المطبّ

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ٠٣ - أبريل - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

أولا

ـ  لأسباب كثيرة ـ لا داعى لمناقشتها ـ اختار الأخ محجوب أن يطلق على الناس لحيته وأن يكشّر لهم عن أنيابه ، وأن يقّصر لهم عن سرواله ، وأن ينظر إلى الناس فى غضب وازدراء، لأنهم لم يصلوا إلى ما وصل إليه ، ولم يهتموا بالفتح الربانى الذى حصل عليه. وحين أراد الأخ محجوب أن يكمل نصف دينه ، نظر حوله فلم تعجبه واحدة من بنات جيله ، بعضهن حاسرات عاريات كاسيات مائلات مميلات ، و البعض الآخر محجبات ومنقبات .ولكن عن نفاق ورياء، وتظاهر بالحياء . لذا قرر أن يذهب إلى بلدته ويتزوج فتاة صغيرة، غريرة . لم تعرف الاختلاط فى التعليم ، حتى تسير معه على الطريق المستقيم . وتزوجها . كانت دونه فى السن بمراحل، ولم تحصل من التعليم على طائل . وعزم على أن يربيها على طريقته ، وأن يسير بها على سنته .وهذا ماحدث وما كان ، من أعاجيب هذا الزمان.  كانت الزوجة الصغيرة الغريرة  لا ترى الدنيا إلا بعينيه ، ولاتسمعها إلا بإذنيه ، ولاتلمسها إلا بيديه . كانت الشقة الصغيرة هى كل عالمها ودنياها ، وكان هو حلمها ومبتغاها .هو وحده الذى يدق عليها الباب ، وهو وحده الذى يشترى لها من السوق ، لا أحد يراها ولاترى أحدا ، والراديو حرام والشباك ممنوع والتليفزيون رجس من عمل الشيطان . اعتقد الأخ محجوب أن زوجته هى عورته الشخصية التى ينبغى ألا يراها أحد غيره ، وإلا كان الويل والثبور وعظائم الأمور . وسارت بهم الحياة سيرها المعتاد ، وقد أنجبا ثلاثة من الأولاد . وكانت الزوجة الصابرة ، لديها رغبة قاهرة ، فى أن تزور أهلها ، وترى بلدها ، ولكن زوجها صمم على الرفض الواضح المبين ، لأن أهلها فى نظره من المارقين ، الذين لايفهمون فى الدين ، وربما إذا مكثت عندهم مدة ، أن تصبح بعدها مرتدة !! وهو يؤمن بالمثل الصريح : الباب الذى يأتى لك منه الريح ، سدّه واستريح ، يا استاذ سميح ..

 ولكن حدث أن مات الحاج أيوب، والد الأخ محجوب. فاضطر للحصول على أجازة ، ليحضرالجنازة . ولأن أباه خلف ثروة كبيرة ، فقد اصطحب معه أولاده فى رحلة غير قصيرة.  وكانت فرصة سعيدة للأولاد، أن يروا أهلهم على غير ميعاد. ولكن الأخ محجوب وضع لهم قائمة من المحظورات ، والممنوعات ، والمحرمات ، تشمل الحديث مع الغرباء والأجانب،  حتى لو كانوا من أقرب الأقارب . فهم عنده من المارقين، الذين لايهتمون بالدين . وبصريح العبارة ، انتهت الزيارة . والأولاد فى حسرة قاهرة ، لعودتهم إلى القاهرة . وزاد عندهم من النكد ، وجود حقائب كثيرة العدد ، مملوءة  بالأموال وبخيرات البلد .  وكان عليهم أن يساعدوا أباهم فى حملها ، وفى رعايتها ونقلها. وهم ما تعودوا ذلك ، ولاسلكوا هذه المسالك .                                                

وكان سفرهم يوم الخميس  وقد ازدحم الناس فى الأتوبيس.  ونزلوا منه بعد تعب شديد ، وجهد جهيد ، بقرب محطة السكة الحديد.  وسأل محجوب عن ميعاد القطار ، فعرف أنه آخر النهار. وأراد أولاده الانتظار ، حتى يأتى القطار . ولكنهم خافوا من الجدال ، حتى لايسوء الحال . فالأخ محجوب لايأخذ برأى أحد مهما كان ، ولايستطيع أولاده العصيان . واضطر الأولاد إلى المسايرة ، وخلفهم الزوجة الصابرة ، يسيرون ساعة إلى محطة أتوبيس القاهرة.

وبعد ساعة من السير فى الهاجرة ، وصلوا الى محطة اتوبيس القاهرة . وسأل الأخ محجوب عن موعد قيام الأتوبيس فعرف أنه الموعد الأخير ، وأنه لامجال للتأخير. فأسرع يحجز لأولاده المقاعد ، وجلس بجانبهم يستريح بعد تلك الشدائد . ونظر للحقائب فارتاع ، وإلتاع . إذ وجدها تنقص ثلاثا بالتحديد ، وتأكد أنهم نسوها هناك عند محطة السكة الحديد. ، وجرى إلى ناظر محطة الأتوبيس وحكى له الموضوع ، بينما نزلت من عيون أولاده الدموع . ووعده الناظر أن يؤخر له الأتوبيس ربع الساعة ، إلى أن يحضر صاحبنا الضائع من متاعه .

وبدون أن يستريح ، ظل الأخ محجوب يجرى بسرعة الريح . إلى أن وصل محطة القطار ، وقد تعب قلبه وعلا وجهه الاصفرار .  لم يجد شيئا من الحقائب ، وكانت تلك إحدى المصائب .  أما المصيبة الكبرى القاهرة فهى عند رجوعه الى محطة أتوبيس القاهرة ، إذ انطلق الأتوبيس فى الطريق السريع ، يحمل أسرة محجوب مع  ذلك الكابوس الفظيع ، فالأخ محجوب المتعوس ، لم يعطهم أى مبلغ من الفلوس .  والأخ محجوب وحده هو الذى يعرف طريق العودة إلى الشقة ، بدون مشقة . بينما هم لايعرفون، فانطلقوا يبكون ، حظهم الملعون ، وذلك المحجوب المأفون .

وهناك فى تلك المدينة ، وفى جلسة حزينة . ظل الأخ محجوب يضرب كفا بكف ، وقد تعب من الدوران واللف ، لايدرى كيف يتصرف . فكل ما جمعه من ميراث أبيه ضاع فى لحظة التيه. ضاع مع الحقائب ، فكانت أفظع المصائب . فقد كل ما معه من فضة وذهب ومال.مال المال ، وحال الحال ، وذهب الذهب ، وفضت الفضة . ثم زاد من حسرته، ضياع أسرته . طار بهم الأتوبيس تاركا خلفه ذلك الأب التعيس . الأخ محجوب فقد أعزّ الناس ، بعد أن حجب  اسرته عن التمرس بالحياة والناس . كان يريد أن يظلوا معتمدين عليه وحده ، ليظلوا تحت سيطرته وحده ، فاذا به يفقدهم ويعيش بقية عمره ـ وحده .  

والغريب أن الأخ محجوب برغم ما به من تعاسة ، فهو يريد أن يحكمنا نحن بهذه السياسة !!

ثانيا :

1 ـ نشرت هذا المقال فى جريدة الأحرار من حوالى عشرين عاما أتهكّم على طموح الاخوان المسلمين للسلطة ، وهم بحكم تكوينهم العقلى غير مؤهلين لها . ورمزت لهم بالأخ محجوب المستبد الجاهل الذى أضاع أسرته وأمواله ، وهو يحسب أنه يحسن صنعا . وكالعادة يتحقق فيهم ما قلت ..فبمجرد إقترابهم من السلطة إنكشف عجزهم وتضاربهم وترددهم واختلافاتهم .

فى وقت كتابة هذا المقال ـ كان الظّن السائد أنهم جماعة مترابطة متكاتفة، وقلت يومئذ أن الذى جعلهم مترابطين هو حصار السلطة لهم وتضييقها عليهم ، ولو كان لنظام مبارك أدنى قدر من التفكير لأعطاهم ( شلّوت لفوق ) أى دعاهم للمشاركة للسلطة باختيار بعض قياداتهم وزراء فى وزارات الخدمات كالمواصلات والطيران والتصنيع والشئون الاجتماعية والصحة .. عندها كانوا سيتنافسون على المناصب المطروحة ، ويظهر تكالبهم على السلطة ، ويتفرقون ويتباغضون وينشرون على الملأ فضائحهم ، ثم إذا تولوها سيظهر عجزهم ، وسينتهون الى فشل .. كان هذا رأيي ولا يزال .. ولكن إذا كان الاخوان لا ينقصهم التردد والبطء فى الفهم وسرعة القدرة على الحسم فإن حسنى مبارك كان أعجوبة العصر فى التردد والغباء.  

2 ـ وكما ساعدت الظروف حسنى مبارك ليصل الى الحكم وهو غير مؤهل له ، فإن ظروفا أخرى ساعدت الاخوان للإقتراب من الحكم ، وهم غير مؤهلين له ، يواجهون جنرالات مبارك ومجلسهم العسكرى ، وهو الآخر غير مؤهل للحكم . هو صراع على السلطة يتنافس فيه من لا يصلح للسلطة . السلطة التى نقصدها ليست سلطة الاستبداد ، فسلطة الاستبداد الغاشمة وقدرتها على التعذيب والارهاب وصناعة القهر تجعل حكاما من أمثال القذافى ومبارك يحكمون عقودا من الزمن. نحن نتحدث عن دولة حديثة ديمقراطية قامت من أجلها الثورة المصرية ، ثم يتصارع على اختطافها الآن غلمان الاستبداد العسكرى والدينى .

3 ـ وبدا للإخوان والعسكر أن مصر تعود الى مربع الصراع بين العسكر والاخوان الذى كان عام 1954 ، وانتصر فيه عبد الناصر على الاخوان ، ويأمل الاخوان فى هذه المرة أن ينتصروا وأن ينتقموا . ولكن نسى الأخ محجوب ونسى الجنرال يعقوب أن العصر غير العصر ، وأن مصر 1954غير مصر 2012 . وانه كانت هناك زعامة فى العسكر اسمها عبد الناصر هى التى أسقطت حكم الملكية ، وكانت هناك زعامات قوية للإخوان هى التى ساعدت فى تعضيد الضباط الأحرار ..لم يعد لدينا زعامات إخوانية كارزمية وليس لدينا جنرالات نفخر بهم . كما حدث للأخ محجوب : مال المال وحال الحال وذهب الذهب وفضت الفضة ..ووصلنا الى القاع فى كل شىء ، فى السياسة والزعامة من سعد زغلول الى جمال عبد الناصر ثم أخيرا الى مبارك وطنطاوى وعمر سليمان وشفيق ، ومن حسن البنا والهضيبى وسيد قطب الى عاكف والشاطر وحازم والعوا وبديع . وحتى فى الموسيقى والغناء . من سيد درويش وأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم الى شعبان عبد الرحيم وسعد الصغير.

3 ـ البطل المنتظر ،أو المهدى المصرى المنتظر هو شباب الثورة ..هم أصحاب الحلم ..وهم أصحاب الوقت ..عليهم التضحية للاطاحة بالإخ محجوب وبالجنرال يعقوب .وإلّا سنهبط بعد القاع الى أسفل سافلين .

اجمالي القراءات 12060