القسم الأول الفرق بين الرسول والنبي
ßÊÇÈ القرآن الكريم وكفى مصدرا للتشريع
الفصل الثاني : القرآن والنبي والرسول

في السبت ٢٧ - أبريل - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

الفصل الثاني : القرآن والنبي والرسول

القسم الأول الفرق بين الرسول والنبي
 1ـــ بين الرسول والنبي
 2 ـ ـــ بين كلام الرسول وكلام النبي ـ كلمة "قل" فى القرآن الكريم ، القرآن ذكر أقوالاً للنبي وامتدحه في بعضها وعاتبه في بعضها الآخر .

3ــ ما على الرسول إلا البلاغ:
4 ــ الرسول كان يحكم بالقرآن وحده:
5 ـ  أطيعوا الله وأطيعوا الرسول:
6 ـ واتبعوا النور الذى أنزل معه:

 

1 ـ بين الرسول والنبي
يخطئ الناس في فهم الأمر بطاعة الرسول واتباع الرسول ، وذلك لأنهم يخطئون في فهم الفارق بين مدلول النبي ومدلول الرسول..
"النبي" هو شخص محمد بن عبد الله في حياته وشئونه الخاصة وعلاقاته الإنسانية بمن حوله ، وتصرفاته البشرية.
ومن تصرفاته البشرية ما كان مستوجباً عتاب الله تعالى ، لذا كان العتاب يأتي له بوصفه النبي ، كقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ ؟!..﴾ (التحريم 1) . ويقول تعالى في موضوع أسرى بدر ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ (الأنفال 67) ، ويقول له ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ (آل عمران 161) ، وحين استغفر لبعض أقاربه قال له ربه تعالى ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ (التوبة 113) ، وعن غزوة ذات العسرة قال تعالى ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ..﴾ (التوبة 117).
وقال تعالى يأمره بالتقوى واتباع الوحى والتوكل على الله وينهاه عن طاعة المشركين ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً  وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً  وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ..﴾ (الأحزاب 1: 3). كل ذلك جاء بوصفه النبي.
وكان الحديث القرآني عن علاقة محمد عليه السلام بأزواجه أمهات المؤمنين يأتي أيضاً بوصفه النبي ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً﴾ (الأحزاب 28) ، ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً..﴾ (التحريم 3) ، وكان القرآن يخاطب أمهات المؤمنين ، فلا يقول يا نساء الرسول وإنما ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ.. يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ﴾ (الأحزاب 32، 30) ، وكان الحديث عن علاقته بالناس حوله يأتي أيضاً بوصفه النبي ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ﴾ (الأحزاب 59) ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ (الأحزاب 6) ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ... ) (الأحزاب 53) ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ... ﴾ (الأحزاب 13).

وهكذا فالنبي هو شخص محمد البشرى في سلوكياته وعلاقاته الخاصة والعامة ، لذا كان مأموراً بصفته النبي باتباع الوحى.
أما حين ينطق النبي بالقرآن فهو الرسول الذى تكون طاعته طاعة لله ﴿مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ.).(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ (النساء 80، 64) والنبي محمد بصفته البشرية أول من يطيع الوحى القرآني وأول من يطبقه على نفسه.. وهكذا ففي الوقت الذى كان فيه (النبي) مأموراً باتباع الوحى جاءت الأوامر بطاعة (الرسول) أي طاعة النبي حين ينطق بالرسالة أي القرآن ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ..﴾ (النور 54). ولم يأت مطلقاً في القرآن "أطيعوا الله وأطيعوا النبي" لأن الطاعة ليست لشخص النبي وإنما للرسالة أي للرسول. أي لكلام الله تعالى الذى نزل على النبي والذى يكون فيه شخص النبي أول من يطيع ، كما لم يأت مطلقا في القرآن عتاب له عليه السلام بوصفه الرسول.

ولكلمة النبي معنى محدد هو ذلك الرجل الذى اختاره الله من بين البشر لينبئه بالوحى ليكون رسولاً ، أما كلمة الرسول فلها في القرآن معان كثيرة هي:
• الرسول بمعنى النبي: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ﴾ (الأحزاب 40).
• الرسول بمعنى جبريل ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ  ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ  مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ  وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ  وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ ﴾ (التكوير 19: 23).
• الرسول بمعنى الملائكة: ملائكة تسجيل الأعمال ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ (الزخرف 80). ملائكة الموت ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ (الأعراف 37).
• الرسول بمعنى ذلك الذى يحمل رسالة من شخص إلى شخص آخر، كقول يوسف لرسول الملك "ارجع إلى ربك" في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ...﴾ (يوسف 50).
• الرسول بمعنى القرآن أو الرسالة ، وبهذا المعنى تتداخل معنى الرسالة مع النبي الذى ينطـق بالوحى وينطبق ذلك على كل الأوامر التي تحـث على طاعة الله ورسوله.. فكلها تدل على طاعة كلام الله الذى أنزله الله على رسوله وكان الرسول أول من نطق به وأول من ينفذه ويطيعه.
والرسول بمعنى القرآن يعنى أن رسول الله قائم بيننا حتى الآن وهو كتاب الله الذى حفظه الله إلى يوم القيامة ، نفهم هذا من قوله تعالى ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ (آل عمران 101) أي أنه طالما يتلى كتاب الله فالرسول قائم بيننا ومن يعتصم بالله وكتابه فقد هداه الله إلى الصراط المستقيم . ينطبق ذلك على كل زمان ومكان طالما ظل القرآن محفوظا ، وسيظل محفوظا وحجة على الخلق الى قيام الساعة..
وكلمة الرسول في بعض الآيات القرآنية تعنى القرآن بوضوح شديد كقوله تعالى ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾(النساء 100).فالآية تقرر حكماً عاماً مستمراً إلى قيام الساعة بعد وفاة محمد عليه السلام. فالهجرة في سبيل الله وفى سبيل رسوله - أي القرآن - قائمة ومستمرة بعد وفاة النبي محمد وبقاء القرآن أو الرسالة.
وأحياناً تعنى كلمة "الرسول" القرآن فقط وبالتحديد دون معنى آخر كقوله تعالى ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ (الفتح 9)، فكلمة "ورسوله" هنا تدل على كلام الله فقط ولا تدل مطلقاً على معنى الرسول محمد ، والدليل أن الضمير في كلمة "ورسوله" جاء مفرداً فقال تعالى ﴿وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ والضمير المفرد يعنى أن الله ورسوله أو كلامه ليسا اثنين وإنما واحد فلم يقل"وتعزروهما وتوقروهما وتسبحوهما بكرة وأصيلا" ، والتسبيح لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى وحده ، ولا فارق بين الله تعالى وكلامه ، فالله تعالى أحد في ذاته وفى صفاته ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾.
ويقول تعالى ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ﴾(التوبة 62)، ولو كان الرسول في الآية يعنى شخص النبي محمد لقال تعالى "أحق أن يرضوهما" ولكن الرسول هنا يعنى فقط كلام الله لذا جاء التعبير بالمفرد الذى يدل على الله تعالى وكلامه.
إذن فالنبي هو شخص محمد في حياته الخاصة والعامة ، أما الرسول فهو النبي حين ينطق القرآن وحين يبلغ الوحى ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ﴾ (المائدة 67)
وفى الوقت الذى يأمر الله فيه النبي باتباع الوحى فإن الله تعالى يأمرنا جميعاً وفينا النبي- بطاعة الله والرسول، أي الرسالة ، ولم يأت مطلقاً "ما على النبي إلا البلاغ"، وإنما جاء ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ ﴾ (المائدة 99) فالبلاغ مرتبط بالرسالة كما أن معنى "النبي" مرتبط ببشرية الرسول وظروفه وعصره وعلاقاته.

2ـــ بين كلام الرسول وكلام النبي
عرفنا أن مـدلـول (النبي) هو شخص محمد عليه السلام في حياته وعلاقاته الخاصة والعامة وسلوكياته البشرية ، أما الرسول فهو النبي محمد حين ينطق بالرسالة وحين يبلغ الوحى..
ومحمد (النبي) له كلام مع زوجاته وأصحابه ، وله تصرفات باعتباره قائداً ومعلماً ورئيساً لدولة ، ومحمد (الرسول) له كلام باعتباره رسولاً نزل عليه وحى الله ليبلغه للناس.. فما هو الفارق بين هذا وذلك؟.. نبدأ بمحمد الرسول وأقواله..


ـــ أقوال الرسول:

يلفت النظر تلك الكراهية الشديدة من المشركين للقرآن ومحاولتهم مع النبي أن يغير في كلام القرآن أو أن يبدله ، وكان النبي يرد على مطلبهم هذا بإعلان خوفه من عذاب الله العظيم ، اقرأ في ذلك قوله تعالى ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ  قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ (يونس 15: 16) كانوا يريدون منه أن يتحدث في الدين من خارج القرآن على أنه دين الله ، ولكنه رفض خوفاً من عذاب يوم عظيم..
ولم ييأس المشركون ، أحكموا الحصار والخداع حول النبي يداهنونه ويطمعون في أن يصلوا معه إلى حل وسط فحذره ربه ﴿فَلا تُطِعْ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ (القلم 8: 9) ولكنهم استمروا في سعيهم وكادوا أن يؤثروا على النبي ولكن عصمة الله للوحى كانت أسرع من كيدهم ، وتعبير القرآن في وصف ما حدث أقوى مما يمكن قوله ، يقول تعالى : ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً  وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً  إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً﴾ (الإسراء 73: 75)
ونرجو من القارئ أن يتمعن في تدبر هذه الآيات ليصل إلى أي حد حاول المشركون مع النبي أن يتكلم في الدين خارج القرآن على أنه كلام الله ، وفشلوا لأن حفظ الله تعالى الوحى القرآني فوق إمكانات البشر وفوق كيد المشركين.. وفى القرآن شهادة للنبي تبرئه وتثبت أنه لم يتحدث في دين الله إلا بالقرآن كلام الله ، وأنه لم يتقول على الله شيئاً ، وهى قوله تعالى ﴿تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ  وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ  ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ  فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ (الحاقة 43: 47) فلو تقوّل النبي على الله شيئاً لم يقله رب العزة لعاقبه الله تعالى عقاباً شديداً يشهده الناس في عصر النبي ولا يستطيعون دفعه وحماية النبي منه ﴿فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ وحيث أن هذه العقوبة الهائلة لم تحدث فهي شهادة للنبي بأنه بلغ الرسالة كاملة في عصره ولم يتقوّل على الله شيئاً..
إن الدين هو لله ، فالله تعالى هو الذى ينزله وحياً ، وعلى الناس أن يخضعوا لهذا الوحى مهما تعارض مع أهوائهم ، والرسول هو الذى يتلقى هذا الوحى ويبلغه بحـذافـيـره ولا يملك أن يزيد أو ينقص منه شيئاً ، والله تعالى قال عن خاتم النبيين عليه السلام ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ..﴾ ليبرئ ساحة النبي من التحدث في دين الله من كلامه البشرى، وفى نفس الوقت أمره أن يقول كذا وكذا.. وهذا سر تكرار كلمة "قل" في القرآن الكريم.

كلمة "قل"وكلمة "قل" من أهم الكلمات القرآنية وقد وردت في القرآن 332 مرة ، وهى تعنى أن هناك أقوالاً محددة أمر الله تعالى رسوله أن يقولها للناس ، وتميز القرآن الكريم بكثرة ورود كلمة "قل" على نحو يختلف به القرآن عن التوراة والإنجيل اللذين بين أيدينا.
وقد بشرت التوراة التي بين أيدينا بخاتم النبيين الذى يأتي من بنى إسماعيل "يقيم الرب إلاهـك نبياً من وسطك من إخوتك مثلى له تسمعون.. أقيم لهم نبياً من وسط أخوتهم مثلك واجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به: سفر التثنية 18/5، 18".
والشاهد هنا أن الكتب السماوية السابقة نبأت بخاتم النبيين الذى ينزل عليه الوحى يقول له قل كذا ، ويصبح هذا جزءاً من الوحى المكتوب ، أو بتعبير التوراة "واجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به".
وباستقراء المواضع القرآنية التي جاءت فيها كلمة "قل" نضع الملاحظة السريعة الآتية:
• أكثر ورود كلمة "قل" كان في الحوار مع شتى الأنماط البشرية والدينية.
هناك حوار مع المشركين مثل ﴿قُلْ : سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ ﴾ (الروم 42)
وهناك حوار مع أهل الكتاب ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ﴾(آل عمران 64)
وهناك حوار مع المنافقين ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ: لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ﴾ (النور 53)
وهناك حوار مع المؤمنين ﴿قُلْ: تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ..﴾ (الأنعام 151)
وهناك حوار مع كل البشر ﴿قُلْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً﴾ (الأعراف 158)
• وهناك "قل" في الإجابة عن أسئلة المؤمنين للرسول (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ: الْعَفْوَ﴾ (البقرة 219)
• وهناك "قل" في تشريع الدعاء والعقائد والعبادات ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾ (الأنعام 161)
• وهناك تكرار لكلمة "قل" في الآية الواحدة ﴿قُلْ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ...﴾ (الأنعام 14)
• وتأتى "قل" لتؤكد معنى قرآنياً ورد في آيات أخرى لم تأت فيها كلمة "قل" فالله تعالى يقول ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ  إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (لقمان 33: 34)
ومضمون الآيتين السابقتين تكرار في آيتين جاءت فيهما كلمة قل ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ: إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ: إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ  قُلْ: لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ (الأعراف 187: 188)
وبالتوقف مع كل آية وردت فيها كلمة "قل" نتأكد أن القرآن كان يتابع النبي بإجابات مستفيضة ومتكررة عن كل شيء يحتاجه بحيث لم يكن لديه مجال أو متسع أو تصريح لأن يتكلم في دين الله من عنده خصوصاً وأن الله تعالى منع أن يتحدث النبي في الدين من عنده أو أن يتقول شيئاً ينسبه لله،وهذا يعنى أن أقوال الرسول وأحاديثه هي في داخل القرآن خصوصاً ما كان فيها الأمر الإلهي"قل"وفيها كل ما يحتاجه النبي والمسلمون.
وكان الرسول ينذر بالقرآن ﴿وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ ...﴾ (الأنعام 51)
وكان يذكرهم بالقرآن ﴿وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ (الأنعام 70) ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ (ق 45) وكان يبشرهم بالقرآن ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً﴾ (مريم 97) وكان يجاهدهم بالقرآن ﴿فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ﴾ (الفرقان 52)
كان عليه السلام "خلقه القرآن" وحقيق به حينئذ أن يكون على خلق عظيم ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ (القلم 4) والخُـلُــق في المفهوم القرآني هو الدين.. وهل هناك أعظم من دين الله.؟!.
وخارج نطاق الرسالة كانت للنبي أقوال وتصرفات في حدود بشريته وتعاملاته الخاصة والعامة ومسئولياته وعلاقاته.. فهل هذه الأقوال والأفعال تعتبر جزءاً من الدين.؟

أقوال النبي:محمد عليه السلام في حياته خارج الوحى كان حاكماً وقائداً عسكرياً وزوجاً وصديقاً لأصحابه وجاراً في المسكن ، وكان مثلاً أعلى في ذلك كله ، وكان فصيح اللسان وقد نجح في إبلاغ الدعوة وتكوين الأمة وإقامة الدولة ، وقد واجه في حياته مشاكل سياسية وشخصية وقد تغلب عليها ونجح في النهاية بمهارته ولباقته وكياسته، وبالطبع انعكس عليه أحياناً ضعف الإنسان في داخله أو من المحيطين به ، وأقواله وأفعاله خارج الوحى القرآني كانت تعكس ذلك..والقرآن ذكر أقوالاً للنبي وامتدحه في بعضها وعاتبه في بعضها الآخر

ونعطى أمثلة:
* في غزوة بدر خرج المسلمون بعدد قليل ليواجهوا قافلة ففوجئوا بقدم جيش ضخم يفوقهم عدداً وعدة، وكره المسلمين دخول الحرب خوفاً، والقرآن يصور ذلك الموقف فيقول ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ  يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ﴾ (الأنفال 5: 6)، وفى هذا الموقف انبرى القائد نبي الله يشجع أصحابه ، وسجل الله له هذا "القول" وذكر مقالته في هذا الشأن في معرض المدح ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ (آل عمران 124)
قال لهم النبي في ذلك الموقف: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة. إذن هذا حديث للنبي القائد في معركة بدر ذكره القرآن في معرض المدح.
* وفى غزوات ذات العسرة تثاقل المنافقون عن الخروج بينما جاء بعض فقراء المسلمين يريدون الخروج ولكن ليس معهم راحلة ولا مئونة فاعتذر لهم النبي قائلاً "لا أجد ما أحملكم عليه" ونزل القرآن يروى الحادثة ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ  وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ﴾ (التوبة 91: 92)
قال لهم النبي في ذلك الموقف: "لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ " فهذا حديث مرتبط بظروفه المكانية والزمانية شأن ما سبق في غزوة بدر.
* وفى قضية زواج زيد وتطليقه زوجته التي أصبحت زوجة للنبي عليه السلام يقول تعالى ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾ (الأحزاب 37)
أمر الله تعالى النبي أن يجعل زيداً يطلق زوجته ثم يتزوجها النبي فيما بعد لكى يقضى النبي عملياً على عادة الجاهلية في اعتبار زوجة الابن بالتبني وطليقته مثل زوجة الابن الحقيقي ، وحتى لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا.
وكان ينبغي على النبي أن "يقول" لزيد "طلق زوجتك" ولكنه تحرج وقال العكس تماماً فنزل القرآن يؤنب النبي ويحكى القول الذى قاله واستحق بسببه التأنيب من ربه ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ..﴾ إذن هنا حديث للنبي هو ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ﴾ قاله النبي لزيد بن حارثة ، وذلك الحديث أيضاً مرتبط بظروفه الزمانية والمكانية ، ولكنه حين قاله النبي لم يحالفه التوفيق فيه.

والمراد أنه كان للنبي في تحركاته وعلاقاته المتعددة أقوال وأحاديث ، وهذه الأحاديث كانت مرتبطة بظروفها الزمانية والمكانية التي قيلت فيها والتي يستحيل أن تتكرر في أي عصر لاحق بنفس الأحداث والأشخاص والظروف، لأنه تاريخ مضى وانتهى بانتهاء أبطاله وموتهم ولم يبق منه إلا العبرة والعظة.
وسيرة النبي فيها الكثير من الأحداث والأقوال المنسوبة للنبي في الفترة المكية وفى الفترة المدنية ، وهى تاريخ يجوز عليه الصدق والكذب وليس داخلاً في دين الله تعالى بأي حال. أما ما أورده القرآن من قصص يخص النبي محمد فهو القصص الحق الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والإيمان بهذا القصص يدخل في إطار الإيمان بالقرآن.

والخلاصة :
• إن أقوال (النبي) خارج الوحى القرآني والتي أوردها القرآن هي قصص للعبرة نؤمن بها ضمن إيماننا بكل حرف نزل في القرآن.
• وأقوال (النبي) خارج الوحى القرآني والتي كتبها الرواة في السيرة بعد وفاة النبي هي تاريخ فيه الحق والباطل والصحيح والزائف وليست جزءاً من الدين على الإطلاق.
• أما أقوال (الرسول) فهي الرسالة أو القرآن أو دين الله ، وقد أبلغه الرسول دون زيادة ولا نقصان ، وفيه الكفاية وفيه التفصيل وفيه البيان ، وكان (النبي) أول الناس طاعة لهذا الوحى وعملاً بما جاء فيه ، وهذه هي العظمة الانسانية الحقيقية لمحمد النبي البشر عليه السلام.

3ــ ما على الرسول إلا البلاغ:
هذه الجملة القرآنية أصبحت مثلاً يقال على اللسان، هذا مع أننا قليلاً ما نتفكر فيها فيما يخص ديننا. فالنسق القرآني هنا يأتي بأسلوب القصر والحصر الذى يحصر مهمة الرسول في إبلاغ الرسالة فحسب ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ﴾ (المائدة 99) ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ ﴾ (آل عمران 20) ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ (المائدة 92) ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ ﴾ (الشورى 48)
وتبليغ الرسالة معناه توصيلها كما هي دون زيادة أو نقص ويؤكد ذلك أن أسلوب القصر والحصر في "ما على الرسول إلا البلاغ" يؤكد أكثر من مرة أن مسئولية الرسول هي تبليغ الرسالة بحذافيرها كما هي.
والبلاغ أو توصيل القرآن للناس يغنى أن يعرف الناس ما في القرآن من تبشير وإنذار وهداية ونور:﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً : وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً ﴾ (الأحزاب 45: 46) وأوصاف الشاهد والمبشر والنذير والداعي كلها تندرج تحت مفهوم التبليغ ، والرسول إذا بلغ الرسالة أصبح شاهداً على قومه.
"وشهد على" عكس "شهد لـ" فإذا "شهدت على فلان" أي كنت خصماً له أما إذا "شهدت لفلان" فقد صرت مدافعاً عنه شفيعاً له.
والنسق القرآني يجعل من الرسول يوم القيامة "شاهداً على" قومه أي خصماً لمن عصى منهم واقرأ في ذلك الآيات الكريمات الآتية: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ ﴾ (المزمل 15) ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً﴾ (النساء 41) ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ (النحل 89)
وقد جاءت شهادة الرسول على قومه يوم القيامة في قوله تعالى ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً﴾ (الفرقان 30) فمسئوليته أن يبلغ الناس القرآن وحين هجروا القرآن وتمسكوا بكتب أخرى معه استحقوا أن يتبرأ منهم الرسول يوم القيامة.
ومن معالم هجرهم للقرآن اتهامهم له بأنه ليس مُبـِيـناً يحتاج الى كلام البشر لشرحه وتوضيحه ، وأنه فرَّطـَ في التبيين وما جاء تبيانا لكل شيء مستحق للتبيين. من هنا ستكون شهادة الرسول يوم القيامة شهادة خصومة تؤكد أن القرآن نزل تبيانا لكل شيء:{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ (النحل 89)
وبعض آيات التبليغ كانت تقصر مهمة التبليغ والإنذار على الرسول وتجعل مهمة الحساب على الله يوم القيامة ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ (الرعد 40) ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ ﴾ (الشورى 48) ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ  إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ  فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ  ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾ (الغاشية 21: 26)
وقد أدى رسول الله مهمته والقرآن معنا نقرؤه ، ولكن لا نتدبره ، وأكثرنا يهجره.. نرجو من الله تعالى لنا الهداية.

4ــ الرسول كان يحكم بالقرآن وحده:
كان النبي حاكما مسئولاً عن دولة ، وكان قائداً للأمة ، وكانوا يحتكمون إليه في أمورهم وقضاياهم ، وكان يحكم بينهم بصفته الرسول الذى ينطق بحكم الله كما هو.
والقاعدة القرآنية أن الحكم لله في أمور النزاع والاختلاف وينبغي على كل فريق أن يرضى بحكم الله.
يقول تعالى ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾ ثم يقول تعالى ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ (الشورى 7، 10)
ويقول تعالى ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ﴾ (الأنعام 114)
فالحكم إلى الله في كتابه الذى نزل مفصلاً ، والذى كان ينطق بهذا الكتاب ويبلغه للناس كان رسول الله عليه السلام ، لذا تقول آية أخرى تفصل في القول ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ (النساء 59)
وحتى لا يقول قائل أن الرسول محمد عليه السلام قد مات وترك لنا غير القرآن كلاماً نحتكم إليه فإن القرآن الكريم أوضح لنا أن الرسول كان في حكمه ينطق بالقرآن وحده ، وبعد موت النبي وغيابه عنا فإن القرآن لا يزال بيننا لمن أراد الهدى والاحتكام إليه، وهذا ما نفهمه من موقف المنافقين من الرسول عليه السلام، المنافقون كانوا يحتكمون للرسول إذا كان الحق في جانبهم ، أما إذا لم يكن الحق معهم أعرضوا عن حكم الرسول مع أنهم يدعون أنهم مسلمون ينبغي أن يدينوا بالولاء لله ورسوله ،ويفصل القرآن موقفهم هذا فيقول ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ  وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ  وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ﴾ (النور 47: 49)
ويقول تعالى ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً ﴾ (النساء 61)
وقد كانوا يصدون لأن الرسول يحكم بينهم بما أنزل الله فقط ، فقوله تعالى ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ ﴾ لا تفيد وجود مصدر آخر مع ما أنزل الله ، لأن الرسول هو الذى ينطق بما أنزل الله وهو الذى يحكم بما أنزل الله.
ويؤكد ذلك آيات سورة النور ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ﴾﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا..﴾ (النور 48، 51) فلو كان الرسول شيئاً آخر منفصلاً عن كلام الله لجاء الفعل مثنى ولقال تعالى "وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكما بينهم" ولقال "إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكما بينهم.."
ولكن لأن الله هو الحكم وحده ولأن الرسول هو الذى ينطق بكلام الله وحده جاء الفعل مفرداً يعود الضمير فيه على واحد لا إله إلا هو فقال تعالى "  ليحكم بينهم". وصدق الله العظيم ﴿وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ  وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ﴾ (النحل 51: 52)
والنبي - غير الرسول كما عرفنا - وباعتبار النبي بشراً فقد استطاع بعض المنافقين أن يخدعه ، حدث ذلك حين سرق أحدهم درعاً وشاع بين الناس أمره وأحس أهل اللص بالعار مما ارتكبه ابنهم فتآمروا بالليل على أن يضعوا الدرع المسروق في بيت شخص يهودي برئ وفى الصباح جاءوا للنبي يبرئون ساحة ابنهم المظلوم.. وانخدع النبي وصدقهم ودافع عن ابنهم ، وبذلك أصبح اللص بريئاً ، وأصبح البريء لصاً.. وهى قصة تتكرر في كل زمان ومكان ، موجزها أن ينجو المجرم صاحب النفوذ وأن يدخل البريء السجن ظلماً ، والقرآن الكريم ذكر القصة وحولها من حادثة تاريخية محددة بالزمان والمكان والأشخاص إلى قضية إنسانية عامة تتكرر في كل عصر ، وفى البداية عاتب الله تعالى النبي ووجه نظره إلى أن يحكم بالكتاب وحذره من أن يكون مدافعاً عن الخائنين ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً﴾ أي أنزل الكتاب الحق ليحكم بين الناس بما أراه الله في ذلك الكتاب ، فالاحتكام للكتاب. ولأنه نسى فقد جاء الأمر بالاستغفار ﴿وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً ﴾ ثم جاءه النهى عن الدفاع عن أولئك الخونة الذين تآمروا لتبرئة المجرم واتهام البريء ﴿وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً  يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً ﴾
ثم يقول تعالى ﴿هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً؟﴾ يعنى هل يستطيع أحد أن يدافع عنهم يوم القيامة أو أن يشفع فيهم؟ ثم جاءت الآيات التالية تضع قواعد المسئولية الفردية ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً. وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً . وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً ﴾ أي كل إنسان مسئول عن سيئاته ، وإذا استغفر غفر الله له وإلا فهو مؤاخذ بما كسبت يداه ولن يجادل عنه أحد أو يشفع فيه يوم القيامة ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴾(غافر 18)
ثم يقول تعالى للنبي ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾ (النساء 105: 113) أي حاولوا خداع النبي ولكن نزل الوحى فـفـضحهم وأعاد الأمور إلى نصابها العادل، وعلى هذا كانت أقضية الرسول تسير وفق القرآن لأنه كان يحكم بالقرآن وينطق بالقرآن ولا شيء غير القرآن.

5 ـ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول:

يقول تعالى ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (آل عمران 132) ويقول ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ (النساء 59) فهل الطاعة في الدين لواحد أو لاثنين أو لثلاثة؟ المطاع واحد هو الله في أوامره التي ينطق بها الرسول أو من يقوم بالأمر بعد موت النبي ، والقاعدة الشرعية المأخوذة من القرآن أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وقد كانت طاعة النبي - وهو في حياته - في إطار طاعة الله فقط ، نفهم هذا من قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ﴾ (الممتحنة 12)
والشاهد في الآية الكريمة هو قوله تعالى "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّفلو قال "يا أيها الرسول" لكانت طاعته مطلقة لأنها طاعة للرسالة أي كلام الله ، ولكنه لأنه تعالى خاطبه بوصفه النبي فقد جعل طاعته مقيدة بالمعروف فقال "وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ  ".
فالطاعة للرسول هي طاعة لله صاحب الوحى ، والنبي أول الناس طاعة للرسالة ، وكذلك أولو الأمر ينبغي أن يكونوا أولى الناس بطاعة الله وإلا لا طاعة لهم في معصية الخالق جل وعلا..
ويقول تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)﴿مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ (النساء 64، 80) ولذلك فإن كل نبي كان يأتي لقومه برسالة كان يخاطبهم بوصف الرسول ويطلب منهم أن يطيعوه على أساس هذه الرسالة ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ  فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ (الشعراء :{ (107 ، 108) ، (125 ، 126) ، (162 ، 163) } ولم يقل لهم "إني لكم نبي أمين..".
ومع أن القرآن حـث على الإحسان بالوالدين إلا أنه أوجب أن تكون الطاعة لله إذا حاول الوالدان إضلال الأولاد ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا ﴾ (العنكبوت 8)
إن طاعة الرسول هي طاعة القرآن الذى أنزله الله على الرسول ، ولا يزال الرسول أو القرآن بيننا.

6 ـ واتبعوا النور الذى أنزل معه:
الإيمان ليس بشخص محمد عليه السلام وإنما الإيمان بما نزل على محمد ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ..﴾ (محمد 2)
ونحن لا نتبع محمداً عليه السلام كشخص وإنما نتبع النور الذى أنزل معه أي القرآن فهذا ما جاء في كلام الله ﴿...فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ﴾ (الأعراف 157)
كان النسق اللغوي يقتضى أن يقال "فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوه.." ولكن الاتباع ليس للشخص الآدمي وإنما للوحى الإلهي.
ومحمد عليه السلام هو أول الناس تمسكاً بالوحى واتباعاً للهدى، وبهذا أمره به تعالى فقال ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ (الأنعام 106) ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ﴾ (يونس 109) ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾ (الأحزاب 2) ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾ (القيامة 18) ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا﴾ (الجاثية 18)
وأمره ربه أن يعلن أنه يتبع الوحى ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَي﴾ (الأنعام 50)﴿ قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأعراف 203)
وإذا كان النبي متبعاً للوحى فنحن أولى الناس بعده باتباع الوحى ، يقول تعالى يخاطبنا ويخاطب النبي ﴿كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ  اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ (الأعراف 2: 3)
وهذه الآيات الكريمة هي بداية سورة الأعراف، وفيها ينهى الله تعالى النبي عن التحرج من تبليغ القرآن وأن ينذر به ،وهو تعليم لنا نحن المؤمنين وذكرى :﴿كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ ، ثم جاءت لنا نحن المؤمنين أوامر محددة بالاتباع للقرآن فقط :﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) ونهى واضح محدد عن اتباع غير القرآن:﴿وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ فالقضية واضحة لا تقبل الجدل ، وهى اتباع القرآن دون غيره.
ويأتي السؤال التقليدي: إذن فأين الاتباع للنبي؟ والجواب الوحيد: إنه الاتباع للقرآن الذى يتبعه النبي ، أو هو اتباع الرسول أي الرسالة أي القرآن.
وقوله تعالى ينهانا ﴿وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ فيه إعجاز خفى ، فاتخاذ مصادر أخرى من القرآن والانحياز لمن كتبها وألفها معناه وضعهم في موضع المقارنة بالله تعالى وكتابه في نفس المستوى أو أقل قليلاً، وذلك وقوع في اتخاذ أولياء مع الله، مع أن المؤمن يكتفى بالله ولياً وبالقرآن كتاباً.
وقوله تعالى ﴿وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ﴾ يضع حقيقة إنسانية ثابتة وهى أن أكثر البشر تتبع الأهواء والضلالات:﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ (الأنعام 116)
ولكن هذه الكثرة العددية التي تتبع الظن والهوى ينبغي ألا تكون حجة على الحق القرآني.. ﴿قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ﴾(المائدة 100)
ومن عادات البشر السيئة أنهم قليلاً ما يتذكرون﴿ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾ (ص 24)