ضلالات ما قبل النهاية !

فؤاد راشد في الثلاثاء ١٧ - مايو - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

 

في عالمنا العربي المنكوب بالحاكم الفرعون المتأله , تختلف البدايات عن النهايات علي نحو يصل عادة الي حد التناقض , فأنت تري الحاكم في بداياته ممعنا في البساطة ( غالبا لأنه لايصدق الجاه النازل قضاء وقدرا ) فيأبي أحيانا أن يناديه أحد بوصفه رئيسا من باب التواضع , ويسجن أحدهم بعض أقاربه القريبين من باب تحري العدالة , ويتخلي البعض مؤقتا عن مظاهر الأبهة التي رفل فيها سابقه , وتمر الأيام ويلتف المنافقون وأساتذة ابلي&Oe;يس – لاصبيانه – ويسيطرون علي الحاكم وهو عادة ينفر مع الوقت من الثقافة ,  لأنه ليس من المعقول أن يتعلم من أحد وهو منبع الحكمة يتنفسها في صحوه وربما خلال  منامه  أيضا .

وبمرور السنين نجد حاكما ” صناعة منافقين ” غير الذي بدأ تماما , فقد يبدأ بلقب الأخ الرئيس وينتهي الي لقب ملك الملوك كحالة القذافي , وقد ينتهي الي لقب أمير المؤمنين ولو كان المرشح لامارة المؤمنين لاعب قمار لايشق له غبار كالملك فاروق , ولم ينكر أشد المعتصبين له براعته في لعب القمار والكسب – طواعية – من خلال موائده حيث دأب جلساؤه الأثرياء علي تركه يفوز والأسباب معلومة , وقد ينتهي الي لقب الرئيس المؤمن كالسادات وكان هناك من ينادون في آخر أيامه بمنحه لقب سادس الخلفاء الراشدين وكان الأمر ذائعا لاسرا , برغم أن المرشح سادسا للخفاء الراشدين كان يتعاطي الخمر وتحديدا ” الفودكا ” باعتبار أنها لاتخلف رائحة بفمه وقد نشر هيكل ذلك في كتابه ” خريف الغضب ” منذ ثلاثين عاما ولم ينف أحد روايته !

ومع نهايات عمر الحاكم أو نهايات حكمه خاصة ان طال به الأجل , تسأل أين مابقي من الأصل فلاتكاد تجد شيئا , فقد ذهب التواضع وحل الكبر والعناد وكان لمبارك قول أثير مؤداه حصوله علي دكتوراه في العناد , وهو قول نصفه الصحيح كان في مواجهة شعبه ونصفه الكاذب كان في مواجهة اسرائيل وأمريكا فقد كان سهلا هينا لينا يخجلهما  بفيض كرمه من مالنا وعلي حساب مستقبلنا حتي ذبحوه بسكين بارد حين قالوا تارة انه كنز اسرائيل الاستراتيجي وتارة أنه ثاني أهم شخصية في تاريخ الكيان الصهيوني !

علي أن أغرب مافي قصة الحكام ” صناعة المنافقين ” هو مايكون في نهايات النهايات من عهودهم , وذلك أن أمرين يجريان بحكم طول البقاء أولهما  الفساد وانسداد الأفق السياسي وتردي الأحوال عامة  ثانيا مايعتري الحاكم باعتباره بشرا من تأثير عوامل السن والمرض والترف المورث للوهن بحيث يصل الي نوع من التهالك الشديد صحيا ونفسيا , وعند هذه النقطة يتعاظم دور الدائرة الضيقة المحيطة لتصبح دائرة فولاذية !

في عالم الطب النفسي – ومعلوماتي فيه معلومات عامة الناس – هناك مرض اسمه ” الذهان ” وهو نوعان ذهان عضوي وذهان نفسي ولكل منهما أسبابه , علي أن هناك مايمكن أن يكون ” الذهان السلطوي ” وهو مرض يصيب غالبية الحكام العرب علي يد المنافقين , وهو يتشابه في بعض أعراضه الي حد التطابق بالذهان النفسي حيث أن من أعراض الأخير الانفصال الكامل للمريض عن الواقع بحيث يكون له عالمه الموهوم يسبح فيه بخياله بالتضاد للواقع تماما , والذهان  – كما قرأت -   يكاد يستحيل علاجه الا في مستشفي الأمراض النفسية لشدة خطورته.

ولننظر الي آخر حاكمين حكما مصر لنري كيف صنعهما النفاق منتهيا بكل منهما الي ” ذهان السلطة ” .

كان السادات في بداياته بالغ التواضع , لايكف عن اعلان أنه لن يعيد ترشيح نفسه للرئاسة , وقد سمعته مرارا وسمعه غيري يعلن ذلك مشددا صارخا , وقد رأيته يوما – صدفة – في زاوية صغيرة في شارع الهرم دخلتها لأداء صلاة الجمعة  , وبعد الصلاة راح يقبل المصلين واحدا واحدا ويدفع الحراس لأنهم حاولوا أن يحولوا بينه وبين تقبيل المصلين , وهو السادات نفسه الذي قال في آخر أيامه قاصدا نفسه ” وما أنا بظلام للعبيد ” , علي أن قمة المأساة الذهانية كانت لحظة اطلاق الرصاص عليه اذ قال – حسب معظم الروايات – عبارة ( موش معقول ) ,  وكانت تلك آخر كلماته , وربما سمعها مبارك منه لقربهما علي المنصة ,

كانت العبارة انعكاسا صادقا لحالة الذهان تلك , فقد كان في آخر عهده أسيرا بحق لقلة قليلة راحت تتعامل معه بمنطق عجيب غريب لايصح أن يعامل به رئيس دولة وهو منطق ” دعوه لاتزعجوه بأخبار سيئة ” , وهو قول يصح أن ينصح به في حالة شيخ فان طاعن في السن يرقد علي فراش الموت , ولا يليق اطلاقا أن يعامل بموجبه دولة عليه أن يعلم مايسيء قبل أن يعلم بما يسر , بل عليه أن ينام نوم الصقر يغلق عينا ويفتح الأخري , خاصة اذا كان يحكم دولة بحجم مصر !

ومن المؤسف أن الدائرة الجهنمية تغير أشخاصها من السادات الي مبارك فبدلا من عثمان أحمد عثمان أيام السادات صار  زكريا عزمي أيام مبارك , حتي أن من المتواتر أن جميع الداخلين الي مبارك كانوا يتلقون تعليمات صارمة علي لسان عزمي , هي نفسها تعليمات عثمان أحمد عثمان ” لاتكدروا الرئيس بأي أخبار سيئة ” وهي عبارة معناها الآخر ” دعوه في ذهانه يسبح في عالم الوهم ” !

ان غالب ظني أن مبارك لازال لليوم يعيش حالة الذهان تلك , وربما انتقلت الي ولديه وامرأته أيضا , فقد نقل عن ابنه الأصغر وهو أحد أعمدة نكبة أبيه مثلما هو أحد أركان نكبة مصر , نقل عنه عتاب للمسئولين الحاليين عن اقدامهم علي تعديل الدستور دون الرجوع اليهم وهو يقصد العائلة , كما ترددت الروايات عن غضبه العارم لما ناداه أحد الوزراء المحبوسين معه بنفس تهمة السرقة التي هو محبوس علي ذمتها ,  باسمه مجردا , كما نقل عن مبارك قوله  أن الأمريكان  ” باعوه ” , وتلك أمور لا أجد لها تفسيرا الا حالة الذهان السلطوي , لأن هؤلاء لو لم تقطع عنهم كل روافد المعلومات لعلموا أن البلد ” حبلي ” ببراكين الغضب وكل عوامل الثورة وأنهم وقعوا ضحية فريق المطبلين والمزمرين والأفاقين الذين سارعوا يسابقون الريح للقفز من السفينة الغارقة متبرئين من مبارك , تاركين اياه ليفيق من ضلالات الذهان وأوهامه علي كابوس طرة , ومن يدري فقد يفيق علي حبل المشنقه ويتحفنا هو أيضا بعبارة سلفه الخالدة ” موش معقول ” !

اجمالي القراءات 8187