ßÊÇÈ الأمـر بالـمـعــروف والـنـهـي عــن الـمـنـكــر فى الاسلام
40

في الخميس ٢٨ - مارس - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

 

الباب الخامس  :  غياب الأمر بالمعروف والنهى يعنى الاهلاك 

 الفصل الثالث   تحذيرات رب العزة لنا بالاهلاك  :  

    مقدمة

1 ـ قلنا إنّ وجود واستمرار أقلية مترفة وأغلبية فقيرة معدمة صامتة مقهورة يعنى قرية ظالمة . عندما ترفض القرية الظالمة الاصلاح وتطارد المصلحين  فالهلاك على الأبواب .تحقق هذا قبل وبعد نزول القرآن الكريم . فالقاعدة هى : ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) وسريان هذه القاعدة فى تاريخ البشر : قبل القرآن :( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا )، وبعد القرآن :( وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ). ( الاسراء :  16 ، 17 ، 58 ). ومن الطبيعى أن يكون القرآن الكريم رسالة إنذار وتحذير للبشر قبل قيام الساعة حتى لا يقعوا فى الاهلاك أو العذاب الدنيوى العام ثم العذاب الأخروى الخالد. يقول رب العزة عن القرآن كبيان للإنذار:( هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ) ( ابراهيم 52 ). العادة أن يتعامل الناس مع أى بيان حكومى بالجدية والاهتمام خصوصا إذا كان بيان تحذير وإنذار ، ولكن تعامل المسلمون مع القرآن الكريم أو هذا البيان أو هذا الانذار الالهى بأن حوّلوه الى أغنية يتغنّون بها فى مناسبات العزاء،أى بالاستهزاء ، فحقّ عليهم قوله جلّ وعلا : ( وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا ) ، وطالما إستهزءوا بالانذار الالهى فلا فائدة فى هدايتهم على الاطلاق ، يقول ربّ العزّة فى الآية التالية : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ) ( الكهف 56 : 57 ). وبالاضافة الى الاستهزاء والسخرية فالأغلبية المسلمة تتجاهل كل ما نقدمه من حقائق القرآن الكريم وتحذيراته ، وكل ما ننشره ونذيعه يتم تجاهله والتعتيم عليه ، ممّا يسارع بوتيرة الوقوع فى الهلاك القادم . ومع هذا فنحن مصممون على القيام بواجبنا لنقدّم العذر لرب العزّة  أملا فى دفع الهلاك القادم ، أو على الأقل حتى ننجو من هذا الهلاك القادم .

2 ـ والتوقف مع القرآن كرسالة الاهية تحذيرية من الاهلاك فى الدنيا وعذاب الآخرة يستحق أكثر من رسالة علمية لنيل (العالمية ) أو الدكتوراة . ونتمنى أن يقوم بها بعض أبنائنا . ونعطى لمحة سريعة هنا :  

أولا : ملاحظات عامة :

1 ـ بعض السور القرآنية نزلت أساسا فى موضوع التحذير من الاهلاك فى الدنيا ومن عذاب الآخرة مثل سور الأعراف وهود.وأيضا بعض قصار السور مثل سورة ( القمر ) التى سنعرض لها فى مقال قادم.

2 ـ خلافا لقوانين الاهلاك التى جاءت فى سورة الإسراء والتى عرضنا لها ، فقد نزلت قوانين أخرى فى موضوع الاهلاك فى ثنايا سور أخرى من الطوال والقصار ، ويدخل فى هذا القصص القرآنى الذى يتعرّض للأمم التى تعرضت للإهلاك ، وقد يأتى تعليقات قرآنية وتحذيرات طبقا لمنهج القرآن فى القصص فى التركيز على العظة ، فلم يأت القصص القرآنى للتسلية والتـاريخ ، بل لنتعظ ونتجنب الاهلاك الذى يلاحقنا إذا تحولنا الى قرية ظالمة ترفض الانذار وتضطهد المنذرين .

3 ـ من الأعجاز القرآنى أن يحلّ الدمار والاهلاك الجزئى بالمسلمين سواء بالحروب الأهلية أو بالهجوم الخارجى من الشرق ( تيمورلنك والتتار ) أو من الغرب ( الروم البيزنطيون والصليبيون فى العصور الوسطى ، ثم الاستعمار الغربى فى العصر الحديث ، وفى عصرنا الراهن مزيج متفاعل من هذا كله : استبداد ، حروب أهلية ، واسرائيل و هيمنة غربية ووهابية مدمرة ، وصراعات مذهبية ). هذا عدا الكوارث الطبيعية ، ونحن لا نستبعدها ضمن آليات الاهلاك . وسنعرض لهذا فى حينه فى موضوع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى تاريخ المسلمين .

4 ـ إختلفت طبيعة الاهلاك قبل وبعد نزول القرآن الكريم . كانت الرسالات السماوية السابقة محلية حسية وقتية مرتبطة بقوم محددين فى زمن معين ومكان معين ، فى تاريخ كل الأنبياء ، سواء من قصّ رب العزة قصّته وما لم يقصّ.  وكان الملأ المستكبر يطلب آية ، أى (معجزة ) ، فتأتى الآية لهم محلية حسية مادية وقتية متفقة مع ما يعرفون ومتفوقة عليه حتى يؤمنوا . وكانت الاية تأتى نذيرا بهلاك لهذه الأمة إذا لم تؤمن . أى كانت تأتى تخويفا : (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا)( الاسراء 59 ). ولهذا إمتنع نزول آية حسية للتحدى مع القرآن لأنه رسالة عقلية عامة فى الزمان والمكان الى قيام الساعة ، ولأن الاهلاك العام لجميع من يخاطبهم القرآن لم يعد واردا ، وإلا كان هذا يعنى دمار البشرية كلها بعد سنوات من تمام القرآن نزولا . من هنا إختلفت طبيعة الاهلاك بعد نزول القرآن ، فأصبح محليا وجزئيا ووقتيا لمن تتحقق فيهم شروط الاهلاك : أى قرية ظالمة ( أقلية مترفة تظلم وأكثرية صامتة ترضى بالظلم ) وكل الظالمين فى هذه القرية يرفضون الاصلاح ويتهمون المصلحين المنذرين بالاهلاك إن لم يتم الاصلاح . بعدهذه الملاحظات العامة نتوقف مع بعض الملاحظات الجزئية .

ثانيا :التحذير بنزول القرآن الكريم .

فى أول سورة الأعراف يقول جلّ وعلا :( كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ). هنا تشريع للنبى ولنا فى النهى عن التحرج فى تبليغ القرآن والتذكير به . مبعث التحرّج هو تلك القداسة الزائفة التى يعيش فيها المجتمع المرشح للهلاك ، حين يقدّس البشر وقبورهم ، مما يجعل المصلح بالقرآن يتحرج من مواجهة مجتمعه بالاعلان بأن هذه القبور المقدسة رجس من عمل الشيطان ، أو أن تلك الشخصيات المقدسة آثمة كافرة ، وحتى لو كانت من الأنبياء والصالحين فتقديسها رجس من عمل الشيطان . يوجب رب العزة رفع هذا الحرج وينهانا عنه ، ويأمر بأن نتبع القرآن وحده ، ولا نتبع غيره . ويؤكّد أن قليلا ما نطيع ونتذكّر . بعدها جاء مباشرة التحذير من الاهلاك إن لم نطيع ونتذكر:( وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ). ثم بعدها جاء الحديث عن يوم الحساب :(فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ).(الاعراف 2 : 9 ).أى إنّ نزول القرآن هو للتحذير من الاهلاك ومن عذاب الآخرة .

ثالثا : التحذير بالقصص القرآنى ، ويأتى التعليق على القصص بأخذ العبرة .

1 ـ فى سورة الأعراف وبعد إيراد القصص القرآنى يقول جل وعلا :( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ). أى لو آمنوا واتقوا لم يكن الاهلاك مصيرهم . ثم يتوجه الخطاب لنا بعد نزول القرآن بالتحذير والانذار فى صيغة أسئلة لا سبيل للإجابة عليها إلّا بالموافقة : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ )؟؟!!ثم بعد هذا التقريع بالأسئلة القاسية يأتى تحذير هادىء وخطير بأنه من الممكن ان يؤاخذنا الله جلّ وعلا بذنوبنا بعد أن ورثنا القوم الظالمين المهلكين وسكنّا مساكنهم ولم نتعظ بما حلّ بهم :( أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ). ثم يؤكّد رب العزّة الهدف من قص قصص تلك القرى المهلكة حتى نتعظ : (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ )( الأعراف 96 : 101 )

2 ـ ومثل سورة الأعراف كررت سورة هود نفس القصص لنفس الأنبياء والأمم المهلكة . ثمّ فى التعليق على قصصهم يقول ربّ العزّة يعظنا :( ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ) . أى من هذه القرى ما لاتزال أطلاله باقية ، ومنها ما اندرست وزالت معالمه . وفى كل الأحوال هم الذين ظلموا أنفسهم ، وفى كل الأحوال فإن أئمتهم وآلهتهم المقدسة التى كانوا يطلبون منها المدد ويستغيثون لدفع الضرر لم تغن عنهم شيئا ، ولم تنقذهم من الهلاك ،بل زادتهم ضلالا وخسارا : (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ )، وهذه هى طبيعة الاهلاك الالهى للقرى الظالمة فى كل زمان ومكان ، فهو إهلاك قاس أليم شديد: ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) . والعبرة هى ما يتبقى لنا من هذا القصص حتى ننجو من الهلاك فى الدنيا ومن العذاب يوم القيامة الذى إقترب :( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ )(هود 100 : 104 ). بعدها يضع رب العزّة لنا سبيل الاصلاح والافلات من الهلاك ، وهو الدعوة بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ينهض بها مصلحون ، لو فعل هذا مصلحون فى معظم الأمم السابقة لنجوا من الهلاك ، ولكن الأغلبية الصامتة إتبعت المترفين المجرمين ، فالله جلّ وعلا لا يمكن أن يهلك القرية الصالحة المصلحة :( فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ  ) ( هود 116 : 117 ). هنا نضع ايدينا على العلاج الذى يقى من الهلاك ، وهو موضوعنا ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ) أو ( الاصلاح ) أو تفعيل المجتمع ليتواصى بالحق والعدل فينجو .

رابعا : التحذير الضمنى بوقائع معينة فى تاريخ بنى اسرائيل ، حيث تكرّر كثيرا قصص بنى إسرائيل ومحنتهم مع فرعون ، ومواقفهم مع الأنبياء . ونقتصر منه على موضوعنا فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، والأغلبية الصامتة السلبية الساكنة الراضية بالظلم . بسبب القهر الزائد الذى تعرّض له بنو اسرائيل وهلعهم ورعبهم من فرعون فإنهم لم يؤمنوا ( لموسى ) ، أى لم يثقوا به . آمنوا (به ) رسولا ، ولكن لم يؤمنوا ( له ) أى لم يثقوا به ولم يطمئنوا له خوفا من فرعون وإسرافه فى التعذيب : (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ )(يونس 83 ). هذا الجيل الذى عاش وتنفّس الخوف والهلع رأى هلاك فرعون ورأى الآيات الالهية التى اعطاها الله جل وعلا لموسى ، بعصاه التى فجّرت اثنتاعشرة عينا ، وتمتعوا بالمنّ والسلوى ، ومع كل هذا فقد ظلوا على سلبيتهم وخوفهم الذى تمكن من قلوبهم بسبب فرعون حتى بعد هلاك فرعون ورؤيتهم لجسده الغريق تقذفه أمواج البحر ليكون لهم آية ( يونس 92 ). جاءهم الاختبار فى دخول الأرض المقدسة التى كتبها الله جلّ وعلا لهم فتقاعسوا وطلبوا أن يقوم بالمهمة عنهم موسى ورب موسى :( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ  يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلانِ مِنْ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ   قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) . كانت النتيجة هى الحكم عليهم بأربعين سنة فى التيه حتى ينقرض هذا الجيل المتهالك ، ويأتى جيل جديد يعرف المعاناة والشدائد :( قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ )( المائدة 20 : 26 ). أى هنا إهلاك ( رقيق ) لجيل ينتمى للأغلبية الصامتة الساكنة السلبية ، لأنه لا فائدة فيه . ومنه نأخذ العبرة بأن الجيل السلبى لا فائدة فيه ، حتى مع عدم وجود ظلم يقع عليهم . فأولئك كانوا يعيشون مع موسى وهارون بعد فرعون متمتعين بالعدل والخير ، ولكن إستمروا فى سلبيتهم كما كانوا فى نفس السلبية وقت فرعون . وبالتالى فإنّ وجودهم عديم الفائدة. بعدها دخل بنو اسرائيل فى عصر جديد أقاموا فيه المدن واستقروا فى دولة،فدخل بعضهم فى إختبار جديد . يقول جل وعلا يخاطب خاتم النبيين يأمره أن يسأل بنى اسرائيل فى عهده عن تلك القرية الساحلية التى إحتالت على تحريم السبت وتحريم الصيد فى هذا اليوم بأن كانت تخدع السمك بالحيلة يوم الجمعة بأن تفتح له ممرا يدخل فيه ولا يخرج منه ، لأنه كان فى يوم السبت يظهر لهم جماعات كأنه يغريهم بصيده فى ذلك اليوم الحرام . فإذا مضى يوم السبت كان فى قبضتهم يوم الأحد . هم الذين حرّموا السبت على أنفسهم فجعله الله جلّ وعلا محرما عليهم عقوبة لهم فى الاعتداء على حق الله جل وعلا فى التشريع ( النحل 114 : 118 ) ( الأنعام  146) . وفى تلك القرية الاسرائلية الساحلية نقرأ قوله جل وعلا :( وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ )( الاعراف 163 : 166). هنا نرى ثلاثة مواقف : الأول موقف الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن السّوء ، وقد نجوا : (أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ  ). الثانى موقف الذين يلومون من ينهى عن المنكر ويأمر بالمعرف على أساس أنه لا فائدة ، وهذه هى الأغلبية الصامتة اللائمون  الذين لا ينطقون إلا فى الضلال ومدح الظالم . وقد تعرضوا الى عذاب بئيس باعتبارهم شركاء للظالمين بسكوتهم عن الظلم ولومهم للمنكرين على الظلم  (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ). فالذين ظلموا هم الظالمون والساكتون عليهم .وقد أدمنوا العصيان ، لذلك لم يفلح معهم العذاب الذى نزل بهم ، فإزدادوا عتوا وفسقا وظلما ، لذا مسخهم الله جل وعلا قردة وخنازير .!!: (فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) ، واصبحوا عبرة لمن جاء بعدهم من بنى اسرائيل وغيرهم . لذا جاء التذكير بهم فى معرض العظة لأهل الكتاب :(  وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ) ( البقرة 65 : 66 )،( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ )(المائدة 59: 60 ) ،  وهو تحذير للمسلمين من أصحاب الديانات الأرضية ، وهم قد نقلوا التراث الذى كان لأسلافهم من أهل الكتاب ، أو ما يسمّى بالاسرائيليات .  وقد أصبحت أساس ديانات المسلمين الأرضية.