الأبعاد الإستراتيجية لعلماء بني اسرائيل
من وحي سورة يوسف الأبعاد الإستراتيجية لعلماء بني اسرائيل

محمد خليفة في الثلاثاء ٢٧ - ديسمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

البعد الإستراتيجي لعلماء بني إسرائيل :

دأب علماء بني اسرائيل على استنباط أحكامهم من توجهات وتوجيهات أنبيائهم، بعد تجريدها من الخيرية التي جاءت عليها والتي هي كانت الغرض الأسمى  لرسل الله من الأنبياء والمرسلين إلى بني اسرائيل، ومن ثمّْ أحالوها  لشئ كريه وبغيض واضعين نصب أعينهم مصالحهم الذاتية المباشرة، المغرقة في المادية والدونية.
ولنبحر معا في آيات سورة يوسف كي نقف على الكيفية التي تمكن بها علماء بني اسرائيل من تخليص وصايا انبيائهم من الخيرية والتي هي الأصل ، وكيف تحول بعضها إلى أعراف وبروتوكولات حكماء صهيون..!!

نبدأ أولا بالآية الفاصلة :

{ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)}

 

تلقف حكماء بني إسرائيل ، بنود الحكمة الثلاث المشار إليهن في الآية المذكورة ، وكعادتهم في تحريك الأشياء والأقوال طبق إرادتهم وما يرون أنه سيزيد من مصالحهم ، وزيادة مساحة سيطرتهم وتحكمهم في رقاب البلاد والعباد ، ليس عن خيرية فيهم  ولكن عن طبيعة سوداوية في أعماقهم ، وتشكيك عنصري ترسخ في أذهانهم ، بأنهم خير أمة أخرجت للناس ، وهذا بالطبع بعيد كل البعد عن الحقيقة ، بل فيه مجافاة لها ، إلا أنهم يروجون لذلك ، ويطنطنون به ، يساعدهم في ذلك وسائل إعلامهم العالمة الدارسة القوية ، ويقوي من آثارها التخلف الفكري المزري والذي نحن المسلمون  عليه .

 

 صار ذلك  ديدنهم ، وخطتهم الإستراتيجية المثلى ، فهم يتعلمون جيدا ، بل ويعلمون أولادهم الحذق والإتقان ، وبذلك يملكون أحد أطراف الملك ، ومن ثم يقومون بدفع أبنائهم إلى مناطق الثروة والسلطة ، فيتحسسون طريقهم إلى المراكز القيادية  بعلمهم وبإتقانهم لأعمالهم ، والمحافظة الظاهرية على إيفائهم بالعهود والعقود ، إلى أن يصلوا أو يصل واحد منهم إلى أحد المراكز القيادية.

 

  لكنهم أثناء ذلك يحرصون دائما على ألا يكونوا في موقف الصدارة ، ولا في مكان متخذو القرارات ، حيث الأضواء دائما مسلطة على المسؤل الأول -  ملكا كان أو رئيسا - هم يحرصون على أن يكونوا دائما في الظل ، يشاركون في صنع القرار وتوجيه صانع القرار، وليس لهم أن يظهروا في الصورة ، يحركون الأمور وحسب الظاهر إلى مصلحة المؤسسة ، ولا تغيب أعينهم أبدا عن  مصالحهم.

 

 ما أن يحدث هذا ، إلا ويتنادون إلى تسكين ذويهم معهم المسلحين بالعلم وبالخبرات المتعددة ، فما يلبثوا إلا وقد صارت الأمور إليهم ، بعد أن يخلقوا شبكة متداخلة من مصالح القوم ومصالحهم ، مما يعني أن أي إضرار بوجودهم أو بمصالحهم سيكون له تأثير مباشر على مصالح القوم اللذين هم  فيهم ، حينئذ ...تتغير القوانين طبقا لما يرونه أكثر مناسبة لهم ، وما يزيد من مكاسبهم المادية ، ويزيد أيضا من شدة إطباقهم على مقدرات البلاد والعباد.

هذه هو خطهم الإستراتيجي العام ، وهذه هي خطتهم المثلي  ، وذلك من اليوم الذي أصدر فيه نبي الله يوسف توجيهه المسبب  ، وندائه التاريخي الأزلي

{ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) } 

 

وأعود للتأكيد بأن نبي الله يوسف إنما قالها من جانب الخيرية ،ولم يذهب فكره أبدا لهذه التحولات الخبيثة والتي ابتدعها حكماء بني إسرائيل ، وصاروا يطورونها ويحسنون من آدائها ، إلى أن بلغوا بها مرتبة عالية ، أخزاهم الله.
واستمرارا للمنهجية التي برع حكماء بني إسرائيل في تفهمها وتشربها في قلوبهم ، من توجيهات أنبيائهم ، والتي عادة ما تكون وليدة لموقف  ، أو لتوجيه النصيحة ، أو أخذ الحيطة والحذر ، والأصل فيها كلها  هو الخيرية والمقصد الصالح ، والتي يتسم بها  كل رسل الله وأنبيائه في توجهاتهم وتوجيهاتهم ، ونداءاتهم التاريخية ، ثم لا يلبث هؤلاء - حكماء بني إسرائيل -  أن يحيلوها إلى إستراتيجية عامة وخطة دائمة ، ذلك بعد أن تصاغ فيما يشبه نفس الألفاظ التي استخدمها أحد أنبيائهم ، لكن مقصدها يكون في الإتجاه المعاكس تماما ، بما يناسب رغبتهم في إذلال العالم وتسخير الناس إلى أن يكونوا عبيدا لهم ، وهي ليست تلك العبودية النمطية القديمة ، لكنها عبودية من نوع جديد وأطرزة متقدمة ، بعدما يحكموا قبضتهم على مقدرات الخلق ومأكلهم ومشربهم ، وأموالهم واقتصادياتهم ، بل يذهبون إلى أكثر من ذلك ، وذلك بفرض الوصاية وخنق حرية الحركة وتقييد اتخاذ القرارعلى الشعوب التي يلقيها حظها العاثر في طريقهم ، والتي يجب وأن تتحرك ضمن أطر محددة ، لا تخرج عنها ، ولا تملك منها فكاكا ، مما يزيد الطين بلة ، فلا هي بمستطيعة الإفلات من قبضتهم والتي سبق وأن أحكموها في رقاب العباد ، ولا هي قادرةعلى تغييرالوضع ، والذي يصب دائما في زيادة  مصالح بني إسرائيل وفي تعظيم تحكمهم أكثر وأكثرفي مصائر هذه الشعوب.

ودليلنا فيما سبق وأشرنا إليه آنفا هو تلك الكلمات النورانية التي وردت في آيات سورة يوسف ، والتي سوف نستعرضها ، ملقين الضوء على ما بها  من النصائح الخيرية ومن المقاصد الصالحة ، ثم نعرج إلى ما أحالوه إليه حكماء بني إسرائيل ، ليكون إستراتيجة عامة تعتنقها أجيالهم إلى أن تقوم الساعة .

تشير كل من هذه الآيات ، واقع الأمر ، إلى واحدة أو أكثر من الخلق غير القويم ، والذي أصبح يشكل سمات الشخصية العبرانية ، وليس ذلك فحسب بل صار جزءا لا يتجزأ من بروتوكولات حكماء بني إسرائيل ومن أساسيات الإستراتيجية العامة التي تحكم منهجهم في الحياة  وتصرفاتهم عبر الزمن.

 

كلمات الآية ( 61 )

{ قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) }

وهي في مقطعها الأول تفيد اللجوء إلى الحيلة ، والإلتفاف ، والمداورة ، لمراودة الشخص الذي يوقعه قدره العاثر في براثنهم ، وذلك لإ قناعه بما يريدونه أن يقتنع به

والمراودة لا تعني المحاولة الأولى فقط ، لكنها تعني عدة محاولات ، مع تغيير المدخل وتعديل المقدمات ، واختيار اللحظة المناسبة من كافة وجهات النظر - النفسية والزمنية والمكانية بل والمناخية -  لبدء تلك المراودات.

أما مقطعها الثاني والذي جاء في عجزها
 ".... وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ...."

وهي تعني شدة الإصرار على المراودة ، حتى الوصول إلى المراد ، ومما يزيد الإحساس بشدة درجة الإصرار هو ظهور حرف لام التأكيد في مستهل الكلمة ، مما يعني أنهم جادون في ذلك الفعل ، مصممون على المحاولة ، وتكرار المحاولة مرات متعددة ، ولن يردهم عن غيهم إلا الحصول على موافقة المتلقي الأب الشيخ.

 

 

 

كلمات الآية ( 63 )

 { فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) }

جاء بدأ كلمات الآية .. فَلَمَّا..  ، أي بحرف الفاء الدالة على التعاقب مع التعجيل أو مع الفورية ، مما  يعني التسارع والرغبة السريعة الملحة في إنهاء ما يرجونه ، ويوحي أيضا بأنهم بمجرد ما أن وصلوا إلى ديارهم فقد هرعوا إلى أبيهم ، واستعملوا معه أسلوب المباغتة ، واستثارة الفضول في نفس المستقبل لكلامهم ، فقد أشاروا إلى ما يدفع المتلقي للتساؤل عن السبب الذي منعهم من الكيل أو يمنع الكيل منهم ، واستعمال كلمة ... مُنِعَ مِنَّا... تعني بأنه يوجد عائق ما ، أو شرط مانع فيهم ، هم بالذات ، ولا يخص غيرهم ، هذا المانع لن يمكنهم من معاودة الكيل.

طبعا هم نجحوا في إستثارة عجب ودهشة الأب وحيرته ، ووصلوا إلى تعظيم هذا الإحساس عنده ، حتى صار يتلهف لمعرفة السبب في ذلك ، ولما تيقنوا من بلوغ أبيهم هذه الدرجة من التشوق وإعمال الفكر عندها ألقوا بصاعقتهم ... فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا..

ثم زينوا هذه البلوى ، بأنهم يضمنون بهذا معاودة الإكتيال ، ثم أضافوا  - من فرط كرمهم ..!! - أنهم سوف يحافظون عليه من الهوام السابحة في الأجواء المحيطة من أن تصيبه ، وفي هذا التصريح الأخير يظهر التحايل واضحا ، فهم يسمعوه من العبارات المطمئنة ، ما يود أن يسمعه.

 

كلمات الآية ( 65 )

 { وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) }

توحي كلمات هذه الآية باستخدام النصيحة العرفية ، من الأمثال العربية التي تقول

 [  أطرق الحديد وهو ساخن  ]

فمما أوحي  بضرب هذا المثل في هذا المقام ، هو الإحساس الذي وصل إليهم ببدء ميل الأب نحو الموافقة ، وعلى الفور تم تقديم المغريات التي تجهز على البقية الباقية من مقاومته

     "......قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا ...."

ثم بدأ أسلوب الترقيق،بالإشارة إلى أنهم إنما يفعلون ذلك من أجل الأهل والعشيرة " وَنَمِيرُ أَهْلَنَا"

ثم بعدها معاودة التأكيد على أنهم واضعو أخاهم المقصود ، في أعينهم ، من شدة تأكيدهم الحفاظ عليه ، والحرص على سلامته   "... وَنَحْفَظُ أَخَانَا.."

ثم يأتي بعد كل ذلك وتلك، ثالثة الأثافي ألا وهي إنتهاز الفرصة المتاحة أمامهم بالحصول السهل على كيل إضافي دون تعب يذكر أو دون مقابل تقريبا !!

"... وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ...."

 

كلمات الآية ( 66 )

 { قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) }

 هذه الكلمات تبين مدي حرص نبي الله يعقوب علي تنبيههم إلى أهمية الإيفاء بالعهود ، والإلتزام بالمواثيق ، وسوف نلاحظ تسرعهم في الموافقة للتعجيل بالإستجابة لمطلبهم ، وهذه تؤخذ على إخوة يوسف ولسوف نضيفها إلى سمات الشخصية العبرانية عند الحديث عنها ، لكن ما يعنينا الآن ليس هو إلتزامهم بهذا العهد الذي قطعوه على أنفسهم من عدمه ، لكن الذي يعنينا هو ما صارت إليه هذه الإتفاقية من كونها صارت بندا رئيسيا وعمودا أساسيا في إستراتيجيات حكماء بني إسرائيل ، فهم سريعو الإستجابة إذا ما كان هناك تناد للعهود ، بل وسريعو الإقتراح بعقد المواثيق إذا ما إقتضت مصالحهم ذلك ، وفي ذات الوقت سريعو نقض هذه العهود ، سريعوا ضرب الحائط بهذه المواثيق وإعطاء ظهورهم  لها ، صار ذلك ديدنهم وسرهم - الذي لم يعد سرا -  بعدما تكشف منهم وعبر آمـــاد طويلة ، أنهم لا خــلاق لهم ، ولا عـــهد لهم ، ولا  إلاً  ولا ذمة.

 

كلمات الآية ( 67 )

 {  وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) }

 حين قيلت هذه الكلمات إعتبرت في مجال العلوم الإدارية أنها واحدة من النظرات الإدارية السديدة ، وغاية أبوية شديدة الإحكام ، حيث شكلت ضرورة أمنية ، وحلا لإشكالية تأمينية ، بألا نضع البيض كله في سلة واحدة ، فلا يصح مثلا عند سفر إحدى الفرق الرياضية أن تسافر كلها على متن طائرة واحدة ، بل يتفرق الفريق والمشرفين والإداربين إلى عدة مجموعات بحيث تسافر كل مجموعة منها على حدة ، فإن حدث مكروه لإحداها ، شكل ذلك نصف مصيبة ، لكن أن يضيع الفريق كله في ضربة واحدة تلك هي المصيبة الكاملة.

تلقف حكماء بني إسرائيل تلك النصيحة ونفذوها لكنها على طريقتهم ، بأن جعلوها من باب الحيطة والحذر من مغبة التفاخر بالكثرة ، وعدم إظهارالغلبة ، وانعدام استعراض القوة ، والعمل على الظهور دائما بمظهر القلة القليلة المستضعفة ، وانعدام الحيلة ، وشدة المسكنة.

 

كلمات الآية ( 70 )

 { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) }   

جاءت كلمات هذه الآية مشيرة إلى إيماء الله لنبيه يوسف ، بعمل تلك المسرحية ، نظرا لإحكامها ، وأنها كانت السبيل الوحيد للإبقاء على شقيق نبي الله يوسف إلى جواره ، كانت الخيرية مقصده ، وكان الخير في ركابه.

تلقف حكماء بني إسرائيل هذه الفعلة والتي تنضح بالخير ، وتحولت في أعرافهم إلى إستسهال إفتعال أحداث وأقوال غير صحيحة ، والقاء التهم الملفقة بإحكام ، وحرفية منضبطة ، ومن تمام الأوراق والوثائق المحبوكة بعناية العارفين الخبراء - والتي غالبا ما تكون ملفقة مزورة  - هذه التهم التي سوف تلقى   جزافا على برئ لا يملك أمامهم حولا ولا قوة ، ذلك للحصول على مصلحة منه ، هذه من ناحية ، ومن الناحية الأخرى تجعل من هذا المتهم البرئ عبرة لمن تسول له نفسه التفكير  -  ولو بمجرد الهم به - في المطالبة بحق مشروع له لديهم ، وكأن لسان حالهم يقول أن بوابات جهنم سوف تفتح على من يظن أنه يمكن له أن يأخذ منهم حقه المسلوب منه.

 

كلمات الآية ( 74 )

 {  قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) }

عندما أفصح معاونو يوسف بهذه الكلمات كان غرضهم استخلاص الحكم العبراني من أفواه إخوة يوسف - وهو بأن يصير السارق عبدا للمسروق منه لمدة عام كامل – وفي هذا رفع للظلم من مغبة توقيع عقاب عرفي محلي بقوانين البلدة ، أو ما جاء ذكره على أنه قانون الملك

{... كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ....."

وهي في ذاتها كانت خطوة نحو الخير ، وهي عدم توقيع عقوبة من أي نوع على الشقيق المتهم البرئ ، وكذا كانت لإكمال خطة إستبقاء هذا الشقيق إلى جوارنبي الله يوسف.

لم يقف حكماء بني إسرائيل بالحدث عن مراده الخيري ، بل جعلوا منه نبراسا ، وهدفا يرتجى ، وهو أنه لا ضير مطلقا في استخدام المراوغة والإلتفاف للحصول على المغنم الأكبر ، والذي يتوافق مع الهدف الأبعد...!!

 

كلمات الآية ( 76 )

 { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) }

حيلة لطيفة ومداعبة خفيفة ، هي تلك التي أمر نبي الله يوسف غلمانه باتباعها لإكمال مسرحية إستخراج سقاية الملك من راحلة أخيه ، هو كان يعلم يقينا أنها في وعاء أخيه لأنه هو الذي أمر بدسها هناك ، وواضح من تكرار الكلمة ذاتها

  ".....ْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ...."

أنه أجرى التفتيش على مرحلتين ففي المرحلة الأولى ، صار التفتيش في أوعية الإخوة ولما إنتهي من تفتيشهم جميعا - فيما عدا رحل أخيه - ، وإمعانا في المداعبة أظهر أنه قد إكتفى بما كان قد فتشه فعلا ، وأنهم براء من التهمة ، حينها صاحوا جميعا ، أنه ولابد من تفتيش الوعاء الباقي وهوكان بذاته وعاء أخوه ، حتى تكون البينة كاملة ، وتمنع قليلا  لكنهم ألحوا في ضرورة تفتيش الوعاء المتبقي ، لتكون البراءة الكاملة ، حينها إستخرجها من وعاء أخيه ويدل على ذلك استخدام النص للآداة التي تعني التعاقب مع التراخي  " ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا  "     قبل التكرار الثاني لكلمتي     "   وعاء أخيه   ".

كان الأمر لا يحدو أن يكون إلا مداعبة لإكمال مسرحية قام نبي الله يوسف بتنسيق خطواتها ووضع كلمات حوارها وإخراجها ، وحتي تزامن خطوات الوقت والحركة فيها ، بل أضفى عليها موسيقاها التصويرية  ، كل ذلك كان غرضه الوحيد هو الخيرية ، وكان الحدث بذلك خطوة ، لابد من تنفيذها قبل أن يكشف يوسف عن نفسه لإخوته ويستدعي معهم أهلهم أجمعين ، إلى منعتي الإطعام من الجوع ، والأمان من الخوف.

أخذ حكماء بني إسرائيل هذه الحادثة ، وطوروها إلى أن تصبح واحدة من حيل البحث الجنائي ، وأسلوب من الأساليب الملتوية  لإجراء التحقيقات ، وهو بأن تأخذ بالحيطة والتدبر ، والظهور بمظهر البراءة والسذاجة والنمطية الروتينية ، لكي تتخدر أعصاب الضحية ، وتظن أنها أفلتت من العقاب ، ثم بعدها وفجأة تأتي المباغتة للحصول على الدليل الدامغ ، والذي لا يكون معه مهرب ولا فكاك من إثبات التهمة على المتهم.

   

 كلمات الآية ( 77 )

{ قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) }

فهم هنا قدموا بأنفسهم باقة من الرذائل المرزولة ، جاء في مقدمتها الغيبة ، فهم يغتابون شخصا ليس بحاضر هذا الجمع ، ولا يملك الدفاع عن نفسة ودفع التهمة عنها ، ثم أنهم بهتوا ذلك الغائب ووصفوه بما هو ليس فيه ، والثالثة أنهم تبرؤوا من قرابتهم له وأنكروا صلتهم به ، وقطعوا كل علاقة تربطهم بالمتهم ، فقالوا "... أَخٌ لَهُ..." وكأنهم يريدون القول إننا لا نعرف هذا المتهم ، وهذا الفرع من العائلة هو الفرع السئ الذي يقترف السوء وأنه هو وأخوه ، قد احترفوا داء السرقة ، وفي هذا ظلم وافتراء وجحود ، وفيه التخلي عن مؤازرة المتهم ، كان هذا على إفتراض أن التهمة الموجهة إلى أخيهم كانت تهمة حقيقية.

 ثم جاء عجز الآية بجعل حزمة ما تلفظوا به يدخل كله في دائرة الوصف ، مما يوحي بأن كلامهم مكذوب ، وحديثهم شائن لهم ، وكان تملصهم من الفعلة ، يدل على الخسة والنذالة أثناء الشدة والملمات ، وعدم مؤازرة الرفيق والصديق ، فما بالك بالأخ والشقيق.

وكلمات هذه الآية تدل على التصرف السريع ، والتملص الأسرع ، والنكوص عن تقديم العون ، والتخلص من الشبهة بل من مجرد الشبهة ، ولو بإلقاء التهم جزافا وبالكذب على الآخرين ، وخاصة إن كانوا غائبين ، ولا يملكون الدفاع عن أنفسهم في مواجهة التهم المنسوبة إليهم زورا وبهتانا.

 

كلمات الآية ( 78 )

 {  قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) }

تتكون هذه الآية ، واقع الأمر من أربعة مقاطع كل منها يشير إلى واحدة من الخلق غير القويم ، والذي أصبح يشكل سمات الشخصية العبرانية ، وليس ذلك فحسب بل صار جزءا لا يتجزأ من بروتوكولات حكماء بني إسرائيل ومن أساسيات الإستراتيجية العامة التي تحكم منهجهم في الحياة  وتصرفاتهم عبر الزمن.

أول هذه المقاطع هو       {  قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ...."

وهو ما يعني إضفاء صفات التفخيم والتعظيم على الشخصية الحاكمة ، كنوع من التقرب والترقق والزلفى ، فقولهم  أيها العزيز، وهو صفة أو لقب لم يكن يوسف قد بلغها بعد  - ذاك الحين - ، وهو توجيه بتفخيم أي شخصية وندائها بما تصبو نفسها إليه من منصب ، أو تتوق إليه من مكانة ، حتى يمتلكه الزهو ، وتنتفخ أوداجه غرورا وصلفا ، حينها يسهل توجيه قياده نحو ما يبغون.

 

المقطع الثاني  هو         "... إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا..."

يشير هذا المقطع في معناه العام إلى التبرأ تماما من هذا المتهم ، ونفي أي صلة قرابة به ، فقولهم إن له أبا .. ،  بدلا من قولهم  ، إن أبانا شيخا كبير.. ، تعني النكوص على العقبين حين تتأزم الأمور ، وهذا ينبأ عن الغدر ، والتخلي عن الناس في أحلك الأوقات ، وأحرجها في الوقت الذي يكونون فيه في أمس الحاجة إلى التعبيرالمشجع ، والعبارة اللطيفة ، والكلمة الحانية ، وكان تملصهم من الفعلة ، يدل على الخسة والنذالة ، وعدم مؤازرة الرفيق والصديق ، فما بالك بالأخ والشقيق ، وهذا توجيه بإعتناق النذالة ، إذا لم يكن في غيرها مهرب.

 

أما المقطع الثالث وهو    "... فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ..."

وهذا الجزء من الآية يومئ إلى ماهم عليه من قدرة على الفصال بل هو الفصال المستميت للحصول على المأرب بأقل الخسائر ، حيث رسخ في أذهانهم ، أن أي واحد منهم سيكون عند الأب أقل في الأهمية من الإبن الأصغر ، وهو تصور مريض وفكر مشوه غير لائق ، فكل الأبناء عند الآباء سواء ، والذي يدلل على ذلك القول الذي جاء على لسان نبي الله يعقوب

"... عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)

معلمة أخرى نود إلقاء الضوء عليها ، وهي أننا لو إفترضنا  -  جدلا  -  موافقة يوسف على الإستبدال ، وأخذ أحدهم مكان المتهم ، لنشأ خلاف بينهم ، فأيهم هذا الذي سوف يضحي بنفسه في سبيل إنجاء من يظنونه سارقا.!! ؟؟

 

رابع هذه المقاطع  هو     ".... إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ "

وفي هذه عودة لما جاء به المقطع الأول من إضفاء صفات العظمة والفخامة على الشخصية الحاكمة ، وهم في هذه الصفة بالذات كانوا صادقين ، لكنهم لم يقولوها من باب التصديق عليها ، لكنهم قالوها من باب المداهنة والتملق حتى وإن كانت صادقة ، فهم لم يقصدوا معناها ، وإنما إنصب القصد على ما وراء هذا المعنى،  ألا وهو الزلفى والتملق.

 

وأخيرا يظهر في خلفية الصورة العامة لهذه الآية ، الشعور الدفين بالذنب لما سبق واقترفوه ، وتسببوا في ضياع يوسف ، ولا يريدون أن يزيدوا الطين بلة ، بأن يكونوا سببا في ضياع الآخر.

 


 

هكذا وفي هذا العرض السريع لبعض مما حوته الآيات، نستطيع أن نلمس وفي سهولة ويسر، مالذي فعله ويفعله وسوف يفعله علماء بني اسرائيل، لتجريد وصايا أنبيائهم من الخيرية  والتي هي كانت الهدف والوسيلة، وإحالتها إلى شئ مشوه من التعاليم والتي صيغت في صورة خاصة بهم وأطلقوا عليها بروتوكلات حكماء صهيون.
 
والجدير بالذكر أن ذلك لا يقتصر فقط على آيات سورة يوسف، وإنما يتعداه إلى سور وآيات القرآن جميعا ، والتي تناولت من طرف أو آخر سيرة بني اسرائيل أو سيرة أحد أنبيائهم، فسوف يتجلى على الفور مدى الزعم الذي ذهبنا إليه من حتمية انتفاء الخيرية، والتوجه بالكلية إلى الدنيوية المحضة، كان ذلك دأبهم ودأب أجيالهم إلى أن يشاء الله بزوال هذه الدنيا، يوم يقوم الناس لرب العالمين.


 

 

إعداد المهندس / محمد عبد العزيز خليفة داود

استشاري تصــميم وبـناء نظم المعلومـات الآلية

معهد الدراسات والبحوث الإحصائية – جامعة القاهرة


 

 

 

 

 

 

اجمالي القراءات 13458