مصادر ابن الصيرفي في تاريخه ( الهصر ):

آحمد صبحي منصور في الخميس ١٩ - يوليو - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة فى عصر السلطان قايتباى ): دراسة فى كتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ القاضى ابن الصيرفى .

الفصل التمهيدى : 

سادسا : مصادر ابن الصيرفي في تاريخه ( الهصر ):

مقدمة : المؤرخ الذى يكتب تاريخ السابقين ينقل عمن سبقه من المؤرخين، هكذا فعل المقريزى حين أرخ لمصر قبل العصر المملوكي فنقل عن المسبحى وعن ابن الفرات وابن واصل وابى شامه.أما المؤرخ الذى يسجل أحداث العصر الذى يعيشه كابن الصيرفي في الهصر فهو ينقل ما يشاهده وما يسمعه من أحداث وأقوال وما يحس به من مشاعر. والأحداث التى يسجلها المؤرخ المعاصر للحدث كثيرة، ولا يمكن أن يحيط بها كلها علماً، كيف له بجهده البشرى المحدود أن يقف بنفسه على كل كبيرة وصغيرة تحدث كل يوم في عصره على طول الامتداد الجغرافي الذى يؤرخ له ، لذا كان لابد للمؤرخ الذى ينقل أحداث عصره من وجود مصادر يستقي منها معلوماته خصوصاً ما ارتبط منها بالحكام وأعوانهم، هذا بالإضافة إلى ما يراه بنفسه وما يسمعه بأذنه.

وتتنوع مصادر ابن الصيرفي في كتابه إلى الآتي:

أولاً: مصادره العيانية ، أحداث كان ينقلها من واقع الرؤية والمشاهدة العينية:

1 ـ فابن الصيرفي كان أحياناً يحضر مع القضاة والعلماء لتهنئة السلطان بمطلع كل شهر عربي، وسجل حضوره في ثنايا تاريخه، كما أنه حضر بعض المجالس التى عقدها السلطان وسجل ما دار فيها([1]). وهو بذلك شاهد عيان يعتبر تسجيله توثيقاً تاريخياً للمجلس ، إلا أن أسلوبه الغامض وما يشوبه أحياناً من شبهة التحامل لا يجعل الباحث يأخذ روايته مأخذ التسليم، ولابد بالطبع من إخضاعها لميزان النقد والتمحيص، ومقارنتها بروايات أخرى لو وجدت لمؤرخين معاصرين للحدث .  خصوصاً وأن تلك المجالس التى حضرها ابن الصيرفي كان السلطان قايتباى قد عقدها للنظر في نزاعات القضاة والعلماء وكان منهم ابن الصيرفي وبهذه الصفة كان مطلوباً حضوره في تلك المجالس.

2 ـ وهناك أحداث نقلها ابن الصيرفي من واقع رؤيته العينية لا يملك القارئ إلا تصديقه، وبعضها لسوء الحظ- لا تمثل شيئاً هيناً كأن يقول "غرقت المعدية بجميع من فيها، ولم يطلع منهم إلا الغرقي الذين لهم أهل، وبقية الغرقي استمروا طعماً للسمك، ودخل بعض الغرقي من باب القنطرة فشاهدناهم وقد انفتحوا وانتنوا.."([2]). والمفجع في هذه الرواية أو المأساة التى شهدها ابن الصيرفي رأى العين أن بعض الغرقي الذين لا أهل لهم تركهم الناس- ومنهم ابن الصيرفي مشهداً وطعماً للسمك وقد "انتفخوا وانتنوا" دون أن يوارى أحدهم موتهم ويكرمهم بالدفن. وبعض ما رآه ابن الصيرفي وسجله لا يستحق عناء الكتابة إلا من وجهة نظره هو، كان يقول "وفي هذا اليوم رأيت عجيبة من مخلوقات الله، عجلاً صغيراً بيد واحدة ورجلين"([3]).

ثانياً: مصادره السمعية

وعموما فلم تكن الحوادث التى رآها بنفسه كثيرة في الكتاب، فأكثر مصادره سمعية سمعها بنفسه وسجلها، ولكثرتها يمكن تقسيمها إلى نوعين أساسيين حسب المصدر الذى سمع منه ابن الصيرفي:

1 ـ النوع الأول من مصادره السمعية : هو ما يدور في الدوائر السياسية والمكاتبات التى كانت ترد للسلطان من الخارج وتصل إلى متناول ابن الصيرفي، ويقرأها ، ويسارع بتسجيلها ، كأن يقول:( وصل للسلطان كتاب كان كتبه شاه سوار .. وصورة الكتاب- على ما بلغنى- أنه في أول لفظه هو...) أو يقول ": ( وصل هجاني من الأتابك أزبك مقدم العسكر المنصورى مضمونه على ما بلغنى بالمعني: بعد تقبيل الأرض.. إلخ".)، أو يقول: ( وفي هذه الأيام وقفت على كتاب وصل من أزبك للداودار للكبير ملخصه....: أنا نحن وصلنا إلى مدينة مرعش...."([4]).). ومعناه أن بعض المكاتبات السلطانية كانت تصل لابن الصيرفي فيطلع عليها أو على مضمونها أو ملخصها . ومعناه أيضاً أن لابن الصيرفي مصدراً للأخبار عالى المكانة يمكنه من الإطلاع على تلك المكاتبات الرسمية . ويحق لابن الصيرفي حينئذ أن يقول بمنتهى الثقة. ( ورد الخبر على السلطان.... بأن درنده ملكها شاه سوار عنوة..... ولم يصل إلينا تفصيل أخذها على التحرير...."([5]) ) أى كأنه يعد القارئ بأن الكيفية ستأتيه حينما تأتى لمسامع السلطان.

وليس صعباً أن نعثر على المصدر الذى كان يستقى منه ابن الصيرفي أخباره السياسية والرسمية، إذ أن العادة أن تلك المكاتبات السياسية الرسمية تدخل في نطاق مسئولية (كاتب السر) أو السكرتير الخاص بالسلطان بمفهوم عصرنا.ومن ثنايا تاريخ الهصر نتعرف على التقدير الزائد الذى يخص به ابن الصيرفي (ابن مزهر الأنصارى) كاتب السر السلطانى، ويمكن أن نتعرف أيضاً على مدى الحب الزائد الذى يحمله له.

فحين مرض كاتب السر يجعل ابن صيرفي ذلك ضمن أهم الأحداث الجليلة وقال : ( واتفق أن رئيس الدنيا إبن مزهر الأنصاري كاتب السر حفظه الله على المسلمين حصل له توعك.. وانقطع.. وتألم الناس لضعفه فإنه روح الوجود.!! وهرع الأكابر والأصاغر للسلام عليه، وعندى من عظم دعائى ومحبتي له ما يوازي حبى للناس الموجودين في عصره من جنسه ). وبعد أن شفي ابن مزهر من مرضه قال ابن الصيرفي: ( وزين له البلد وفرحوا بعافيته... وسيما كاتبه ومؤلفه- يقصد بنفسه- فإنه غريق فضله ونعمته، وأنشد لسان حالى في ذلك:

كل في حماك يهواك ولكن
 

 

أنا وحدي بكل من في حماك([6])

 

وواضح أن ابن الصيرفي كان يحرص على أن يسبق اسم كاتب السر بنوعية خاصة من الألقاب والمناقب والصفات وأن يدون مآثره وفضائله خصوصاً وهو يتشفع للقضاة والوزراء ويتحمل في شفاعاته غضب السلطان. ومع ذلك كان ابن الصيرفي حريصاً على ألا يشير إلى كاتب السر بصريح العبارة على أنه المصدر الذى يستقي منه الأخبار، وذلك منتظر فابن مزهر هو "كاتب السر" فكيف يعرف الجميع أنه يفشى (سر) السلطان. على أنه أحياناً يلمح من طرف خفي إلى أخذه عن كاتب السر ، كأن يقول : ( وحكى لى رئيس الدنيا المقر الدينى ابن مزهر الأنصاري حفظه الله من جملة القصص التى قرأها في ذلك اليوم قصة مضمونها أن شخصاً تزوج بإمرأة وطلقها فادعت عليه أنها حامل..... إلخ"([7]).). ولأن القصة هنا اجتماعية وليست سياسية فإن ابن الصيرفي لم يتحرج من إيرادها وقد أسند مصدرها السماعى إلى كاتب السر وذكره صراحة، ولكن نفهم من بين السطور تلك العلاقة الحميمة بينهما وأنهما كان يتحادثان ويتسامران وأن كاتب السر كان يحكى لابن الصيرفي قصصاً أخرى (من جملة القصص التى قرأها) وليست بالضرورة عن (شخص تزوج بامرأة وطلقها فادعت عليه أنها حامل...). وفي موضع أخر يقول ابن الصيرفي : ( أخبرنى المقر الأشرف الكريم العالى الزينى رئيس الدنيا ابن مزهر الأنصاري حفظه الله على المسلمين وصرف عنه كل سوء وأعانه على ما هو بصدده- أن باسمه مرتبات على جهات المكس ما يرضى يتعاطاها...."([8]). )، وبغض النظر عن هذا الطابور الطويل من الألقاب والدعوات فإن أواصر الصداقة والود متبادلة بين الاثنين، وأن ذكاء ابن مزهر يتجلى في أنه استخدم مؤرخاً كابن الصيرفي ليشيد بذكره ويسجل مآثره في عصر عرف أهمية التاريخ والمؤرخين.

والواقع أن هناك فضيلة أخرى لابن مزهر الأنصاري لم يفطن إليها ابن الصيرفي ولم يرصع بها سلسلة مناقبه ألا وهى ذكاؤه الشديد الذى جعله يستخدم ابن الصيرفي في تخليد ذكره مقابل القليل من حطام الدنيا والضئيل من الأخبار السلطانية ومضمون بعض المكاتبات والله وحده هو الأعلم بحقيقة الصدق فيها. ومن الطبيعي أن شخصاً كابن مزهر الأنصاري يحتل وظيفة خطيرة في العصر المملوكي وهى كاتب السر لسلطان داهية مثل قايتباى لابد أن يكون على قدر هائل من الدهاء، خصوصاً وقد استمر محافظاً على منصبه وحائزاً على ثقة سلطانه العتيد، وفي وقت تساقطت رؤوس كثيرة لأرباب الوظائف الكبري. وشخص داهية كابن مزهر الأنصاري لم يكن منتظراً منه أن يطلع مؤرخاً من نوعية ابن الصيرفي إلا على تافه الأخبار التى لا خطر من إذاعتها والتي للسلطان ولكاتب السر مصلحة في نشرها، أما الأخبار الخطيرة والهامة فهي أبعد ما تكون عن علم ابن الصيرفي وغيره، وابن الصيرفي حين يسجلها فإنما يسجلها من موقع ما أشيع عنها من ثرثرة المحيطين بالقصر لذا نراه وهو يسجل هذه النوعية من الأخبار الخطيرة يعترف بجهله بحقيقة أمرها مع ابن "صديقه" كاتب السر لديه أسرارها وحقائقها. ومنها محاولات الصلح بين سفير شاه سوار عدو الدولة الثائر عليها وبين السلطان قايتباى ، يقول عنها ابن الصيرفي : ( وما علم أحد الصلح يكون على أى وجه.. ) وتكررت محاولات الصلح واشترط شاه سوار شروطاً، يقول ابن الصيرفي: ( ولما عاد القاصد- أى السفير- بغير حقه ـ أى بدون تكريم ـ علم كل أحد أن الشر باقٍ على ما هو عليه..."([9]).) ، فابن الصيرفي يقف في الشارع المصري كأى إنسان غيره يحكم بالملابسات والقرائن والمظاهر بينما (صديقه) كاتب السر لديه كل الأسرار والملابسات. وفي موضع أخر يقول : ( صعد قصاد- أى مبعوثو- حسن الطويل للقلعة وقدموا كتابهم فلم يعلم ما حضروا فيه لأن الكتاب قرئ سراً، ومن قائل أنه سأل في كسوة الكعبة ومن قائل أنه سأل في شاه سوار والعفو عنه... والله أعلم بحقيقة ذلك.). أى أن مؤرخنا يردد "تكهنات المراقبين السياسيين" بينما صديقه كاتب السر وهو "العليم بواطن الأمور...." لا يزوده بالحقائق ولا يسعفه بالإجابة وإنما يكتفي بإبلاغه بالتافه من الأخبار ذات الصلة ، كأن يقول : ( وقدموا هديتهم على ما بلغنى قفص ضمنه خوذة ولبس كامل وعدة أبدان سمور وسنجاب وسجادات أقصرائى فقبلت"([10]). )، أى فكل ما أطلعه عليه كاتب السر هو الهدايا التى قدمها الوفد للسلطان. وواضح أن أخبار المفاوضات الرسمية أبعد ما تكون عن ابن الصيرفي وحظه فيها التخمين دون التحقيق، والتوافه من الأخبار دون الهام منها.

2 ـ وقد كان لابن الصيرفي مصادر سماعية أخرى ضمن العاملين مع كاتب السر وضمن جلسائه كأن يقول : ( وقضيته على ما بلغنى بل سمعته يذكره في مجلس رئيس الدنيا وعظيمها المقر الأشرفي الكريم العالى الزينى ابن مزهر كاتب الانشاء الشريف حفظه الله على المسلمين أنه استأجر... إلخ"([11]). ). وكان ابن الصيرفي حين ينقل أخباراً عن صديقه كاتب السر يصفه بالثقة كقوله: ( وسمعت ممن أثق بنقله أن السلطان نصره الله أرسل المحتسب لقاضى القضاة الشافعى يقول له... إلخ" ) أو يقول عن الهجوم الصليبي على رشيد : ( وبلغني ممن أثق بنقله أن السلطان لما بلغه ذلك انزعج انزعاجاً شديداً وحلف أنه لولا المهم- المشاغل- الذى هو من متعلق المملكة لكان بنفسه"([12]).)

ويبدو من نوعية هذه الأخبار أن كاتب السر الداهية قد اختص بها مؤرخاً ساذجا هو ابن الصيرفى لتكون دعاية للسلطان بطريق مباشر، ويبدو أن ابن الصيرفي كان يصدق ما يوسوس به إليه صديقه كاتب السر الذى يقول عنه "وبلغنى ممن أثق بصدقه". بل وانسحبت هذه الثقة من ابن الصيرفي على آخرين ممن كانوا يعملون لدى كاتب السر كأن يقول "وأخبرنى من أثق بنقله عن رئيس الدنيا ابن مزهر الأنصاري غير مرة أنه....." أو يقول "ها ما بلغنى من عدة ثقات"([13]).

3 ـ وكانت لديه مصادر سماعية أخرى غير كاتب السر ومجموعته ولكنها  لم تحظ عنده بالثقة الكاملة، كقوله عن الخلاف بين الأمراء المماليك في الشام "هذا ما وصل إلى خبره والعهدة على الناقل"([14]). إلا أن تلك المصادر السماعية الأخرى نقل عنها الكثير من الحوادث خصوصاً وقد بعدت عن مكاتبات السلطان وتحررت من محاذير كاتب السر، كأن يقول "وصلت الأخبار من الثغر السكندري أن معظم أهلها ذهبوا بموت الطاعون". ولا يجد مؤرخنا حرجاً في إسناد الخبر لصاحبه تصريحاً فيقول "قدم الأتابك أزبك... وأخبر أن الطاعون مستمر بإسكندرية وأنه انتشر ببلاد البحيرة.. وأخبر بموت جماعة من عرب غزالة"([15]). والأتابك هو القائد العام للجيش.

4 ـ وقد عاصر ابن الصيرفي مؤرخاً آخر أطول منه باعاً وأشد منه ارتباطاً بمجتمع السلطة المملوكية وأحدّ لساناً في النقد وأعمق ثقافة، ونعنى به أبا المحاسن جمال الدين ابن تغرى بردى ت 874. ولم يجد ابن الصيرفي  غضاضة في النقل عنه اعترافاً منه بفضله وأستاذيته ، وإن هاجمه في تاريخ الهصر في تعليقاته حين ينقل عنه وحين ترجم لحياته في السنة التى توفي فيها. وقد كثرت النقولات التى أخذها ابن الصيرفي من كتابى "النجوم الزاهرة" و "حوادث الدهور" لأبى المحاسن المذكور، إلا أن ابن الصيرفي لم يحدد أحياناً اسم الكتاب الذى ينقل عنه مكتفياً بذكر اسم المؤلف، كأن يقول عن أسطورة العثور على حصاة مكتوب عليها "اعتبروا واتقوا الله" قال الجمال يوسف ابن تغري بردى في تاريخه عندما ذكر هذه الحصاة" وأنا استغفر الله وأقول أنها مصطنعه"([16]).ولم يذكر ابن الصيرفي أو اسم الكتاب الذى ينقل عنه، وهو "حوادث الدهور"([17]).

5 ـ وكان ابن الصيرفي ينقل أحياناً عن بعض المؤرخين دون تحديد لاسم المؤرخ أو لاسم الكتاب وكان يفعل ذلك خصوصاً مع السخاوى- غريمه ومنافسه وزميله في التتلمذ على الشيخ ابن حجر- ومع ذلك أنه نقل ترجمة الأمير المملوكي شاهين غزالى مما ذكره عنه السخاوى في (الضوء اللامع)([18]).

النوع الثاني من مصادره السماعية

1 ـ هو ما كان يتناقله الشارع المصري من إشاعات، منها ما هو خاص بالفتن السياسية التى كانت تثور بين أمراء المماليك، يقول مثلاً: "ولما نزل قرقماس المذكور إلى داره واجتمع عليه خجداشيته- أى زملاؤه ورفاقه في السلاح- فأشاع السخيفو العقول أن لابد من ركوب- أى ثورة- على السلطان" ويقول معلقاً "ويأبي الله ذلك والمسلمون"([19]). فالشائعات كانت تعليق الشارع المصري على مجريات السياسة المملوكية التى عرفت الاستقرار النسبي في عصر قايتباى. وكان ابن الصيرفي لا يستريح لهذا النوع من ( حرب الإشاعات ) التى تؤذن باختلال الأحوال وتشجيع على الفتن والاضطراب والثورة وما يعنيه ذلك من كثرة عزل السلاطين وتوليتهم ، كما حدث قبيل تولى قايتباى السلطة سنة 872، إذ حين مات السلطان خشقدم سنة 872 تقلب على عرض السلطنة في عام الاضطراب هذا إثنان من السلاطين (الظاهر يلباى والظاهر تمريغا) ثم وصل قايتباى للسلطة في نفس العام فأحكم سيطرته وظل يحكم حتى سنة 901هـ.

عاش ابن الصيرفي هذا الاستقرار في الفترة التى كان يؤرخ لها فكان يخشي من تلك الإشاعات وما قد يسفر عنها من ثورة تهدد الاستقرار خصوصاً وقد كان شاه سوار يهدد الدولة المملوكية من الخارج، لذا يقول في نفس الموضوع : ( ومن هذا الأمر الذى السلطان- نصره الله- فيه ومن الاهتمام بأمر الإسلام والمسلمين وقيامه بنصرتهم لدفع هذا العدو المخذول- أى شاه سوار- فالناسي يلهجون بوقوع فتنة من غير تصريح بركوب- أى ثورة أحد بعينه، كما هى عادة فشار العوام"([20]).).

إلا أن الشائعات طاردت السلطان قايتباى برغم أنف ابن الصيرفي- فإذا ركب قايتباى إلى نزهة كما هى عادته وتخلف عن أعيان العسكر إلى أن يعود نجد الشائعات تتابعه، يقول ابن الصيرفي "واختلفت الأقاويل في توجهه فمن قائل أنه توجه إلى القدس ومن قائل أنه توجه إلى مكان قطع الفرنجة فيه الطريق على المسلمين، وقيل غير ذلك ، والله العليم والمالك"([21]). بل أن الشائعات كانت تسبق تحركات السلطان وتحاول التنبؤ بما سيفعله، يقول ابن الصيرفي "تواتر الخبر على ألسنة العوام أن السلطان غدا تاريخه يخلع على الأمير ألماس بنيابة الشام"([22]).وهنا نرى ابن الصيرفي يتخذ من إشاعات العوام خبراً يستحق التسجيل مقترناً بقوله "تواتر" وهى صيغة المحدثين والفقهاء عند التصديق والتوثيق.

2 ـ والمهم أن ابن الصيرفي كان ينقل أحاسيس الشارع المصري وما يتناقله من آراء وأخبار وتكهنات حملتها الشائعات، وقد كان لها دور في هذا العصر الذى شهد استبداد الحكام وفق ما كان سائداً في العصور الوسطي، ولم يعرف الناس وقتها طريقاً أخر غير تلك الشائعات للمشاركة في التعليق على مجريات الأمور.

ولا أدل على اهتمام ابن الصيرفي- ومثله ابن إياس- بالتعبير عن الشارع المصري وتسجيل انطباعاته ومشاعره من تكرار كلمة "وشاع بين الناس" أو "أشيع كذا". بل أن ابن الصيرفي يستخدم نفس المصطلح فيما لا يصلح له كأن يقول "وفيه أشيع موت برهان الدين الحلبي"([23]) وموت برهان الدين هذا لم يكن إشاعة وإنما كان حقيقة ولكن التعبير غلب على ابن الصيرفي من كثرة استعماله له.

3 ـ وإنصافاً لمؤرخنا ابن الصيرفي فإنه كان أحياناً يقف من الشائعات موقف المحقق المدقق لا مجرد الناقل المصدق كأن يقول" وأشيع في هذا اليوم أن مات ببيت الصاحب ابن البقري عدة من مماليكه بالقاهرة وسألت عن ذلك من أخيه القاضى شرف الدين فأجاب: نعم مات عند أخى من المماليك ثلاثة نفر في الجمعة الماضية بالطاعون"([24]).ولم يكن الطاعون وحده هو الذى يجعله يتحقق من صحة الإشاعات بل كان يحاول التحقيق منها إذا كان ذلك بوسعه يقول في ترجمة برهان الدين الحلبي- سالف الذكر- وما أشيع عن تشيعه "كأن يرمى بأنه شيعى وأنه والعياذ بالله ما يحب السيدة عائشة وأنه في اليوم العاشر يأخذ معزة وينتف شعرها بيده ولكنه ما ظهرنا منه على ذلك"([25]).وأحياناً يكون التحقيق من الإشاعة فوق طاقته فيعترف بذلك كأنه يعتذر، يقول"ووقع في هذه الأيام أمور شاعت وذاعت غير أنى لم أتحققها وإنما أنبئتها بطريق النقل" وكان منها القبض على جواسيسي سوار([26]). وذلك يذكرنا بعلاقته بصديقه كاتب السر فلو كان يسمح له بالإطلاع على أسرار الدولة لعرف منه (الحكاية والرواية).

4 ـ وإحساس ابن الصيرفي بالشارع المصري الذى ينتمي إليه والذى لا يستطيع الانسلاخ عنا كان يظهر بين السطور مهما دافع عن سادته المماليك، ويظهر ذلك حين يتحدث عن معاناة الناس من الظلم والغلاء وهما مرتبطان مقترنان.. يقول في نهاية عام 876هـ ".... وانقضت هذه السنة والناس في أمر جهيد وبلاء عظيم وشتات العسكر المصري بالبلاد الحلبية... وعظم الغلاء بالديار المصرية حتى وصل الأردب القمح إلى ألف درهم.. وأما الظلم الموجود من بعض الناس فلا فائدة في ذكره، وعدم الأمن في السبل والطرقات، والحق أقول أنى لم أر فيما رأيت منذ عمرى أبشع ولا أفظع حالاً من هذه السنين الثلاث.."([27]).

وبعدها بعامين يقول "وأصبحت مصر وأهلها في ألم شديد من عدة وجوه..."([28]).

لقد كانت لابن الصيرفي علاقاته بالسلطة المملوكية، خدمها ونافقها ولكن كانت له جذوره الممتدة في التربة المصرية فأحس بإحساس المطحونين وعبر عن آلامهم... وجاءت مصادره في تاريخ الهصر من هذين الرافدين على اتساع الفجوة بينهما، لذا نراه ينقل عن كاتب السر وأعوانه ورجال الدولة المملوكية كما ينقل إشاعات الشارع المصري وأحاسيسه ونبضاته..

النوع الثالث من مصادره السمعية ً:

1 ـ على أن هناك مصدراً آخر لابن الصيرفي لا يمكن تجاهله هو احتكاكه برجالات عصره وتعامله معهم، وقد نفعه ذلك عندما ترجم لهم فكتب عنهم كتابه العارف بمن يكتب عنهم وإن كنا بالطبع لا نغفل عامل الهوى والتحيز الذى لا ينجو منه إلا من عصم الله. وقد تنوعت علاقاتها وتعاملاته بشتى الطوائف وإن كان لم يترجم إلا للمشاهير من العلماء والمماليك وأقلية من التجار منهم ابن كرسون الذى يقول عنه "ووصل إلى عن هذا التاجر أنه كان يخرج حق الله تعالى أعنى الزكاة"([29]).

2 ـ ويلاحظ أن المماليك كانوا أقل الناس تعاملاً مع ابن الصيرفي، ويبدو أنه كان يقترب منهم في حذر ويكتب عنهم بحذر أشد، ومع أنه ترجم لمشاهيرهم إلا أنه كان يختفي خلف آراء أبى المحاسن وهجومه عليهم، فإذا أراد أن يصف أحدهم بما فيه من ظلم وتجبر وفساد ذكر ما قاله عنه المؤرخ أبو المحاسن، ومن ذلك أنه – أى ابن الصيرفي ـ ترجم للأمير جكم الظاهرى فقال "وقال الجمال يوسف بن تعزى بردى المؤرخ عنه في تاريخه في الحوادث" كان من مساوئ الدهر: وفي الجملة لا تقل مات الأمير بل قل نفق الحمار" انتهى كلامه سامحه الله"([30]).ويقول ابن الصيرفي في ترجمة الأمير قانم الأشرفي "وقال الجمال يوسف بن تعزي بردى المؤرخ في تاريخه: كان- أى الأمير قانم- عاديا ذا خلق سيء مع بخل وشح وتكبر وخفة وطيش عفي الله عنى وعنهما"([31]).ويقول عن الأمير قانباى "وقال الجمال بن يوسف تعزي بردى المؤرخ عنه في تاريخه: وأما أفعاله فسيئة وباشر الولاية أقبح مباشرة وحسابه على الله، وانتهى كلامه "عفى الله عنهما"([32]). ويقول في ترجمة الأمير ال بردي "قال الجمال يوسف بن تعزي بردى عنه في تاريخه: كان من رؤوس الفتن والظلم والعسف..." ويورد رأيا أخر لنفس المؤرخ عن نفس الأمير حين بنى مسجداً وسخّر الناس في عمارته "وقال الجمال بن يوسف بن تغرى بردي عنه : ومع هذا ظلم الظلم الزائد وعسف الناس وأبادهم بالضرب واستعمالهم بغير أجره وما عف عن ذلك ولا كف إلى أن عاجله الله وأخذه عزيز مقتدر..."([33]).

كان جمال الدين أبو المحاسن المذكر من أصل مملوكي ارستقراطي وذا نفوذ زائد فأتاح له ذلك أن يعبر بصراحة عن أمراء المماليك بل والسلطان نفسه، بينما قنع مؤرخنا المصرى الشعبي بالنقل عنه على استيحاء.

وقد اختلط ابن الصيرفي ببعض أمراء المماليك غير المشهورين بالظلم فاحتفل بهم عندما ترجم لهم وحرص على ذكر صلته بهم كما فعل في ترجمته للطواشى سرور، يقول فيه "ويدعي عفة وصيانة ورأينا منه ذلك وكان بينى وبينه صحبة" ولذلك انتقد رأى المؤرخ أبى المحاسن فيه وقال "وتعصب عليه الجمال يوسف بن تغري بردي......"([34]).

3 ـ وانطلق ابن الصيرفي في ترجمته للعلماء والقضاة من واقع صلته وحريته في الحديث عنهم بلا خوف ولا وجل، ويقول في ترجمته للشيخ الشرواني "وكنت حاضراً عند الشيخ...." "وكان يودنى ويعظمنى..." "وما رأيت أنقى من ثيابه ولا أنظف منها..."([35]).ويقول في القاضى معين الدين "وكان بينى وبينه صحبة ومودة ومداعبة وملاطفة"([36]).ويقول في قاضى القضاة "ابن حريز" ذاكرنى كثيراً في التاريخ ووقف على تاريخي الكبير المسمي نزهة النفوس وكتب لى عليه كتابة بليغة".. "وكان يودنى كثيراً وبينى وبينه صحبة أكيدة"([37]).

ويقول عن الشيخ العقيلي "رأيته وهو بصير"([38]).ويقول في الشيخ أبى السعادات "كان بينى وبينه وبين آله صحبة زائدة وتردد- أى زيادة ـ ويودنى كثيراً هو ووالده"([39]).وقال عن نور الدين الحنفي "وكنا نحضر معه دروس الفقه عند شيخنا سعد الدين الديري"([40]) وأتى الشيخ الغمري- الشيخ الصوفي المشهور وقتها- من المحلة إلى القاهرة فاجتمع به أبن الصيرفي وقال في تاريخه "فاجتمعت به ورأيته رجلاً عظيماً"([41]).

وبخلاف زمالته وصحبته لعلماء عصره التى برزت في ترجمته لهم من واقع الاحتكاك المباشر فإن ابن الصيرفي كان يحضر بعض المجالس الرسمية التى كان يعقدها السلطان قايتباى للنظر في أمور القضاة ومشاكلهم، وبالطبع كان يحضرها باعتباره قاضياً ثم يسجلها باعتباره مؤرخاً.

أخيرا

لقد سعى ابن الصيرفي إلى الحادثة ونقلها من واقع المشاهدة البصرية، وأتيح له الإطلاع على بعض المكاتبات السلطانية، وتعامل مع بعض المتصلين بإدارة الحكم، كما نقل ما يتردد في الشارع المصرى من إشاعات وأحاسيس ونبضات. كما تعامل مع مشاهير عصره الذين ترجم لحياتهم. ومن ذلك كله جاءت مصادره العينية والسمعية في تاريخ الهصر نبضاً حقيقياً للعصر وللمؤلف معاً مما يجعل من "إنباء الهصر" وثيقة حية للسنوات التى أرخها ابن الصيرفي.

 



([1]) الهصر 352، 357، 372، 377.

([2]) الهصر 326.

([3]) الهصر 403.

([4]) الهصر 29، 69، 120.

([5]) الهصر 44.

([6]) الهصر 208، 213.

([7]) الهصر 382، 383.

([8]) الهصر 393.

([9]) الهصر 151، 163: 164.

([10]) الهصر 428.

([11]) الهصر 417.

([12]) الهصر 441: 442، 235.

([13]) الهصر 4.9، 446.

([14]) الهصر 404.

([15]) الهصر 31، 32.

([16]) الهصر 48.

([17]) حوادث الدهور 3/697.

([18]) الهصر 85: 87 الضوء اللامع 4/294.

([19]) الهصر 50.

([20]) الهصر 51.

([21]) الهصر 236.

([22]) الهصر 497.

([23]) الهصر 193، 295.

([24]) الهصر 32.

([25]) الهصر 194.

([26]) الهصر 263.

([27]) الهصر 114.

([28]) الهصر 261.

([29])  الهصر 313.

([30]) الهصر 84.

([31]) الهصر 89.

([32]) الهصر 90.

([33]) الهصر 90، 91.

([34]) الهصر 85.

([35]) الهصر 94: 95.

([36]) الهصر 97.

([37]) الهصر 98.

([38]) الهصر 101.

([39]) الهصر 104.

([40]) الهصر 208.

([41]) الهصر 218.

اجمالي القراءات 11146