هل انتقلنا من دولة بوليسية إلى دولة عسكرية؟

سعد الدين ابراهيم في السبت ٠٥ - نوفمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

كانت أحد الأوصاف التى أطلقناها على مصر فى عهد مُبارك (١٩٨١-٢٠١١) هو أنها دولة بوليسية، حيث كانت «الداخلية» هى وزارة كل الوزارات، فقد كان لتلك الوزارة مكتب أمن فى كل مؤسسات مصر، وما كان شىء ليتم فى أى منها إلا بعد موافقة «الأمن». ومن رسوخ هذه المُمارسة الشاذة، أصبح المواطنون يقبلونها، ويتعايشون معها، «كشرّ لا بُد منه». وأصبح وزير الداخلية هو ثانى أهم منصب فى الدولة، أى أنه أصبح حتى أهم من منصب رئيس الوزراء، وأصبح ضُبّاط البوليس، كل فى موقعه، بمثابة «فرعون صغير».

وقد نوّهنا فى أكثر من مقالة بالتدنى المُفاجئ للروح المعنوية لضبّاط البوليس أثناء الثورة، فقد انفجرت تعبيرات غضب المواطنين تجاههم بألف طريقة وطريقة، ربما كان أكثرها درامية إشعال النار فى حوالى مائة مركز للشرطة فى القاهرة وغيرها من المُدن الكُبرى، والاعتداء على العديد من ضُباط البوليس. وقد أقر وزير الداخلية اللواء منصور عيسوى وكبار مُساعديه بهذه الحقيقة، وطلبوا منى ومن عُلماء الاجتماع المصريين المُساعدة فى تحليل هذه الظاهرة، واقتراح ما يمكن عمله لتطبيع العلاقة بين الشرطة والشعب.

لقد كانت الشرطة هى الوجه الذى تواجه الحكومة به الشعب طوال الجيلين السابقين، وحتى قيام ثورة يناير، وانسحاب الشرطة من مواقعها بأوامر من وزير الداخلية، وقتها، وهو اللواء حبيب العادلى، الذى هو الآن قيد المُحاكمة، فى واقعة إطلاق النار على المُتظاهرين فى ميدان التحرير.

وبعد انسحاب الشرطة من المشهد العام، أصبح المجلس العسكرى الأعلى هو الحاكم الفعلى للبلاد، وما حكومة د.عصام شرف إلا ذراع مدنية لهذا المجلس، أى أن مصر وشعبها قد انتقلا من العيش فى دولة بوليسية، إلى العيش فى دولة عسكرية.

أما العسكر الذين يحكمون الآن، فإنهم طوّروا لُغة الخطاب، فأصبحوا يتهمون المُتظاهرين بأنهم «عُملاء لجهات أجنبية»، وتطوعت وزيرة دولة من الفلول، بترديد نفس الاتهامات، وربما كان ذلك هو سر بقائها فى مجلس الوزراء. والغريب هو أنه لا تلك الوزيرة ولا المجلس العسكرى، أحالوا من اتهموهم بتلك الادعاءات المُرسلة إلى النيابة أو المُحاكمة المدنية!

والخُلاصة هى أن ثورة يناير قد تعرضت للاختطاف، فتارة حاول الإسلاميون من سلفيين وإخوان، اختطافها. وتارة ثانية تُحاول فلول الحزب الوطنى اختطافها، وتقوم بثورة مُضادة، ولكن يبدو أن المجلس العسكرى يُريد أن يكون صاحب السبق فى الاختطاف، ومن ثم يُبادر بتوزيع الاتهامات على الثوريين الأصلاء من الشباب!

وجدير بالذكر أن هذه المُمارسة البالية، بدأت بالعسكريين قديماً، حينما استولوا على السُلطة فى يوليو ١٩٥٢، وهم أول من استحدثوا مُصطلحات من قبيل «فلول العهد الملكى البائد»، و«عُملاء الاستعمار البريطانى»، و«الرجعيين»... وما إلى ذلك من أوصاف لتأليب الشعب، وتعبئة الرأى العام ضد المُخالفين أو المُختلفين مع أولئك الضبّاط.

كذلك لجأ الرئيس الراحل أنور السادات إلى استخدام نفس المُفردات اللغوية، حينما انقلب على زُملائه من العهد الناصرى، فيما سماه هو «ثورة التصحيح» فى مايو ١٩٧١، فأطلق عليهم «مراكز القوى»، و«فلول مراكز القوى».

وقد آن الأوان أن نُُقلع عن هذه المُمارسات السياسية واللغوية البالية، «فالمواطنة» حق أصيل لكل من يولد على أرض مصر، وهى أحد حقوق الإنسان، التى نص عليها الإعلان العالمى لهذه الحقوق منذ عام ١٩٤٨، وإلا سيتحول مُعظم المصريين إلى فلول ـ سواء من العهد الملكى أو الناصرى أو الساداتى أو المُباركى!

إن الدولة البوليسية هى تلك التى يتحكم البوليس أو الأجهزة الأمنية فى كل مقاليدها، ويخضع مواطنوها، لا لحكم القانون، ولكن لأغراض وأوامر من هم على رأس هذه الأجهزة، وفى قمتها وزير الداخلية.

أما الدولة العسكرية فهى التى يتحكم العسكريون، أى قيادة الجيش، فى كل مقاليدها، وهذا هو حال مصر والمصريين منذ ١١ فبراير ٢٠١١، حينما أعلن حسنى مُبارك تنحيه عن السُلطة، وفوّض إدارة البلاد للمجلس الأعلى للقوات المُسلحة.

فإذا كان وزير الداخلية الأسبق، اللواء حبيب العادلى، قد أصدر أوامره لقوات الشرطة أن تنسحب من كل مواقعها يوم ٢٨ يناير، مُبرراً ذلك فيما بعد بأنه فعل ما فعل لكى يُخلى تلك المواقع للقوات المُسلحة، فإن ذلك كان تعبيراً صارخاً لانتقال مصر من «دولة بوليسية إلى دولة عسكرية».

وصاحب هذا التعبير هو عالم الاجتماع المصرى الفرنسى، د.أنور عبدالملك، الذى ظهر له كتاب فى سبعينيات القرن الماضى بعنوان «مصر مُجتمع يحكمه العسكريون»، وقد تُرجم الكتاب فى حينه إلى عدة لُغات من الأصل الفرنسى، الذى كانت أطروحته (رسالته) لنيل درجة الدكتوراه من السوربون.

وقد كان اجتهادنا منذ الشهر الأول بعد نجاح ثورة يناير، أنها مُهدّدة بالاختطاف من الذين قاموا بها من الشباب، وأن الذين يتحفزون لهذا الاختطاف هم أحد ثلاثة:

- المجلس العسكرى، الذى فوّضه مُبارك فى تولى السُلطة يوم تنحى هو عن الرئاسة (١١/٢/٢٠١١)، ورغم خبرتهم السياسية المحدودة، إلا أنهم يملكون القوة المادية.

- الإسلاميون، من الإخوان المسلمين والسلفيين، وهم معاً عدة ملايين، ويحتكرون الاستخدام السياسى للدين، وهم مُختلفون سياسياً وتنظيمياً.

ـ فلول النظام المُباركى، الذين تربّوا فى كنف الحزب الوطنى الذى كان حاكماً لثلاثين عاماً. وتقول التقارير الصحفية، إن أغلبية منهم، رشحوا أنفسهم لمجلس الشعب. والتنويه إلى ذلك ليس اعتراضاً، فهذا حقهم، ما لم تصدر ضد أى منهم أحكام قضائية، باتة ونهائية، تمنعهم من ذلك.

إن معظم أبناء شعبنا يتوقون إلى حكومة مدنية ـ لا هى بوليسية، ولا هى عسكرية، وربما كان ذلك وراء الترحيب الواسع بدخول الدكتور محمد البرادعى إلى حلبة المُنافسة على الرئاسة، وبالقطع كان ذلك أحد آمال شباب التحرير الذين ثاروا فى ٢٥ يناير. ولكن يتوارى البرادعى وشباب التحرير عن الأسماع والأنظار، تدريجياً.. ويتزامن ذلك مع محاولات اختطاف الثورة، فعلينا جميعاً أن نتحفز لحماية تلك الثورة المجيدة التى أبهرت العالم.

وعلى الله قصد السبيل

اجمالي القراءات 8938