حاولتُ الانتحار، لا أنكر"... أحلام لبنانيين ولبنانيات تحطّمت على عتبة الانهيار الاقتصادي

اضيف الخبر في يوم الأربعاء ٠٦ - يوليو - ٢٠٢٢ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: رصيف 22


حاولتُ الانتحار، لا أنكر"... أحلام لبنانيين ولبنانيات تحطّمت على عتبة الانهيار الاقتصادي

كاظم، وفاطمة، وفاتن، وماهر؛ أربعة أفراد من بين آلاف اللبنانيين الذين خسروا مشاريعهم الصغيرة التي كانت عامرةً بأحلام بمستقبل باهر، وقُضي على مصادر أرزاقهم، بسبب الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعصف بالبلاد منذ نهاية عام 2019، والتي أدت إلى إغلاق الكثير من المؤسسات، وإلى ارتفاع نسبة البطالة وازدياد الفقر.

ما جرى معهم ومع كثيرين غيرهم، نتيجة حتمية للأزمات الاقتصادية، فـ"خلال الأزمات تقفل المؤسسات الأقل قدرةً على المنافسة"، يقول الخبير الاقتصادي الدكتور محمود جباعي، لرصيف22، مضيفاً أن الأزمات المتتالية التي ضربت لبنان "أثّرت بشكل كبير على القطاعات كلها"، كما أن رفع الدعم تدريجياً عن المحروقات أدى إلى ارتفاع التكلفة على أصحاب المصالح، وعلى رأسها تكلفة الطاقة وتكلفة الاشتراك في مولدات كهربائية خاصة، في بلد لم تعد توفر فيه مؤسسة كهرباء لبنان الطاقة سوى ساعات قليلة يومياً.

تأثر أصحاب المصالح الصغيرة والمهن الحرة بتتابع الأزمات، في ظل أزمة اقتصادية تتصاعد يوماً بعد يوم، وما نتج عن تفشي وباء كوفيد19. كثيرون اضطروا إلى إقفال مؤسساتهم، ما أدى إلى تدهور حالتهم النفسية، وهناك مَن وصل به الحال إلى التفكير في الانتحار.

يأس ومحاولة انتحار
عمل ماهر صالح (30 عاماً)، في تجارة الألبسة وتصميم الأزياء لمدة 12 عاماً. بدأت مسيرته عندما اكتشف موهبته في التصميم والتنسيق خلال عمله في معمل خياطة، فقرر هو وشقيقته افتتاح محل لبيع الألبسة الجاهزة في حارة حريك في ضاحية بيروت الجنوبية. كانت تجربة السفرة الأولى إلى تركيا، لشراء البضائع، صعبةً، كما يقول، إلا أنها استطاعت مدّه بالطاقة والخبرة في سنواته اللاحقة.

يروي ماهر لرصيف22، أن المحل حمل اسم "إيفا بوتيك"، نسبةً إلى اسم شقيقته وشريكته، وأنه "حقق أرباحاً عاليةً بعد افتتاحه عام 2011، وأصبح محل اهتمام زبائن كثر بسبب غرابة الملبوسات وألوانها المتنوعة وتوفر القياسات المطلوبة".

ويضيف: "عام 2014، افتتحنا فرعاً آخر في متجرٍ كبير. ومن خلال هذين الفرعين، استطعنا شراء سيارتين وتعبئة المحلين ببضائع فاقت قيمتها عشرات آلاف الدولارات".

خلال مواسم الأعياد، يتابع، "كانت البضائع تنفد في غضون ثلاثة أيام، فنعاود السفر إلى تركيا من أجل شراء بضائع جديدة... كانت أيام بحبوحة ورخاء مادي كبير وكانت حصاد خبرة سنوات في مجال الأزياء".

اختلفَت الأمور دراماتيكياً مع بداية الأزمة الاقتصادية. "لم أشعر بأن الوضع سيئ إلى هذه الدرجة، فلم أغلق أبواب محلي، إلا أنه مع مرور الأسابيع وبداية ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر، حين انقلب حال الشارع واختفى الزبائن، ومحالّي التي لطالما غصت بالزبائن تحولت إلى محالّ مهجورة خالية من الناس، وفي بعض الأيام كان لا يدخل أحد إلى متجري".

قبل ثورة تشرين الأول/ أكتوبر، كانت المؤشرات على مشكلة ضخمة في القطاع المصرفي قد بدأت تظهر، مع تلكؤ بعض المصارف في تسليم الدولارات إلى بعض مودعيها، تحت حجج مختلفة، ولكن بعد الثورة وقرار إقفال المصارف لأسبوعين ظهرت الأزمة بشكل فجّ، وما كان حالات فرديةً بين المودعين والمصارف صار حالةً عامةً: لم يعد الناس قادرين على الوصول إلى ودائعهم وبدأت بفرض قيود على عمليات السحب النقدي وعلى التحويلات المالية إلى الخارج، ثم بدأت مسيرة انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية.

يقول ماهر: "لم أستطع فهم ما يحصل، وكيف انقلبت الأمور فجأةً. ماذا جرى؟ أسئلة كثيرة جالت في ذهني ولم أجد لها أي جواب". هكذا، قرر الشقيقان "إقفال الفرع الأول من لمحلّينا، والإبقاء على الآخر، وقمنا بتصفية البضائع وعرضها بأسعار زهيدة، وحاولنا إعادة إحياء الروح في المحل المتبقي عن طريق تغيير الواجهات وتزويد المحل ببضائع جديدة، إلا أن هذه الخطوات كلها لم تجدِ نفعاً".

محاولة ثانية للاستمرار قام بها الشقيقان. صرفا العمال وبدآ بالتناوب على العمل في المحل، وحاولا إغراء الزبائن عن طريق التخفيضات الدائمة، لكن الأمور لم تتحسن، و"ازدادت المشكلات والضغوط المادية".وفي محاولة أخيرة، وبهدف تخفيض النفقات، يقول ماهر، "قررنا الاتجاه نحو إقفال المحل ودمج بضائعنا مع بضائع تاجر ثياب آخر في محل واحد من طابقين، وكان أملنا الاستفادة من زبائننا وزبائن التاجر الأول، لكن حتى مع هذا الحل لم يحالفنا الحظ إذ بدأت الديون تتراكم علينا وارتفعت كلفة الإيجار حتى بتنا عاجزين عن دفعها واضطررنا إلى الاستدانة من معارفنا ومن بعض كبار التجار".

هنا تبيّن للشقيقين أن لا مجال للاستمرار. "تبيّن من الحسابات أن الحل الأنسب قبل أن نعلن إفلاسنا هو فض الشراكة وبيع بضائعنا حتى نفي بديوننا، فأموالنا علقت في المصارف وكنّا نستدين من كبار التجار ومن معارفنا ويساعدنا أخي المغترب، وازداد الوضع سوءاً وصرنا نتلقى اتصالات يوميةً لدفع ديوننا حتى شعرنا بأننا في مأزق من الممكن أن يودي بنا إلى السجن".

يروي الشاب: "لشدة سوء الأمور، اتصلنا بزبائننا الذين اعتادوا زيارة محالّنا، وأخبرناهم بأننا نقوم بتخفيضات وصلت إلى 80%، وبعنا البضائع بخسارة، والجزء الذي لم يُبَع بعناه لتجار آخرين. وتخلينا عن الديكور الذي كلّفنا آلاف الدولارات مقابل مبالغ صغيرة، وأخيراً بعنا سياراتنا".

"أذكر جيداً أنني في أحد الأيام عدت إلى منزلي مشياً على الأقدام للمرة الأولى منذ سنوات طويلة"، يروي ويضيف: "عددت الموضوع عادياً، ويحصل مع كل إنسان، لكن الأيام مرّت وضاق الحال بي أكثر حتى وصلت إلى أوقات لا أملك فيها ثمن وجبة طعام، فتملك منّي ألم نفسي لأشهر متواصلة، جعلني أخسر أصدقائي وأنفصل عن حبيبتي".

"نظرتُ حولي وإذ بالكون يضيق بي. كيف حصل ذلك كله معي؟ لماذا أنا؟ لما تغيّرت أحوالي؟... قضت الأزمة الاقتصادية على حياتي المهنية وأرجعتني إلى نقطة الصفر"
عانى الشاب من اكتئاب، و"في يوم حالك، توجهت إلى قمة جبل في منطقة لطالما كنت أتردد إليها برفقة أصدقائي لتأمل الطبيعة، ولكني هذه المرة كنت وحيداً. نظرت حولي وإذ بالكون يضيق بي. كيف حصل ذلك كله معي؟ لماذا أنا؟ لماذا تغيّرت أحوالي؟".

يتابع: "كنت حزيناً جداً من وضعي المادي الذي انعكس على حياتي الاجتماعية. لم أستطع تقبّل أن حياتي المهنية التي امتدت لأكثر من 12 سنةً في التجارة انتهت بالإفلاس، فقررت أن أرتاح من هذا التعب الذي يرافقني يومياً وأنهي حياتي علّني أجد قسطاً من الراحة. حاولتُ الانتحار، لا أنكر. لكن وأنا أمشي نحو الموت، ارتابني خوف كبير، فتراجعت. وبكيت كثيراً. أنا الرجل الذي يلومني المجتمع ويحاسبني على دموعي ويعدّها عاراً. نعم بكيت كثيراً. وفي اليوم التالي توجهت إلى معالجة نفسية للتخلص من الاكتئاب، وبعد فترة رحت أبحث عن فرصة عمل جديدة".

بدأت رحلة ماهر في البحث عن فرصة عمل جديدة في بداية عام 2022، "ولم يكن لدي أي مانع في أي نوع عمل طالما أستطيع أن أؤمن وجبات طعامي. بدأت العمل في شركة للألبسة ولم ألبث فيها طويلاً، فبعد أقل من ثلاثة أشهر قدّمت استقالتي لأسباب كثيرة منها عدم ارتياحي، فبعد أن اعتدت على أن أكون مدير محل لم أستطع التكيّف مع تحوّلي إلى موظف، كما أن حالتي النفسية بشكل عام لم تكن مستقرةً. ومنذ ذلك الوقت وأنا ألتزم منزلي، ثم بدأت بخياطة بعض التصاميم من منزلي لزبائن محددين".

يعلّق ماهر: "قضت الأزمة الاقتصادية على حياتي المهنية، وأرجعتني إلى نقطة الصفر، ولكنّي اليوم بعد كل المعاناة التي رافقتني، لن أيأس وسأحاول البدء من جديد فور توفر بعض المال في جيبي".

وفي مسح أجرته إدارة الإحصاء المركزية في لبنان، بالتعاون مع المكتب الإقليمي للدول العربية التابع لمنظمة العمل الدولية، حول وضع القوى العاملة في لبنان، في كانون الثاني/ يناير 2022، تبيّن أن معدل البطالة ارتفع من 11.4% في فترة 2018-2019، إلى 29.6% في كانون الثاني/ يناير 2022، ما يعني أن نحو ثلث القوى العاملة الناشطة صارت عاطلةً عن العمل.

وأظهر المسح أن نسبة البطالة بين النساء أعلى مما هي عليه بين الرجال، إذ بلغ معدل بطالة النساء 32.7%، مقارنةً بـ28.4% عند الرجال، في حين بلغ معدل البطالة بين الشباب 47.8%، أي ضعف المعدل عند البالغين (25.6%).

وأشار المسح إلى أن العمالة غير المنظمة، أي التي لا تغطيها بشكل كافٍ الترتيبات الرسمية ونظم الحماية، صارت حالياً تمثل أكثر من 60% من مجموع العمالة في لبنان.

ضحايا السقوط الاقتصادي الحر
كاظم سبليني (23 عاماً)، شاب من إحدى قرى الجنوب اللبناني، انضمّ إلى صفوف الجيش اللبناني عام 2018، بهدف تأمين معيشة كريمة له ولزوجته المستقبلية، بالإضافة إلى ادّخار بعض المال للتمكن من فتح مشروع مطعم للوجبات السريعة يحلم به.

مرّ عام ونصف عام تقريباً على شغله وظيفته، قبل أن تبدأ الأزمة الاقتصادية بالاستفحال وتنهار قيمة الليرة اللبنانية، ومعها قيمة معاشات موظفي الدولة، ما جعل استمراره في الخدمة في السلك العسكري عائقاً أمام تحقيق ما يطمح إليه، فبدأ بالامتناع عن الحضور إلى الخدمة، والتزم منزله حتى عام 2021، حين حصل على قرار تسريحه رسمياً.

كان ذلك النقطة المفصلية في مشروعه لبدء العمل على افتتاح المطعم. تلقّى الدعم من خطيبته التي باعت قطع ذهب كانت في حوزتها، وأضاف هو ما يملك من رأسمال، ليتمكن بمبلغ يوازي الأربعة آلاف دولار أمريكي من شراء مجموعة من المعدات الضرورية لافتتاح مطعم صغير في محلة حارة حريك، في ضاحية بيروت الجنوبية، يحضّر مأكولات مثل الهوت دوغ، الكورن دوغ، وبعض أنواع البطاطس المقلية والممزوجة بأنواع مختلفة من الأجبان.

افتُتح المطعم في حزيران/ يونيو 2021، بعد أن اتفق كاظم مع مالكه على إيجار يوازي المليون ونصف المليون ليرة لبنانية. وللترويج لمشروعه، أنشأ صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي استقطبت زبائن من مناطق مختلفة. يقول كاظم لرصيف22، إنه "خلال مدة زمنية قصيرة تمكنتُ من كسب ثقة الزبائن وبدأ المطعم بالعمل، وكنت لا أقفل الأبواب حتى نفاد البضائع".

خلال ثمانية أشهر، حقق الشاب أرباحاً توازي 15 ألف دولار أمريكي، تركها معه بالليرة اللبنانية. لم يفكّر في أن انهيار قيمة العملة اللبنانية قد يتفاقم أكثر، فخسر الكثير مما جناه مع ملامسة سعر الدولار الـ30 ألف ليرة. وترافق ذلك مع إصرار مالك المحل على استرجاعه، أو دولرة قيمة إيجاره، ومع تفلت أسعار المواد الأولية التي يستخدمها بعد أن صارت كلها مرتبطةً بسعر الدولار في السوق الموازية.

يشرح كاظم: "عانيت من مشكلات مادية كثيرة، توزّعت بين رفع تكلفة الاشتراك في المولد الكهربائي، وارتفاع أسعار البضائع التي أحتاجها يومياً مثل العلب المصنوعة من الكرتون، والأصابع الخشبية، والمواد الأولية لإعداد الوجبات مثل اللحوم وغيرها".

"رأيت حلمي يتهاوى أمامي من دون أن أتمكن من التصرف... هذه الأزمة الاقتصادية سحقت حياتي العملية"
حاول الشاب تدارك الموضوع، إلا أن الوضع كان يزداد سوءاً. في الشهرين الأولين من عمله، كانت تكاليف المطعم الشهرية لا تتعدى الـ13 مليون ليرة لبنانية، ولكن مع بداية 2022، قفزت إلى 44 مليون ليرة، واضطر إلى الإقفال لأيام عدة في آذار/ مارس 2022، "بعد أن عجزت عن تأمين البضاعة اللازمة من شركات الأطعمة التي امتَنَعَت عن التسليم بسبب عدم استقرار سعر صرف الدولار الأمريكي".

"لم أستطع أن أحمي نفسي في ظل سرعة الانهيار"، يقول. لم ييأس في المرحلة الأولى، وحاول جاهداً إعادة فتح المطعم، لكن عدد الزبائن تقلّص بصورة كبيرة مع رفعه أسعار ما يقدّمه، "فالأزمة أصابت الجميع، وبدأت أسعار الأطعمة ترتفع أكثر من دون أي سقف"، يقول. وأيضاً، باتت بعض الأطعمة غير متوفرة، "وأصبحنا نضطر إلى إيجاد بديل منها"، ما يعني أن خدماته تردّت.

هكذا وصل كاظم في النهاية إلى باب موصد: "لم يعد أمامي إلا الإقفال، لا سيما أن جميع مفاوضاتي مع مالك المحل باءت بالفشل".

كان الشاب قد بدأ للتو بتحقيق حلم يفكر فيه منذ سنوات، وتأمين حياة مستقرة يتوقع منها مستقبلاً من الأمان الاقتصادي لا بل الرفاهية، لكن كل شيء انهار خلال وقت وجيز جداً. ما كان قد حققه من ربح خسره في محاولاته لإبقاء حلمه حياً. أقفل محله نهائياً في نيسان/ أبريل 2022.

بعد هذا التحول في حياته، انفصل كاظم عن خطيبته لأسباب رفض الإفصاح عنها. يقول: "كان هذا المطعم الباب لتحقيق أهدافي، وفشل المشروع ترك في داخلي آثاراً سلبيةً، احتجت إلى أشهر عدة حتى أتخطاها".

يعيش الشاب اليوم في حالة يصفها بـ"الخيبة الكبيرة والكثير من الحزن". يقول: "في كل مرة يتواصل فيها معي زبون لطلب بعض الوجبات السريعة، وأخبره عن إقفال المطعم وأعتذر، يتجدد حزني". وما يزيد الأمر سوءاً، هو "أنني أصبحت عاطلاً عن العمل، ولم أعد قادراً على تغطية كلفة سكني في بيروت، فعدت للعيش في منزل أهلي في الجنوب".

أهداف مؤجلة
فاطمة دعيبس (25 عاماً)، واحدة من ضحايا الأزمة الاقتصادية. هي طالبة جامعية ما زالت تدرس اختصاص إدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية. كانت تترفع في سنواتها الدراسية بالتوازي مع تطويرها مشروعاً خاصاً كان يستشهلك الكثير من وقتها.

فاطمة تحب صناعة الحلويات، ومتحفّزة لإبداع أفكار جديدة في هذه الصناعة. في البداية، كانت تقدّم حلوياتها في مناسبات لرفاقها، ولاحقاً حوّلت موهبتها التي كانت تمارسها كهواية إلى عمل منتج للدخل. استفادت من اتساع مجالات التسويق عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وأنشأت صفحةً خاصةً بأنواع الحلويات التي تصنّعها منزلياً، بغرض بيعها.

تروي فاطمة لرصيف22، أن "الصور لاقت إعجاب كثيرين بدأوا يطلبون كميات من هذه الحلويات لتجربتها، وما لبث أن صار لمنتوجاتي زبائنها"، وتضيف: "فرحت بإنجازي وقررت امتهان صناعة الحلوى وبيعها، وبدأت بتوسيع نطاق عملي، بالاستعانة بالإعلانات عبر المواقع الإلكترونية".

حقق مشروع فاطمة الذي بدأ في كانون الثاني/ يناير 2019، نجاحاً، كما نجحت في توسيع نطاقه، ومع ازدياد زبائنها، بدأت ببيع قوالب الحلوى لأعياد الميلاد، "كما اشتريت كميةً كبيرةً من الصواني الخشبية المزينة خصيصاً لتقديم الشوكولا والحلويات في الأعراس".

بدأت الشابة تحقق أرباحاً. "كنت أجني مبالغ تتعدى الـ200 ألف ليرة (نحو 130 دولاراً وقتها)، في القطعة الواحدة من الصواني الخشبية المزينة"، واستمر ذلك حتى بداية الأزمة الاقتصادية فعلياً، أي في بداية عام 2020.

تدريجياً، ومع تهاوي قيمة العملة اللبنانية، تضعضع حال فاطمة. مع ارتفاع أسعار الشوكولا والزبدة والعلب الكرتونية، أي كامل مستلزمات عملها، اضطرت الشابة إلى رفع أسعار منتجاتها لتواكب ارتفاع أسعار المواد الأولية في السوق. ومع رفع الدعم عن سعر المحروقات لاحقاً، ارتفع سعر قارورة الغاز كثيراً، ما أجبرها على رفع أسعار منتجاتها أكثر، "الأمر الذي لم يلقَ استحسان الزبائن".

تقول: "حاولتُ بيع بعض الأنواع بأسعار رمزية، علّني أستطيع المحافظة على زبائني ولا أتوقف عن العمل، لكن الأمر كان مستحيلاً في ظل تواصل ارتفاع أسعار مستلزمات تحضير قوالب الحلوى لتتخطى الـ500 ألف ليرة للقالب الواحد"، علماً أن الحد الأدنى للأجور في لبنان ما زال يساوي 675 ألف ليرة لبنانية.

"في البداية، حاول أصدقائي مساندتي عبر شراء بعض قطع الحلوى الصغيرة، كلاً حسب قدرته وحاجته، فالحلوى ليست أولويةً غذائيةً"، تروي وتتابع: "لكنني توقفت عن تحضير عدد من الأصناف بسبب الغلاء الفاحش، خصوصاً في نهاية 2021، إلا أن الوضع تأزم فعلياً في بداية 2022، فتوقفت عن الإنتاج، وما لبثت أن بدأت أعتذر من زبائني وأرفض تحضير قوالب الحلوى بسبب عدم قدرتي على رفع أسعارها أكثر لتناسب الارتفاع الجنوني للأسعار في السوق".

تتحدث فاطمة عن كيف كانت تجول في مطبخها: "أتأمل العلب المخصصة لتوضيب الحلويات، ثم ألقي نظرةً على منصة صيرفة (منصة تحدد سعر صرف الدولار اليومي)، فأتأكد من أن لا مجال للاستمرار".

قررت الشابة "الانسحاب"، وفقاً لتعبيرها. ترك قرارها في نفسها "الكثير من الألم بعد أن رأيت رضا الزبائن عن عملي".

ما يجعل الأمر أصعب بالنسبة إليها هو تحطم حلمها. تقول: "جمعت الأرباح وبدأت أطمح للانتقال من العالم الافتراضي إلى افتتاح متجر لبيع حلوياتي في العالم الواقعي، وهو حلم رأيته يتهاوى أمامي من دون أن أتمكن من التصرف... هذه الأزمة الاقتصادية سحقت حياتي العملية".

فاطمة ليست الوحيدة التي تعرضت لخسارة حطّمت أحلامها ومصدر دخلها. فاتن قازان، أيضاً، خسرت متجرها لبيع الحلويات الذي افتتحته في مجمع تجاري كبير في منطقة الحازمية التابعة لقضاء بعبدا في جبل لبنان. أُجبرت فاتن على التوقف عن العمل بعد 13 سنةً في مصلحتها، بسبب عجزها عن دفع مستحقاتها المالية وتأمين كامل احتياجاتها الشهرية من مواد أولية وتكاليف إيجار. أنهت مسيرتها العملية والتزمت منزلها مع أهلها منتظرةً تغيّر الظروف لتعاود التفكير في مشروع تبدأه من الصفر، من جديد، لاحقاً.


أسباب انهيار المؤسسات الصغيرة
يشرح الدكتور جباعي، أن "الليرة اللبنانية فقدت أكثر من 90% من قيمتها، ووصل معدّل التضخم المالي إلى 240% في بداية عام 2022، فيما يتخطى المعدل العام 800% وسيصل إلى 1000%".

ويشير إلى أن "سبب إفلاس أصحاب المهن الحرة والمؤسسات الصغيرة ووصولهم إلى مرحلة الإقفال في بداية الأزمة المالية، يعود إلى أن التاجر لم يستوعب بداية الانهيار، وظنّ بأنه مرحلة مؤقتة وستنتهي، فعجز في البداية عن دولرة أسعاره فتراجع الطلب وأدى إلى الانكماش الاقتصادي".

ويلفت إلى أن "السوق احتاج إلى فترة طويلة للاعتياد على فكرة ارتفاع الدولار وانهيار الليرة. وبعد مرور ثلاث سنوات على الأزمة الاقتصادية، بدأ المواطن الاعتياد على ارتفاع الدولار الجنوني، وبدأ يستوعب فكرة أن الأسعار حُددت بالدولار".

ويرى جباعي، أن أصحاب المهن عليهم العودة وعدم الاستسلام وليحاولوا من جديد فتح مشاريعهم، لأن السوق اليوم اتجه نحو دولرة الأسعار.

فيما يرى الباحث الاقتصادي الدكتور جاسم عجاقة، أن الجوهر الأساسي للاقتصاد هو الإنتاج، والسياسة الاقتصادية قائمة على شقّين: السياسة المالية التابعة للحكومة والسياسة النقدية المتعلقة بالمصرف المركزي وهي مكملة للسياسة الأولى ومرتبطة بها.

ويشير إلى أن الدول تقوم بتحفيز الشركات وأصحاب المهن لرفع إنتاجهم، وهذا ما يفتقر إليه لبنان ويحتاجه، و"السياسة التي يجب على للدولة اللبنانية اعتمادها هي سياسة دعم المؤسسات الصغيرة، بالإضافة إلى تأمين فرص عمل وتحسين مستوى دخل الفرد"، ضارباً مثال الدول الأوروبية التي تساعد المواطنين وأصحاب المهن الحرة عن طريق إمدادهم بالقروض الميسّرة لتسيير أمورهم.

وفي لبنان، تبعاً لعجاقة، 95% من الاستثمارات هي مؤسسات صغيرة، لذا لا قدرة ماليةً لأصحابها على الصمود في وجه الانهيار، وهو ما يفسر سبب إفلاسهم. ويضيف أن أول أسباب الفقر في لبنان هو انهيار أصحاب المهن الحرة والمؤسسات الصغيرة، وهو انهيار سببه عدم وجود سياسات فعالة وسريعة تقوم على معالجة هذه المشكلات.

ويلفت إلى أن تثبيت سعر صرف الدولار مجدداً "هو بمثابة حلم حالياً"، وسيبقى تارةً يرتفع وأخرى ينخفض، لكنه يحذّر من أن "دولرة الاقتصاد ستؤدي حتماً إلى انهيار الطبقة المتوسطة وارتفاع نسبة الفقر بطريقة جنونية"، في بلد جزء كبير من طبقته المتوسطة كانت من موظفي الدولة الذين انهارت قيمة رواتبهم، ولا يستطيعون التكيّف مع غلاء السلع الفاحش في السوق.

في النتيجة، أحلام كثيرين دُمّرت بفعل الانهيار الاقتصادي، وتغيّرت حياتهم رأساً على عقب، فتحوّلوا من مستثمرين صغار يعيشون حياةً كريمةً ويحلمون بمستقبل فيه شيء من الرفاهة، إلى أشخاص قابعين تحت وطأة الفقر.
اجمالي القراءات 895
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق