ما ليس منه بُد

كمال غبريال في السبت ١٣ - أغسطس - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً


حانت الآن بالفعل ساعة الحسم في مصير الثورة المصرية. . الحسم في تحديد قوى الثورة الساعية لمستقبل أفضل، وفصلها ومواجهتها الصريحة والشجاعة لقوى الظلام والإرهاب، فرغم أننا كنا نرى منذ البداية حتمية الوصول لهذه النقطة، فلا شركة للنور مع الظلمة، ولا ترافق في رحلة إعادة البناء لمن ينشدون الحرية والحداثة، مع هؤلاء المصرين على إعادتنا إلى غياهب القرن السابع الميلادي، والسير بمصر على طريق أفغانستان والصومال والسودان، إلا أنه لا بأس وقد استمر الخلط والاختلاط لستة أشهر هي الأثمن من عمر ثورتنا المجيدة، أن نعتبر هذه الفترة مقدمة كانت ضرورية، تتيح للمفارقين لآمال الأمة ولروح العصر وقيمه مراجعة مواقفهم، والخروج من كهوفهم الخانقة حالكة الإظلام، لتنسم عبير الحرية، ورؤية جمال العالم والحياة في نورها.
كانت الفترة الماضية فرصة لسائر فصائل الإسلام السياسي لكي تلتحق بالثورة والثوار، وليتسامح أصحاب الثورة الحقيقيون، ويقبلون اعتبار هؤلاء جزءاً عضوياً من النسيج الوطني، وليس ورماً سرطانياً في جسد الوطن يحتاج إلى استئصال سريع، قبل أن ينتشر في سائر أنحاء الجسد. . كانت فرصة للخارجين من كهوف ألزمهم إياها جهاز أمن الدولة المباركي، لكي يختلطوا بالمصريين الأسوياء، ويشرعوا على عجل في مراجعة أفكارهم، لكي تتسق مع العهد الجديد وتطلعاته من أجل الحرية والحداثة.. أن يمدوا أيديهم لمن يعلمهم التعايش مع البشر، وفق علاقات تختلف عن سفك دماء مخالفيهم وتقسيم البشر إلى مؤمنين وكفار، كما وكانت فرصة لإبداء اعترافهم بالجميل لشباب الثورة الذي قدم أرواحه من أجل أن نصل إلى بوابة الحرية، فيخرج هؤلاء من السجون والمعتقلات والتواري صاغرين في الكهوف، ليملأوا الدنيا صياحاً وتهديداً ووعيداً لنا جميعاً.
كانت الفترة الماضية فرصة أيضاً للجماعة المحظورة، والمفترض تمرس قياداتها في العمل السياسي، لكي تثبت مصداقية ما تعلنه بين الحين والحين من إشارات توافق وتطمين، ولتدلل أن ما يطلقه بعض رموزها من تصريحات تبدو مستنيرة وقابلة للحوار مع الآخر، هي مواقف حقيقية للجماعة، وليست من قبيل ما نعرفه عنهم من "إيهام القول" أو "التقية"، فيبطلون الحكمة القائلة: "إذا رأيت أنياب الليث بارزة، فلا تظن أن الليث يبتسم"!!
كانت فرصة ذهبية لتلك الكائنات المطاردة من كل العالم أن تدرك اللحظة التاريخية وسياقها، وأنها ليست لحظة امتطاء أعلى خيولهم، وإطلاق أقبح شعاراتهم وأكثرها سواداً، وإنما اعتبارها هدية لهم، أتاحت تواجدهم وسط شباب الثورة الطاهر الحر الليبرالي، والذي تفرض عليه ليبراليته القبول بكافة درجات الطيف المصري، لكن طيف النور الأبيض بدرجاته السبع، وليس طوفان الظلمة الحالكة بسوداويتها. . لكن ذكاءهم لم يسعفهم للفهم ومن ثم التفاهم، وربما حجم التلوث في السيكولوجية أو القلوب قبل العقول قد ضيق عليهم الخناق، فلم يملكوا منه فراراً أو تعقلاً!!
هكذا وبعد كل التفاهمات وموائد الحوار، والحديث عن توافقات وائتلافات وتحالفات، وكلام وتصريحات لها مذاق العسل من هذا وذاك، وأخرى تكذب وتتهرب من تصريحات تنفلت من أكثر من كادر وفي أكثر من مناسبة، مرة بدعوى أنه "كان بيهزر"، وأخرى بدعوى اقتطاع ما قاله من سياقه. . بعد كل هذا التلون الحربائي، ونشر الغبار والضباب أمام العيون، ليظل من يطالبون بالوضوح والحسم محاصرين من قبل إخوانهم، بتهمة انتهاج منهج استئصالي، والتنكر للديموقراطية والليبرالية التي يتشدقون بها. . بل وبعد تسلل بعض الأمل لنفوس الكثير من المخلصين، بأن برجماتية الإخوان لابد وسترشدهم إلى طريق الصواب، ليلعبوا دور قاطرة الجماعات الإسلامية كافة، ليقودونها نحو منهج حداثي مماثل لمنهج حزب العدالة والتنمية التركي. . بعد كل هذا يأتي يوم البينة والافتضاح، لا بيد واحد أو مجموعة من غلاة العلمانيين الاستئصاليين المستبعدين للآخر كما يقال، ولكن بيد قادة الشرازم الظلامية أنفسهم، حين أتى نهار الجمعة 29 يوليو، لينقضوا بغير وجل أو حياء كل اتفاقاتهم مع السادة البسطاء الذين تصوروا "أن للثعلب ديناً"، وأحالوا ميدان التحرير الذي صار قبلة أحرار العالم كله إلى ميدان تورا بورا، رافعين شعارات القاعدة وأعلامها وصور زعيمها الإرهابي المغدور!!
هكذا "جنت على نفسها براقش"، وهكذا فضحوا وفصلوا واستأصلوا أنفسهم بأنفسهم من نسيج هذا الوطن، ومن أحراره الشرفاء أصحاب هذه الثورة، التي حل أوان استردادها من بين أنياب الذئاب!!
قال دهاقنتهم نريدها دولة مدنية، وهم يهمسون "بمعنى لا عسكرية"، وتجاهل البسطاء منا خداعهم المفضوح. . وقدموا للجنة الأحزاب برامج ملونة مزركشة، لا تمت بصلة لنواياهم وتوجهاتهم الحقيقة، تهرباً من القانون الذي يحظر الأحزاب ذات البرامج أو الأنشطة الدينية، وقبلتها الجهات الرسمية مصطنعة البلاهة، وربما من قبيل التواطؤ. . وجلسوا على موائد حوار توصلوا فيها لمبادئ عامة تؤسس لدولة مدنية، معلنين موافقتهم عليها، ثم ينقلبون على تفعيلها لتكون إطاراً للدستور الجديد، مستخدمين حجة طريفة هي حرصهم على عدم وضع قيد على إرادة الشعب. . قول مضحك ومؤسف، من هؤلاء الذين يقوم العمود الفقري لأيديولوجيتهم على مبدأ "الحاكمية"، والذي لا قيمة فيه لرأي شعب أو أغلبية أو أقلية، ويعد فيه أي رأي خارج على ما يفتي به الفقهاء كفراً وخروجاً على الدين!!. . لماذا اتفق الدهاقنة الظلاميون إذن على ورقة المبادئ، وماذا نفعل بها إذن إن لم نُفَعِّلها، غير وضعها في برواز وتعلق على حائط الخداع والتمويه والتضليل؟!!
بيان مجلس الوزراء الأخير، والذي يتحدث عن مراجعة التزام الأحزاب بعدم القيام على أساس ديني هو بداية الطريق لوضع سائر الظلاميين في المكان الذي اختاروه لأنفسهم، ولم يختره لهم علمانيون متطرفون استئصاليون. . هذا الحسم العاجل والناجز هو ما ليس منه بد.

اجمالي القراءات 7847