ßÊÇÈ الأمـر بالـمـعــروف والـنـهـي عــن الـمـنـكــر فى الاسلام
12

في الجمعة ٢٩ - مارس - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

 

الباب الثانى: التطبيق الفصل الأول : تطبيق الأمر بعمل المعروف والنهى عن عمل المنكر

  1 ـ عذاب أهل النار مؤبد خالد ، لا يريحهم الموت ، ولا مجال فيه للتخفيف، يقول جلّ وعلا :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ. ) فى هذه الأبدية فى العذاب يعلو صراخهم بطريقة لا يمكن تخيلها ، ويأتى التعبير القرآنى عن صراخهم بتعبير هائل ، يقول جل وعلا ( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا ) وفى هذا ( الاصطراخ ) يرجون ربهم إعطاءهم فرصة أخرى : ( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) ويأتيهم الجواب بأن الله جل وعلا أعطاهم فرصة العمر فى حياتهم الدنيوية ، وكانت كفيلة لمن أراد ىأن يتذكر ويتعظ ، ففى كل أمة من الناس خلا فيها نذير (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ )( فاطر 24)، والنذير كل واعظ بالحق من الرسل والأنبياء وغيرهم . وربما يكون النذير موقف شدّة يجعل الانسان يتذكر ربه ، ولا يخلو كل إنسان من مواقف شدّة وفواجع ومصائب تجعله يجأر لله جل وعلا يطلب النجدة ، فكل إنسان يأتى له نذير لعله يتذكّر . ويتذكّر ثم يلهو وينسى ويعود الى غفلته ، الى أن يفاجأ بالموت فيطلب ـ دون جدوى ـ من ملائكة الموت فرصة أخرى ليعود للحياة ليصلح من أمره : (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ )(المؤمنون 99 : 100 )(وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )( المنافقون 10 : 11 ). ثم فى النار يظل فيها خالدا مخلدا ( يصطرخ ) يطلب فرصة أخرى : ( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) ، ويأتيهم الرفض الحاسم بسؤال إستنكارى مؤلم :(أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْالنَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) ( فاطر 36 : 37 ).

الشاهد هنا هو قولهم وهم يصطرخون فى النار (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ). لم يقولوا ( ربنا أخرجنا نؤمن ) بل (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ). القضية ليست فى مجرد الايمان بل فى العمل .!.

2 ـ لا عبرة بإيمان يعجز عن دفع صاحبه للعمل الصالح والكف عن العمل السىء . فأكبر طاغية مذكور فى القرآن وهو فرعون موسى كان يؤمن بالله وأنّ لله جل وعلا ملائكة ، ولم يمنعه هذا الايمان من التندر على موسى فى مؤتمره :( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ )(الزخرف 51 : 53 )، فرعون كان يؤمن بالله جل وعلا وملائكته ومع ذلك أعلن نفسه الرب الأعلى فى مؤتمر صحفى آخر (فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى )(النازعات  23 : 26)، ( والسؤال للمستبد العربى البائس : هل قرأ قوله جل وعلا عن مصير فرعون :(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى )؟

فرعون هذا حين أدركه الغرق أعلن إيمانه فى الوقت الضائع (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ )( يونس 90 : 92 ). ( نفس السؤال للمستبد العربى البائس : هل إتّخذ من مصير فرعون آية وعبرة ؟ أم هو ضمن أكثرية الناس الذين هم عن آيات الرحمن غافلون ؟ . أولئك الغافلون سيكون لديهم متسع من الوقت ، ففى خلود أبدى سيصطرخون :( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ). ونعيد القول بأنّ القضية ليست فى مجرد الايمان بل العمل .!.عجز أيمان فرعون عن جعله يعمل عملا صالحا غير الذى كان يعمل .! 

 الكفر يحوى إيمانا ، ولكنه إيمان قليل عاجز عن إصلاح صاحبه ودفعه للإكثار من العمل الصالح والتوبة من الكبائر . يقول جل وعلا عن إيمان أولئك الكافرين القليل :(وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ )( البقرة 88)( وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155)( النساء 46 ، 155 )( وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ )( الحاقة 41)، لذا لا بد فى دخول الجنة من الايمان والعمل الصالحات ، ولذا فأهل الجنة هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

3 ـ لقد خلق الله جل وعلا النفس البشرية على أساس قابليتها للفجور والتقوى،والفجور مقدم فيها على التقوى، لهذا تحتاج النفس لجهد فى تزكيتها بالتقوى،ولو تم تركها لغرائزها فستهبط الى قاع الرذيلة : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) ( الشمس 8 : 10) . ومن السهل وبدون جهد أن تفسد النفس وأن يفسد المجتمع ويعيش الناس على غرائزهم ، ومن الصعب إصلاح الناس وتزكيتهم بالتقوى والضمير الحىّ . ومن هنا لا بد أن يتعاون الناس جميعا معا فى التواصى بالحق وبالتواصى بالصبر وفى التناهى عن المنكر وفى أن يأتمروا بالمعروف. وكل الأفراد سواء فى حاجتهم للنصح ، وقد قال جل وعلا مستنكرا من ينصح الناس ولا ينصح نفسه :( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ )( البقرة 44 )( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ )( الصّف 2 : 3 )ّ. أى إن الموضوع ليس مجرد الأمر بالمعروف بل الأمر بفعل المعروف والنهى عن فعل المنكر. ليس مجرد القول ولكن التطبيق .

4 ـ والتطبيق الجماعى للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يستلزم وعيا أجتماعيا عاما كما يستلزم حيوية حركية نشطة فى المجتمع بحيث يتفاعل المجتمع وتتكون منه كله (أمّة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فتفلح : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ) ( آل عمران 104 ). العدو الأكبر هنا هو وجود تلك الأغلبية الصامتة التى يفسد بها المجتمع لأنها البيئة المناسبة التى ينبت فيها الاستبداد ، ويتشجع فيها أى مجرم ليركب مستبدا تلك الأغلبية الخانعة الخاضعة .

وفى الاستبداد يسود الظلم والفساد ويجد أفراد المجتمع فى الانحلال الخلقى مجالا للتنفيس عن أحلامهم الموءودة و رغباتهم المكبوتة، وتدفع المرأة الثمن فيتحكّم فيها الرجل الخانع ليعوّض خضوعه للمستبد ، ويصبح الشرف مرتبطا بحجاب المرأة ونقابها وليس بالنخوة والشجاعة وقول كلمة الحق ومواجهة الظلم وحفظ العهد والوعد ونجدة الملهوف. كما يدفع الثمن المصلحون طبقا لثقافة الاستعباد السائدة والتى تجعل الأغلبية الصامتة ضحية لثقافة السماع فتصدق كل ما يقال لها فى أجهزة دعاية المستبد ، وتتقبل كل ما يتبوله فقهاء السلطة فى آذانها . وهكذا تسود فى هذا المجتمع عاهات أخلاقية واجتماعية تصبح بمرور الزمن عادات وتقاليد ‘ بل قد يقوم فقهاء الاستبداد والفساد بتسويغ وتبرير وتشريع تلك الكبائر لتصبح معالم أساس فى الدين الأرضى السائد . ومثلا ساد فى العصر العباسى الثانى تطرف الحنابلة وأكتسب مسحة دينية تحت شعار الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ثم جاء العصر المملوكى بالتصوف بشعار نقيض وهو ( عدم الاعتراض ) واكتسب هو الآخر مسحة دينية . وفى هذين العصرين ساد الشذوذ الجنسى والانحلال الخلقى تحت النقاب والحجاب واللحية والجلباب . ليس هذا بالتأكيد العرف أو المعروف الذى يجب أن نأمر به . المعروف هو القيم العليا الفطرية التى تكمن داخل كل ضمير بشرى ، ولا يختلف عليها إنسان ، من الكرم والشجاعة والرحمة و العدل والاحسان والحرية .

5 ـ ثم إن هذا التطبيق للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يستلزم التمكين،وهذا التمكين يحتاج وقفة ..