صخرة المادة الثانية من الدستور

كمال غبريال في الخميس ١٢ - يوليو - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً


تمخض الجبل فولد مسخاً بشعاً: "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع والأزهر الشريف هو المرجعية النهائية لتفسرها، ولأتباع المسيحية واليهودية الحق فى الاحتكام لشرائعهم الخاصة فى أحوالهم الشخصية وممارسة شئونهم الدينية واختيار قياداتهم الروحية". . هذا ما تمخضت عن اللجنة التأسيسية للدستور من صياغة للمادة الثانية بعد مخاض عسير ومهازل. . هذه هي ثورتك يا مصر، تزيد تخلفك تخلفاً، فتجعل من مؤسسة دينية مرجعية نهائية لتفسير نص دستوري بدلاً من المحكمة الدستورية، وتسلم المواطنين المسيحيين لأصحاب العمائم السوداء لإذلالهم كما يشاء هواهم، هي بالتأكيد صياغة غير دستورية، لتناقضها مع وجوب انفراد المحكمة الدستورية العليا وحدها بتفسير الدستور، فكيف للأزهر وهو هيئة إدارية تدير مؤسسة دينية أن يكون لها الكلمة النهائية في تفسير نص دستوري، وهي بالأساس ليست هيئة قضائية وتفتقد لصلاحية الإلزام القانوني والدستوري. . هكذا يستمر مسلسل المهازل المصرية غير المسبوقة.
الحقيقة أن مشكلة مصر مع الرؤية الدينية للحياة وللذات الإنسانية والكون هي مشكلة ثقافة ومنهج حياة وسلوك تقليدي محافظ قبل أن تكون مشكلة دستورية، بل وربما جاز القول أن اهتمام عامة الشعب المصري بالدستور يكاد يكون منعدماً، وينحصر الاهتمام به وبمواده بين النخبة، سواء تلك النخبة المستنيرة التي تروم تطوير الحريات وتحديث الدستور والحياة المصرية عامة، أو تلك التي على الجانب المقابل تحاول تأويل النصوص الدستورية الخاصة بالحريات لتفريغها من مضمونها، وتأويل نص كذلك الموجود بالمادة الثانية من الدستور "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، لكي تتخذ منه مدخلاً للعودة بالدولة المصرية الحديثة التي أنشأها محمد على باشا في بداية القرن التاسع عشر، لدولة خلافة إسلامية على النمط العثماني أو العباسي والأموي، فأي دستور أو حتى قوانين مفارقة لروح العامة وثقافتهم ستظل حبراً على ورق، وأبسط مثال لدينا هو ما نص عليه دستور 1971 من حريات شخصية وفكرية ودينية، رغم هذا سنجد أن الواقع في الشارع وحتى في بعض أحكام القضاء كان بالكاد يسمح بهامش ضئيل من تلك الحريات الدستورية، بل ووصلت بعض أحكام القضاء إلى إجبار أطفال مسيحيين على اعتناق الإسلام لأن والدهم قد أسلم، باعتبار الإسلام هو الدين الأعلى كما جاء في حيثيات الأحكام، ولا ندري بالطبع إلى أي نص دستوري أو قانوني استند فخامة القاضي في مثل هذه الأحكام عليه، ولا ما هو المعيار الذي حدد على أساسه الدين الأعلى والأوطى.
رغم هذا فمن المفترض نظرياً أن النظام السياسي لأي دولة هو الآلية التي تقود الشعب وتوجه مسيرته، وأن الدستور هو العقد الاجتماعي الذي يحدد الخطوط العريضة لحياة هذا الشعب، لذا يحق لنا القول أن مسيرة مصر السياسية والحضارية، ستظل مرتهنة بالإشكاليات التي تثيرها المادة الثانية من الدستور بنصها الذي أوردناه عاليه.
فالدولة التي يحدد الدستور لها ديناً إن لم تكن دولة دينية، فسوف تكون مسخاً غير مؤهل للتحول إلى دولة حديثة معاصرة، لتكون المادة الثانية هكذا بمثابة صخرة تحول بين مصر والاندماج في العصر ومسيرته الحضارية، لتكون دولة من بقايا ونفايات الماضي، عاجزة عن استيعاب قيم العصر ونظمه والتفاعل الإيجابي معها، ولن يعدو مصيرها أن يكون إما العزلة أو الصدام معه.
لمكونات المادة الثانية من الدستور المصري تاريخ يمتد لتسعة عقود ماضية، تغيرت فيها محمولات مفاهيم مفرداتها بتغير العصور، لذا لا تفيد الآن تلك المحاولات التأويلية للهروب من المفاهيم المعاصرة للنص، لجوءاً إلى مفاهيم سابقة، فالآن نتيجة شيوع تيار الإسلام السياسي صارت التفرقة حاسمة بين بمفهوم دولة الإسلام وبين المفهوم العصري للدولة.
لم تكن بداية المادة الثانية تاريخياً في هذا المركز المتقدم من بنود الدستور، وإنما بدأت بإشارة هينة متأخرة في الترتيب إلى المركز (149) من مواد دستور 1923، بالنص على أن "دين الدولة الإسلام"، وكان هذا قبل خمس سنوات من بداية حركة الردة الحضارية والسياسية بتشكيل حسن البنا لجماعته العتيدة، لذا لم يثر النص وقتها أي جدل أو حتى اهتمام، وقد كان يعني وقتها أن "الإسلام دين الأغلبية" وليس أكثر من هذا، حتى أخرج السادات مارد الإسلام السياسي من القمقم، بإخراج قياداته من السجون، ليواجه بهم الاتحاد الاشتراكي الناصري وتنظيمه الطليعي، لتبدأ المادة الثانية من دستور السادات عام 1971 تأخذ محتوى جديداً، يسير باتجاه تيار الأيديولوجية الإخوانية، هذا رغم لا منطقية المعنى، حيث أن الدولة الحديثة ما هي إلا شخصية اعتبارية، تتكون من مؤسسات تدير مصالح المواطنين وفق لوائح وقوانين، وهي بالتالي لا تحاسب في الآخرة ولا تدخل الجنة أو النار، ثم قام السادات لتمرير تعديل دستوري يسمح ببقائه في السلطة مدى الحياة بتعميق ولوغ المادة في الأسلمة السياسية بالنص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.
من هنا بالتحديد بدأ الخلط والاختلاط بين الدين والدولة، بين انتماء المصري لوطنه ومواطنيه، وبين انتمائه لأمة إسلامية منتشرة في سائر بقاع الكرة الأرضية، ليبدأ تسارع تشتت وخفوت استشعار الهوية المصرية التي كانت ثورة 1919 قد ابتعثتها من سباتها، حتى وصلنا بما سمي ثورة 25 يناير إلى رفع البعض لأعلام السعودية وتنظيم القاعدة في ميدان التحرير.
الأمر الآن حيال نص "دين الدولة الإسلام" يأخذ منحى ويكتسب محتوى أكثر خطورة من كل ما سبق، فلدينا في موقع السلطة التشريعية ورئاسة الجمهورية من يريدون أن يذهبوا في تفعيل النص إلى حد هدم الدولة المصرية الحديثة لصالح خلافة إسلامية.
مع هذه التحولات السياسية التي مكنت التيارات الدينية التي تكاثرت وتشعبت حدث اشتباك مفاهيمي بين الشريعة الإسلامية وبين النصوص الوضعية في القانون المصري، حيث كان المفهوم السائد هو انتفاء التضاد بينهما، فقوانين الأحوال الشخصية والميراث، وهي ما يدخل ضمن مهام الدولة من حيث التنظيم والحماية متطابقة مع الأحكام الشرعية في الفقه الإسلامي السني، وسائر القوانين الحاكمة للحياة المصرية بعامة تتفق مع المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، بل ومع جميع الشرائع الدينية ومواثيق حقوق الإنسان، وبالتالي لم يكن هناك ثمه خلاف حول وجود نص دستوري يذكر الوضع الرئيسي لمبادئ الشريعة الإسلامية كمرجعية تشريعية، فهذه العلاقة موجودة قبل أن ينص عليها دستور، وجذرها أقوى من أي دستور، فإيمان الإنسان المصري يجعله تلقائياً يسن القوانين التي تتفق ولا تتعارض مع إيمانه.
هي الجماعات الساعية للسلطة الدنيوية وليس للتقوى الدينية التي دفعت بمفاهيم تلك النصوص نحو توجهات أقل ما توصف به أنها ارتدادية ومعادية للحداثة ولمسيرة التطور الإنسانية في النظم الشسياسية والقانونية، واتخذت منها شعارات تظهرها أمام الشعب المتدين بالسليقة وكأنها جاءت لتؤسس للإسلام في مصر، كأن مصر قبل حسن البنا لم يكن بها مسلمون.
الآن وفي الاحتقان الديني والسياسي بفعل دعايات المحظورة وأخواتها، لا يمكننا الركون إلى محاولة العودة للمحتويات الأولية والمنطقية لما ورد بالمادة الثانية من الدستور المصري من مفاهيم ومصطلحات فضفاضة، فهي تتيح لتجار الدين الانحراف بمضامينها، بما يضعف أولاً الولاء للوطن ويثير الاختلاط حول هويته لصالح هوية دينية عالمية، ويؤدي ثانياً للانفصال بالدولة المصرية ونظمها وقوانينها عن دول العالم المتحضر، بما ينعكس سلباً على إقتصادنا وحياتنا في عصر تتقدم وتزهر الشعوب فيه معاً، وتعد العزلة أقسى عقاب يمكن أن يوقعه شعب على نفسه، وثالثاً ما سوف يصيب الحياة المصرية بكافة مجالاتها من عقم، إذا ما تم باسم الشريعة الإسلامية استيراد قوانين سنها فقهاء من عصور ماضية، ربما كانت تتفق وزمانهم، لكنها الآن لا تصلح لغير أن تكون مادة لدارسي التاريخ ومراحل تطور الشعوب.
النقطة الرابعة والتي نراها الأكثر خطورة هي ما سيؤدي إليه تديين الدولة من الخلط بين العام والخاص، فنسبة الدولة للدين يوسع من سلطات الدولة، بما يؤدي للخلط بين الحياة العامة التي تتولى الدولة تنظيمها، وبين الحياة الخاصة التي يتولى فيها الدين تشكيل مكونات الضمير، وفق المثاليات التي تحث الأديان الناس على الالتزام بها، وذلك في مجالات أغلبها تدخل ضمن نطاق حرية اختيار الإنسان، وإلا تحولت الدولة إلى أداة قهر. . نعرف جميعاً أن سر قوة الأديان وصمودها في وجه كافة التيارات الفكرية عبر تاريخ البشرية يرجع إلى أنها تخاطب ضمير الإنسان الشخصي وتقنعه باعتناقها، بحيث يستحيل بعد ذلك على أي قوة خارجية أن تقتحم قناعاته هذه، لذا فإن استناد الدين إلى قوانين وحاكم وشرطة هو أخطر على الدين والتدين من أي عنصر معاد، ذلك أنه يحول التدين لكي يكون فرضاً خارجياً محروساً بقضاة وجنود، بدلاً من أن يكون خياراً شخصياً يتعرف عليه الإنسان عبر دعاة لا قضاة.
بالطبع نقدر دور الأزهر الشريف وشيخه الوطني المستنير في صد الهجمة الظلامية على البلاد، عن طريق الكفاح لبقاء المادة الثانية كما هي عليه في دستور 1971، تصدياً لمن يريدون استخدامها عبر تعديلاتهم للسيطرة على البشر سيطرة الآلهة، وكأنهم أخذوا تفويضاً إلهياً ليكونوا نواباً لله على الأرض، لكننا نختلف معه في كفاية المحافظة على ما كان لصد تلك الهجمة في واقع سياسي متغير، بعدما سيطرت الجماعات الدينية على الشارع، ويسيطرون أيضاً تدريجياً على أركان الدولة وسلطاتها ومؤسساتها، فالحل الآن إما إلغاء المادة الثانية من الدستور، وهو ما لن يؤدي إلى قيد أنملة من التأثير السلبي على تدين الشعب المصري المصري، فالدستور ليس هو الحامي للدين، بل الدين بتأثيره في القلوب والعقول هو الذي يحمي الدساتير وسائر مناحي الحياة في مصر، وإما تعديل المادة الثانية، بنص يعود بها للمفاهيم الأولى الأصيلة غير المختلف عليها، فلا تعود النصوص فضفاضة تحتمل التضخيم والتطرف والمزايدة، بأن تأخذ الصيغة التالية:
"مصر دولة علمانية أغلبية مواطنيها يدينون بالإسلام، واللغة العربية هي اللغة الرسمية، والمقاصد العليا للشرائع الدينية ومواثيق حقوق الإنسان العالمية، وتحقيق مصالح الوطن والمواطنين هي مرجعيات التشريع".
وإن كنت شخصياً أتمنى لو أمكن اعتماد صيغة أخرى تؤسس لدولة حداثية واضحة التوجه مثل:
" مصر دولة علمانية تحمي حرية الفكر والعقيدة دون تدخل منها سلباً أو إيجاباً في معتقدات المواطنين، ومصلحة المواطن ومواثيق حقوق الإنسان العالمية جزء أساسي من دستورها ومحور تشريعاتها."
بالطبع سيرى الكثيرون أننا نذهب لأبعد من إمكانيات الواقع المصري الآن، وهذا صحيح بالفعل، لكن إن كنا حقيقة في حالة ثورة رفعت شعارات الحرية والكرامة الإنسانية، فإننا إن لم نحقق طموحنا في الحرية والحداثة في زمن الثورة، فمتى يا ترى يمكن أن نحققها؟!
إن لم نزل هذه الصخرة الآن من مجرى نهر التطور والتحضر المصري، فمتى يمكن أن يتيسر لنا هذا؟!!
اجمالي القراءات 7038