبدو معقدا بعض الشيء، لكن لفهمه بدرجة مناسبة من العمق نحتاج أن نرجع إلى “هابل”، فقد كان له اكتشاف ثانٍ أهم من الأول.

أسرار تسارع المجرات البعيدة.. فضاء من المطاط
لاحظ “إدوين هابل” في أثناء دراسته للمجرات البعيدة أن هناك شيئا غريبا حقا يحدث، فقد بدا له أنه كلما كانت المجرات أبعد، كانت أسرع.

يشبه ذلك أن تكون على أحد الطرق بسيارتك، ثم تلاحظ أن السيارة التي أمامك تسير مثلا بسرعة 70 كيلومترا في الساعة، لكن الغريب أن السيارة التي أمامها تسير أسرع منها (بسرعة 90 كيلومترا في الساعة مثلا)، والتي تليها للأمام أسرع من السابقة (110 كيلومترا في الساعة مثلا)، وهكذا كلما نظرت إلى سيارة أبعد تجد أنها أسرع، حتى أنه أمكن لك تقدير سرعة السيارة السابعة في الترتيب بـ200 كيلومتر في الساعة مثلا، وهذا غير ممكن على طرق كهذه أصلا.


منذ الانفجار العظيم قبل 13.8 مليار سنة، ما زال الكون يتمدد وتتباعد مكوناته بتسارع ثابت
قدر الدهشة الذي أصابك في هذا المثال الافتراضي هو نفسه قدر الدهشة الذي أصاب “هابل”، حتى وصل إلى فكرته العبقرية التي تقول إن ما يحدث لا علاقة له بالمجرات ولكن بالفضاء نفسه، فالفضاء بين المجرات هو الذي يتمدد، وكأنه نوع ما من المطّاط، في مثال السيارات السابقة ستقول لنفسك: ماذا لو أن الأمر لا يتعلق بالسيارات ولكن بالرصيف فيما بينها؟ ماذا لو أن الرصيف بين السيارات هو ما يزيد طوله لسبب خيالي ما؟

أتلاحظ إلى أي حد يمكن أن تكون هذه الفكرة غريبة؟

تمدد الكون.. فضاء جديد يتولد بين المجرات
لفهم فكرة تمدد الكون دعنا نهدأ قليلا ونتخيل أن هناك مجموعة من خمس مجرات في خط واحد، والمسافة بين كل منها مليون سنة ضوئية (السنة الضوئية هي وحدة مسافة تساوي حوالي 9.5 تريليون كيلومتر). والآن، لنفترض جدلا أنه في مدة زمنية محددة، لتكن سنة واحدة مثلا، سيتمدد الفضاء بين كل مجرة وصاحبتها، فيجعل المسافة بينهما هي الضعف، يعني ذلك أن المسافة بين المجرة الأولى والثانية ستصبح مليونَي سنة ضوئية، وبين الثانية والثالثة ستصبح أيضا مليونَي سنة ضوئية، وهكذا بين الثالثة والرابعة، وهكذا.

لكن ماذا لو كنا نسكن في المجرة الأولى وحاولنا تقدير سرعة المجرات الأخرى؟ بالنسبة للمجرة التي تلينا، فقد زادت المسافة بيننا وبينها في سنة بمقدار مليون سنة ضوئية، أما تلك التي تليها فقد زادت المسافة بيننا وبينها بمقدار مليوني سنة ضوئية، والتي تليها زادت المسافة بيننا وبينها بمقدار 3 ملايين سنة ضوئية.. وهكذا، ستبدو لنا المجرات كأنها كلما ابتعدت أصبحت أسرع، لكن المجرات في الحقيقة لا تفعل ذلك، ما يحدث هو أن الفضاء بين تلك المجرات يتمدد، وكل مجرة في الكون تبتعد عن كل مجرة أخرى.


يمكن تخيل توسع الكون بمجرات مرسومة على سطح بالون يتم نفخه فتتباعد المجرات عن بعضها


إن أفضل تشبيه لتمدد الكون هو ذلك المثال الذي ضربه الفيزيائي “أرثر إيدنغتون” في كتابه “الكون المتمدد” عام 1933، وهو تجربة عملية يمكن أن تنفذها في المنزل. أحضر بالونا عاديا، ثم حدد عليه بقلم أسود مجموعة من النقاط المتقاربة، بعد ذلك قم بنفخ البالون، هنا ستلاحظ أنه مع ازدياد حجم البالون تتباعد النقاط، وهي بالطبع لا تجري على سطح البالون، لكن البالون نفسه هو ما يتمدد، وتلك بالضبط هي فكرة تمدد الكون، فالمجرات لا تبتعد عن المجرات الأخرى لأنها تجري، لكن لأن هناك فضاء جديدا ينشأ بين كل منها.

الانفجار العظيم.. نقطة الصفر الذي انبثق منها الكون
أثارت فكرة تمدد الكون الانتباه لفكرة أخرى، وهي أنه طالما أن الكون يتمدد متوسعا، فماذا لو أعدنا عقارب الساعة للخلف؟ يعني ذلك أن الكون في كل دقيقة كان منكمشا عن التي تلتها، وهكذا إذا استمررنا بالعودة للخلف سنصل إلى لحظة كان الكون كله فيها نقطة واحدة، ثم بدأت بالتوسع.

هذا اختزال مخل بالطبع لكنه يفي بالمعنى، وهو ما يتفق عليه علماء الفيزياء حاليا؛ أن كل هذا الكون بدأ بما نعرفه الآن باسم الانفجار العظيم (Big Bang)، ثم أخذ في التمدد حتى وصل إلى ما هو عليه الآن بعد حوالي 13.8 مليار سنة. لكن ما سبق يعيدنا إلى سؤالنا المركزي عن مركز الكون، ألا يعني ما سبق أن هناك مركزا للكون هو نفسه مركز هذا الانفجار؟!

اسمه انفجار، لكنه خلّف كونا شديد الاتساق والانتظام فيه من المجرات والنجوم ما يحافظ على بقائه لمليارات السنين
حسنا، في تلك النقطة أحتاج منك أن تتخلى قليلا عن حسك البديهي، فـلفظة “الانفجار العظيم” ليست دقيقة على أي حال، فحينما نسمعها أو نقرأها نتصور أنه انفجار يشبه ذلك الذي نراه في الأفلام، قنبلة تقع في مركز الكتلة المنطلقة في كل الاتجاهات. وحينما نتحدث عن الانفجار العظيم فنحن نتحدث عن انبثاق للمكان الذي نعرفه بأبعاده الثلاثة والزمن الذي نعرفه، فالانفجار العظيم لم يحدث داخل الكون، الانفجار العظيم هو الكون نفسه وقد نشأ.

نملة الجريدة.. أبعاد لا تصل إليها قدرات إدراكنا
الآن دعنا نبتعد قليلا عن حكايتنا المركزية، ونفهم ما تعنيه الأبعاد. سنفترض الآن أن هناك نملة (ذكَرا) من فئة الجنود، يدعى “حسن”، وظيفته بسيطة، وهي أنه يعيش طوال عمره على صفحة جريدة، وظيفته أن ينطلق من عنوان الجريدة وحتى آخر سطر، ثم يلتف ليعود من جديد للعنوان، وهكذا كل يوم. لكن هناك ملاحظة، فحسن لسبب ما لا يمكن أن يرى أي شيء بالأعلى وبالأسفل، فقط يرى العالم على أنه بُعدان يمثلان سطح الجريدة.

بالنسبة لك -وأنت شخص أوتي قدرة إدراك العالم بشكل ثلاثي البعد- يمكن أن تمسك بالجريدة وتحنيها لتصنع أسطوانة تتلاقى أطرافها، إلا أنه بالنسبة لحسن لن يدرك ذلك، لأنه كائن يعيش في بعدين فقط، فحينما تنحني صفحة الجريدة فإن حسن لن يشعر بذلك، لكنه في المرة القادمة حينما يصل إلى آخر سطر سيكتشف شيئا جديدا، أنه يتمكن من الخطو للأمام خطوة واحدة فقط فيصل للعنوان في الجهة الأخرى. بالنسبة لحسن فإن ذلك قد حدث بشكل سحري تماما، وكأن إعجازا ما قد حصل، فالمسافة التي يقطعها كل يوم في 20 دقيقة انقطعت في لا شيء تقريبا.

افترض آينشتاين أننا نعيش في كون رباعي الأبعاد يكون الزمن فيه بعدا رابعا يغمرنا جميعا
سيفكر حسن كثيرا في هذه المعجزة، أما أنت -أيها الكائن الذي يعيش في عالم ثلاثي البعد- فهذا شيء طبيعي جدا لديك، لقد قمت بلف الجريدة، الأمر نفسه يمكن أن ينطبق علينا، فنحن أيضا مثل حسن كائنات محدودة بأبعادنا الثلاثة، لا يمكن أن ندرك ما فوق ذلك من أبعاد، فحينما نقول إن الانفجار العظيم يمثل نشأة الكون كاملا بأبعاده المكانية الثلاثة والزمن معهم، فإن أول سؤال سيكون: وفيمَ يتمدد هذا الكون، أو من أين نشأ من الأساس؟

الإجابة عن هذا السؤال أنه سؤال خاطئ من الأساس، لأن “فيمَ” و”أين” تعبران عن مكان، ونحن هنا نتحدث عن ما هو متجاوز للمكان ولا يمكن أن ندركه، كذلك فإن استخدامنا لألفاظ مثل “آخر الكون” و”حدود الكون” و”نهاية الكون”، هي فقط ألاعيب لغوية لا تمثل حقيقة الأمر، نحن في النهاية مثل النملة حسن، لا نتمكن من إدراك ما يقع في بعد أعلى.

بالون حسن.. الكون المسطح لا مركز له
يعيدنا ذلك مرة أخرى إلى فكرة متعلّقة وهي “مركز الكون”، فعندما نضرب مثال البالون المنتفخ تشبيها لتمدد الكون، فإنك عادة ما تضع في حسبانك مركز البالون نفسه، إلا أن ذلك خاطئ، لأن التشبيه يقصد أن الكون كله هو سطح البالون فقط ثنائي البعد. فلو كان حسن نملة تعيش على بالون كروي الشكل تماما، ينتفخ مع الزمن، وسألناه: أين مركز البالون؟ سيجيب “أنا”، وهو على حق، فكل نقطة على سطح الكرة -أي كرة- يمكن أن تكون مركزها، لأن سطح الكون لا مركز له.

الكون كذلك لا مركز له، وكل نقطة فيه يمكن أن تكون المركز، مع فارق واحد هو أن سطح الكرة ثنائي البعد، أما الكون فثلاثي الأبعاد، وهو لا يشبه الكرة -بحد علم الفيزيائيين إلى الآن- إلا بكونه مسطّحا.

نعيش في كون ثلاثي الأبعاد لكن على سطح ذي بعدين فقط، وكل نقطة عليه تعتبر نفسها المركز

وهنا يمكن أن تسأل: كيف يمكن أن يحدث ذلك، كيف يكون الكون مسطحا وممتدا ولا مركز له؟ بالنسبة لك فإن ذلك شيء محير وغير بديهي إطلاقا، لكنك مثل حسن، لا يمكن أن تفهم أشياء أبعد من قدراتك على الإدراك، بحكم تمددها في أبعاد أعلى.

أثر الانفجار العظيم.. بقايا الخلية الأم في تريليونات الخلايا
تخيل نفسك واقفا فوق بيتك تمتلك قدرات تلسكوب الفضاء “بلانك”، -وهو مرصد فضائي تابع للوكالة الأوروبية لأبحاث الفضاء- ونظرت إلى أي مكان في السماء، أي مكان، حتى لو طرت فوق القطب الشمالي أو الجنوبي أو وقفت على خط الاستواء ونظرت للسماء، فإنك سترى أثر الانفجار العظيم من كل مكان.

ما يرصده تلسكوب الفضاء “بلانك” يسمى “إشعاع الخلفية الكونية” (Cosmic Microwave Background CMB)، وهو عبارة عن أشعة كهرومغناطيسية توجد في جميع أركان الكون بنفس الشدة والتوزيع، تمثل أول الفوتونات التي أفلتت بعد الانفجار العظيم بعد 380 ألف سنة فقط، إنها بقايا الانفجار العظيم الأولى.

خريطة إشعاع الخلفية الميكروية التي رسمها تلسكوب الفضاء بلانك حيث تتوزع المادة في الكون توزيعا منتظما
هذا يعني أنه إذا أردنا رسم الكون بصدق، فسنكون نحن في المركز، والانفجار العظيم هو حواف الكرة التي تحيط بنا، لأننا نرى بقايا الانفجار العظيم في كل مكان ننظر إليه. فقط تخيل أن الكون هو جسمك الذي بدأ بخلية واحدة فقط أنتجت من اتحاد حيوان منوي مع بويضة، هذه الخلية انقسمت ثم تمايزت حتى وصلت إلى حوالي 37 تريليون خلية، حينما نسأل عن الخلية الأولى، فإن لها أثرا في كل الخلايا، وحينما نسأل عن الانفجار العظيم، فإننا نرصد أثره من كل مكان في الكون.

لكن ذلك لا يعني أننا في مركز الكون، لأن كائنا عاقلا ما في مجرة السيجار على مسافة 10 ملايين من السنوات الضوئية، أو آخر في عنقود مجرات العذراء المجرّي على مسافة 65 مليون سنة ضوئية، أو حتى ثالثا في أحد مجرات عنقود التنين على مسافة 40 مليون سنة ضوئية؛ كل منهم سيرسم نفس الخريطة، وسيرى نفسه في مركز الكون، وكلٌ منهم سيرى المجرات الأخرى كلها وهي تبتعد عنه بنفس الطريقة التي نرى بها المجرات تبتعد عنا. لكن الكون في النهاية بلا مركز.
اجمالي القراءات 1612
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق


فيديو مختار