فسادالريف المصرى

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ١٦ - أكتوبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

نص السؤال
بعد قيام الثورة المصرية تدخلت الدولة فى الزراعة وتحكمت فى الفلاح فقلّ الانتاج الزراعى ، و نضب الخير ، وأصبح الريف المصرى يعتمد على المدينة .. هل توافقنى على أن الأفضل ترك الفلاح يزرع دون تدخل الدولة إلا بمجرد فرض ضرائب عادلة ؟ وبالمناسبة .. هل تعطينا فكرة عن الريف المصرى من التاريخ السابق ؟
آحمد صبحي منصور
* قبل الفتح العربى كانت مصر هى البقرة الحلوب للدولة البيزنطية ، وكانت مزرعة القمح للرومان . ولم يختلف الحال بعدها .
. بعد الفتح العربى لمصر أبقى الخليفة عمر بن الخطاب الأرض الزراعية في أيدي الفلاحين المصريين ووضع عليها الخراج المناسب حسب خصوبة الأرض وسهولة الري ونوع المحصول ومدى القرب من الأسواق . إلا أنه ساوى بين الأرض العامرة والأرض المعطلة في استحقاق الخراج عليها حتى يضطر صاحب الأرض المعطلة إلى إصلاحها والعمل فيها .. وأفتى الإمام أبو حنيفة بإعفاء الأرض من الخراج إذا تعرض المحصول للآفات أو الغرق أو أية كوارث.
. وتتابعت الولاة على مصر من أمويين وعباسيين وثارت بينهم الفتن والإضطرابات ، وقام الأقباط بثورات متتابعة ، كان معظمها فى المدن ولكن استمر الفلاح المصري في إنتاج الخير لأن الولاة وخصومهم ابتعدوا عن الفلاح بمشاكلهم وتركوه يزرع واهتموا في اغلب الأحوال بالإصلاحات العامة في الري وإقامة الجسور والكباري ، وكان من العادة أن يتم الاقتطاع من دخل الخراج للإصلاحات الزراعية ، وبذلك اكتفى الفلاح شرهم ونعم بإصلاحاتهم فأنتج وزرع وحصد .
ومن هنا لم يكن غريبا أن تعم الثورات في المدن المصرية بينما يظل الريف ينتج الخير كما اعتاد.
ونضرب لذلك أمثلة تاريخية :
. في خلافة المأمون العباسي ثار الأقباط ثورات متتابعة كان أعتاها في الصعيد حتى استطاعوا طرد الموظفين العباسيين من المدن مما اضطر الخليفة المأمون لأن يأتي مصر بنفسه في 10 محرم 217 هـ فعزل الوالي العباسي عيسى بن منصور الرافقي وعاقبه وحمله مسئولية الثورة لأنه ظلم الناس وحملهم ما لا يطيقون . وبعد أن قضى المأمون على الثورة أخذ يطوف بالقرى المصرية ، ومر بقرية اسمها طاء النمل فلم يدخلها لحقارتها فخرجت له صاحبة القرية واسمها مارية القبطية تصيح فيه أن ينزل عندها فاستجاب لها ونزل عندها بعسكره وقواده ، وكان معه أخوه المعتصم وابنه العباسي والقاضيان يحيى بن أكثم وأحمد بن داود . وقد ذكرت الروايات أصناف الطعام الذي قدمته لهم المرأة مما ابهر الخليفة ومن معه ، وعندما عزم الخليفة على الرحيل جاءته بعشر وصيفات مع كل واحدة منهن كيس من ذهب قد تم ضربه في عام واحد . أي انه أيراد عام واحد . ومازالت بالخليفة حتى رضي بأخذ المال ، وقد أخذت المرأة قطعة من الطين وقالت : يا أمير المؤمنين هذا ( وأشارت إلى الذهب ) من هذا ( وأشارت إلى قطعة الطين ) ثم من عدلك . فأخذ منها المال واقطعها عدة ضياع ومائتي فدان بغير خراج .
ومن هذه الرواية تعرف أن الثورات والفتن في المدن المصرية لم تؤثر على وجود الرخاء في الريف طالما تركوا الريف في حاله وأصلحوا شأنه .
وعمرو بن العاص أعطاه معاوية مصر طعمة له أي يستأثر لنفسه بخراجها بعد أن ينفق على الجند ومصالح الريف ، وأحسن عمرو إصلاحات الريف . ويذكر المقريزى فى كتاب ( الخطط المقريزية ) أنه حين مات عمرو ترك عند وفاته ( 140 ) إردبا من الدنانير. والمفهوم أنه جاء معظمها من خيرات الريف المصري !!
ويذكر المقريزي أيضا أن أبا الحسين المارداني أحد الموظفين الكتاب لمؤنس الخادم كان إيراده من قرية مشتول وحدها ستين ألف إردب قمحا ، ويقول المقريزي " فتأمل ما أشتمل عليه هذا الخبر من سعة حال كاتب من كتاب مصر كيف كان له في قرية واحدة هذا القدر من صنف القمح ؟؟" !! وكان أبو بكر المارداني قد حج اثنتين وعشرين حجة متوالية انفق في كل حجة مائة وخمسين ألف دينار ، وقد كان ذلك الرجل يصنع في العيد الكعك المحشو بالسكر المسمى " افطن له " وكان يخبئ فيه الدنانير الذهب ولذلك سمي " افطن له " .
والمقريزي بعد أن أورد هذه الأخبار وغيرها عن رخاء مصر في العصر العباسي قال يتحسر على أحوال مصر في عصر المماليك الجراكسة فى القرن التاسع الهجرى " فتأمل أعزك الله ما يشتمل عليه عظم ما كانت عليه مصر وسعة حال الديوان .. ونحن اليوم في زمن إذا احتيج فيه إلى عمارة شيء من الأماكن السلطانية أخذوه من الناس بغير ثمن .. "
والأسباب في تدهور مصر في عصر المماليك كثيرة ، ولكن كان أهمها وصول الفتن المملوكية إلى الريف المصري وتدخل الحكومة المملوكية في حياة الفلاح المصري ، حيث تم توزيع الأراضي الزراعية أقطاعات على الأمراء المماليك من الصغير للكبير ، فدخلوا إلى أعماق القرى فأفسدوها بظلمهم وحمقهم وفسادهم .. ولو اقتصر فسادهم وظلمهم وتدخلهم على المدن والقاهرة وظل الريف بمنأى عن فسادهم لعاشت مصر كلها في رخاء مثلما كان عليه الحال قبل الدولة المملوكية
. ويبقى لنا من التاريخ العظة والاعتبار ، وعنوان كتاب المقريزي هو " المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار " فالمماليك سلطة عسكرية احتكرت كل السلطات في يدها وتدخلت بعقليتها العسكرية في كل شيء لتفسده وتزيده ظلما .. وكلما استمر بها العهد في الحكم كلما ازدادت الأحوال سوءا وازداد الناس فقرا وازدادت الأسعار ارتفاعا ..
ونضرب لذلك بعض الأمثلة : فالمقريزي يذكر أن الأسعار ارتفعت في شهر رمضان سنة 783 حتى بلغ الإردب القمح أربعين درهم ثم وصل في ذي القعدة ستين درهما ، ويقول المقريزي أن ذلك جعل الناس يجارون على الشكوى بعد أن كانوا يستنكفون منها ، يقول " وكثرت الشكاية في الناس جميعهم .. فكانت الشكاية مما تجدد ولم يكن يعرف ، بل أدركنا الناس إذا شكا الناس أحد من الناس حالة عد عليه ذلك ، فصرنا وما من صغير ولا كبير إلا وهو يشكو .. "
وبعد المقريزي ازداد الغلاء فقد وصل إردب القمح في أول رمضان سنة 873 في عصر قايتباي 1300 درهما !! أي ارتفع القمح في نصف قرن من أربعين درهما إلى 1300 درهما .. واستمر السعر في ازدياد لأنه لا تغيير في السياسة التي لا تجيد إلا الفساد وضيق الأفق .. ولو اكتفى المماليك بإصلاح الري وتركوا الفلاح في حاله ينتج الخير لما تفاقم الأمر إلى هذا الحد ..
. وانظروا إلى حال الريف بعد قيام الثورة العسكرية 1952 . فقد أعادت فلسفة الحكم العسكري وتدخلت في كل شيء لتفسد كل شيء فأصبحنا نتمتع بالغلاء والديون والتضخم والتسول من الخارج ..
ماذا لو استفدنا من التاريخ وتقلصت سلطات الحكومة وتركت الناس يزرعون كما أرادوا ، ويبيعون أنتاجهم كما شاءوا وتركتهم مستصلحون الصحراء بدون إذن من إحدى عشر جهة حكومية ؟ وآلاف التوقيعات والتأشيرات والاسترحامات ؟
اجمالي القراءات 12972