شاعت في صفوف الأحزاب والجماعات الدينية مفاهيم مختلفة للديمقراطية. فقد اعتبر هؤلاء أن الديمقراطية عملة سياسية مستوردة. وأن الإسلام (إسلامهم هم) لم يعرف الديمقراطية. وأن شورى الخلفاء الراشدين (30 سنة)، ومن جاء بعدهم، وحتى عام 1918 ، وانتهاءً بالعثمانيين، هي البديل. وأن الشورى الإسلامية لا تقوم إلا بقيام الخلافة الإسلامية الراشدية. وأن الديمقراطية الغربية - وخاصة الأمريكية منها - لا تصلح للعرب والمسلمين، لأنها غريبة ومحدثة عليهم، وكل محدث بدعة، وكل بدعة في النار.
أصبح الهمس شمساً ساطعة
وبعد ثورة 25 يناير في مصر، بدأ الهمس يرتفع، وأصبح الهمس شمساً ساطعة وواضحة وذلك عقب نشر أخبار عن حوار يجري بين الإخوان المسلمين المصريين وبين واشنطن. فكل ما عدى ذلك من حوار، مع بقية الإخوان في العالم العربي، لا يتعدى أن يكون غباراً لا أثر له.
ففي القاهرة، قال محمد البلتاجي الذي كان نائباً في مجلس الشعب المصري (2005-2010)، ثم سقط في انتخابات 2010، وأقسم الإخوان بعدها بأن يسقطوا نظام مبارك، وفعلوا ذلك.. قال البلتاجي:
"مصلحة الوطن تفرض التحاور مع أي قوى فاعلة على الساحة الدولية. وأن الإخوان يقبلون الحوار مع واشنطن، ويرفضون الديمقراطية بصناعة أمريكية."
ولو فكرنا، وتأملنا قليلاً، في هذا التصريح، فسنرى سذاجةً، وكلاماً مجانياً، لا معنى سياسياً له.
فمصلحة مصر تفرض فعلاً الحوار مع كل العالم، وليس مع القوى الفاعلة فقط.
ولكن، ما لا نفهمه هو، أن الإخوان يقبلوا الحوار مع واشنطن، ويرفضون الديمقراطية بصناعة أمريكية!
وماذا لدى واشنطن غير إقناع المصريين – والإخوان بشكل خاص – بانتهاج نهج الديمقراطية، وكان هذا مطلب واشنطن منذ 1952.وتأكد هذا المطلب في عام 2003 بعد حملة "حرية العراق" التي تحوّلت إلى "حريق العراق" على أيدي الطوائف العراقية المتنازعة. وقال بوش في ذلك الوقت من أن : "للعالم مصلحة واضحة في انتشار القيمالديمقراطية، لأن الاستقرار في الأمم الحرة، لا يؤدي الى ظهور إيديولوجيات القتل، بليشجع على السعي السلمي لحياة أفضل". ولعل هذا كان الدافع وراء حملة "حرية العراق" التي حولها العرب والمسلمون إلى حملة "حريق العراق" بما أرسلوه للعراق من قوافل الدمار والإرهاب والموت. وكان الاهتمام الأمريكي بنشر الديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي يرتبط باعتبارات المصالحالأمريكية.
ويلاحظ بعض المحللين، أن بعض القادة السياسيين الأمريكيين المنتمين إلى الحزب الديمقراطي، مثل كيندي، ومجفرن،وهمفري، يدعون الى دعم الديمقراطية في العالم الثالث، لاعتبارات أخلاقية إنسانية، ويعارضون دعم أمريكا للأنظمة الدكتاتورية، كما يعارضون تدخلهالضرب الأنظمة الليبرالية.
ولكن، هل هناك ديمقراطية بصناعة أمريكية، لكي تُتَّبع؟
وإذا كان هناك مثل هذه الديمقراطية – في القاموس السياسي للإخوان – فهل تصلُح أن ُتطبق في مصر بواسطة "الإخوان"؟
ما هي الديمقراطية الأمريكية؟
هناك ديمقراطية أمريكية، قال عنها المفكر الفرنسي اليكسس توكفيل في كتابه المهم "الديمقراطية الأمريكية، 1835":
"إن الديمقراطية الأمريكية ملتصقة بالمجتمع، وممارَسة في علاقات الناس اليومية، فهي أقرب إلى الثقافة الجمعيةالتي يتشكل منها عقل سياسي حر، وناقد، بعقلانية، للسلوك العام. والديمقراطية الأمريكية تميل إلى الممارسة اليومية والعلاقات الحياتية. فهي أوسع من أن تكون صيغة نظام أوفكرة تقول بها الدولة بينما الناس يعيشون علاقات ثقافية تقليدية ومستبدة وبعيدة فيجوهرها الإنساني والحقوقي عن مبدأ الديمقراطية ومعانيه الشاملة."
لذلك رأى توكفيل - كما قال أحد الباحثين - في الديمقراطية "ذلك الوعاء الذي يزيد من جرعة النقد، ويطوّر ملكة العقل، ويساعد الفرد على استخدام قدراته العقلية في الاختيار، والتفضيل."
كذلك وجد توكفيل، أنالديمقراطية "تُطلق سراح العقل من الأسر، وتكسر تلك القيود الاجتماعية التي تُكبِّلالإنسان، وتحاصره في حياته اليومية، وسلوكه الشخصي."
فهل هذا يتناسب ويتماشى مع البنية السياسية التقليدية الأرثوذكسية للإخوان، التي تقوم على فرض الطاعة العمياء على عناصر الحزب، وعدم النقاش والرفض؟
إن الديمقراطية نبتة خضراء محلية، ذات بيئة محلية جداً. فما يصلح منها في أمريكا، لا يصلح في مصر. وما يصلح منها في مصر – ربما – لا يصلح في السودان، أو ليبيا. وما يصلح منها في لبنان، لا يصلح في سوريا أو في العراق. وما يصلح منها في الأردن، لا يصلح في الخليج.. الخ.
أين فرضت أمريكا ديمقراطيتها؟
لقد احتلت أمريكا العراق لمدة ثماني سنوات (2003-2011) وكانت قبل ذلك في الكويت، وأجزاء من السعودية، فهل أرغمت أمريكا هذه الأقطار على تبني ديمقراطيتها المزعومة؟
بل إن أمريكا أغدقت على إسرائيل ثم على مصر، والأردن، أموالاً طائلة بدءاً من عام 1979، بعد اتفاقية "كامب ديفيد"، و "وادي عربة"، ولم تجبر هذه الأقطار الثلاثة على انتهاج الديمقراطية ذات الصناعة الأمريكية.
فكيف يستقيم كلام محمد البلتاجي عن هذا الموضوع؟
وهل الإخوان منهمكون في كيفية التطبيق الديمقراطي من عدمه، أم أنهم منهمكون في كيفية الوصول إلى السلطة، وتحقيق أهدافهم الخاصة في المكوث في السلطة أطول فترة ممكنة؟
وربما سنشهد في تلك الفترة، دكتاتورية دينية، كتلك التي كانت سائدة في العصرين الأموي والعباسي، وكذلك في العهد العثماني، وهو ما سيسعى الإخوان إلى تطبيقه من خلال الخلافة الإسلامية، التي يدعون إليها .
لا حساب لعامل الزمان والمكان
لقد غاب عن "الإخوان" عامل الزمان والمكان في نظراتهم السياسية. فهم لا يقيمون اعتباراً لا للزمان، ولا للمكان. وعندما نقول بالزمان والمكان، فإننا نعني اعتبار المتغيرات التي طرأت على المجتمعات منذ 15 قرناً مضت، وما صاحب هذه المتغيرات من تكوين مجتمعات جديدة ذات قيم جديدة. ولكن ما زال الإخوان يحلمون بواقع سياسي غير حقيقي وغير واقعي، وليس له مكان على وجه هذه الأرض. والمطلوب من الإخوان أن ينظروا حولهم، ويتأملوا كيف يدور ويدار هذا العالم، بخيره، وشره، لا أن يغمضوا أعينهم عما يجري في العالم من تحولات، وتغيرات جديدة.
ما معنى تعفف الإخوان؟
كثيراً ما يشيع الإخوان بأن أمريكا أو أوروبا تريد الحوار معهم، باعتبارهم أكبر حزب سياسي في المنطقة. وكثيراً ما يقولوا أنهم متعففون عن مثل هذه الحوارات. وهم بذلك كالصبية الجميلة التي يطلب كافة الشباب ودها، ولكنها تتعزز، وتتعفف، وتتجمل، وترفض الدعوة إلى ليلة مقمرة.
فقد سئل محمد البلتاجي مرة عما إذا كان هناك استئناف للحوار مع أمريكا، فكان رده المتعالي، وباستكبار شديد:
"الجماعة لم تقم بأي حوارات مع الأمريكان من قبل، ولم تجرِ أي حوارات حتى وقتنا هذا، وقد عقبنا بتصحيح هذا الخطأ الذي ورد في تصريح هيلاري كلينتون، ولعله خطأ مقصود بهدف الاصطياد في الماء العكر، ومحاولة لإثارة ألغام لتوظيفها ضد الإخوان داخلياً، ونحن ندرك ذلك جيداً، ولذلك أي حوار سيكون بين الإخوان والأمريكان سيكون عبر القنوات الشرعية وفي العلن."