الثورات والمفكرون والحريات!

د. شاكر النابلسي في الأربعاء ٢٧ - أبريل - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

 

استضافالتلفزيون المصري في أحد برامجه في 17/4/2011 الفيلسوف والمفكر المصري مراد وهبةرئيس قسم الفلسفة، في جامعة عين شمس، والناشط الفلسفي السياسي، ومؤلف عدة كتبأهمها: "مُلاّك الحقيقة المطلقة" و "الأصولية والعلمانية" وغيرهما من الكتب، التيلعبت دوراً كبيراً في تشكيل العقل المصري والعربي الحديثين. وكان من المستغربوالمثير، استضافة الدكتور وهبة – خاصة - بعد ثورة 25 يناير 2011، ليتحدث عن هذهالثورة، وعن مظاهرها، وiexcl; ومكوناتها، ونتائجها.. الخ. إذ أن التلفزيون المصري الرسمي،بعد تنحي الرئيس حسني مبارك، أصبح يتحاشى استضافة كل من يقوم بنقد "سلبي" لثورة 25يناير، بعد أن استضاف في السابق المؤلفة والصحافية لميس جابر، التي تحدثت عن ثورة25 يناير بشجاعة مشهودة، فكان جزاؤها أن تمَّ حرق بيتها، وامتنعت بعد ذلك عن الظهورالتلفزيوني في التلفزيون المصري، أو في تلفزيون "الحياة" الذي سبق أن استضافها فيبرنامج "360 درجة"، وانتقدت في هذه المقابلات ثورة 25 يناير، وقدمت الوجه الآخرلها

-2-

كان مدارحديث مراد وهبة يتركز، في أن ثورة 25 يناير 2011 ثورة بلا مفكرين، ولا فلاسفة. وأنهذه الثورة عبارة عن مظاهرات مختلفة في شوارع مصر طالبت في البداية بالقوت، وفرصالعمل، ثم تطورت إلى المطالبة بتغيير النظام، ثم إسقاط النظام. وكان وقودها الشبابمن كافة المستويات التعليمية إلى درجة أن لميس جابر، تقول أن بعض شباب الثورة،كانوا يكتبون لافتاتهم بلغة غير صحيحة، مما يدل على جهلهم، ككتابة كلمة "الثورة" بـ"الصوّرة" أو "السوّرة".

وتساءل مرادوهبة قائلاً: أين مفكري مصر، وأين مثقفي مصر وفلاسفتها؟ فلقد كان للثورات الثلاثالكبرى في التاريخ (الفرنسية، والأمريكية، والروسية) فلاسفة ومفكرون، تنبَّئوا بها،وبرمجوا أفكارها، وأعدوا خططها وخطاباتها. فأين هم من ثورة 25 يناير المصرية؟  وكيفتكون هناك ثورة بلا مثقفين، ومفكرين، وفلاسفة؟

-3-

لقد خلتالثورة المصرية 1952 من المفكرين والمثقفين والفلاسفة – ما عدا المهرجين والمطبلينوالمزمرين – وكانت النتيجة أن انتهت هذه الثورة، وزالت برحيل قائدها عبد الناصر،بعد 19 سنة من الحكم. والثورات لا تنتهي هكذا بسهولة. فالثورة الفرنسية باقية حتىالآن، والثورة الأمريكية كذلك. ولولا الاستبداد، والطغيان، ودكتاتورية الحزبالواحد، والعقيدة السياسية الواحدة، لعاشت الثورة الروسية أكثر من سبعين عاماً(1917-1989).

وقال مرادوهبة، أن الثورة لا تعيش إلا إذا تبنَّت الديمقراطية الحقَّة. فلا ثورة بدونديمقراطية. وقد لمَّح وهبة – تلميحاً وليس تصريحاً- إلى أن الرأي المصري العامالآن، مُعبأ تعبئة تامة، بآراء إلى جانب الثورة. وكل رأي مخالف لرأي الشارع المصري،تتم مصادرته، ويتم عقابه بشدة. وهذه دكتاتورية ثورة، وليست ديمقراطيتها. ومطالبةوهبة بوجوب إشراك المثقفين والمفكرين في ثورة 25 يناير، هدفه إبعاد الثورة عن طريقالديكتاتورية، الذي تمثَّل برفضها لكل نقد يوجه إليها، بحيث أصبحت معظم وسائلالإعلام المصري الحكومي والأهلي تتردد، وتخشى من نشر أو إذاعة ما يُبرز عيوبوسلبيات ثورة 25 يناير. والدليل ما حصل للكاتبة لميس جابر، ولغيرها ممن جرؤ على أنينتقد هذه الثورة. فكان وهبة متردداً في قول الكثير من الحقائق. ولعل وهبة يعلم أنخلو ثورة 25 يناير من المثقفين والمفكرين، وسيطرة العامة عليها، مرده إلى بعضالتالي:

1- الإمعان فيالتخندق الشعبي، وفي استدرار الحلول المستسهلة القائمة على سبل الاستتباع الاجتماعيوالنفعي، بدلاً من سبيل السياسة. فتحوّل الوسطيون إلى مناوئين، وتحوّل الاختناق إلىتفجّر، وإلى مزاج عامي انتقامي متهوّر، يرى أن السياسة تُصْنَع من الشارع، وليس فيمجال السياسة. وفي هذا ما يبعث على القلق البالغ، كما قال المفكر والأكاديمي السوريعزيز العظمة (الانتفاضات العربية في لحظتها السورية، 23/4/2011)

2- وينبهناعزيز العظمة الى أمرين مهمين، فيما يجري الآن من انتفاضات شعبية في مصر، وفي غيرهامن البلدان العربية. الأمر الأول، يتناول التفاؤل الساذج: التفاؤل الرومانسيالغنائي الذي يجد في هديرالجماهير علامة على حتمية خلاص له التمام. أو يجد فيهبّات وانتفاضات متعددة ومتباينة المكونات والأهداف والظروف "ثورةً عربيةً"، أو يجدفي الديمقراطية نظاماً للخلاص، ودواءً شافياً، ومهرجاناً، وبهجةً مستديمةً. ولايخفى أن هذا المزاج ينظر لبهجة الديمقراطية وجنّتها، على أنها أيضاً، تعدّد مُرسلللأفراد، والثقافات، والأعراق، والطوائف. ولكنه مزاج هو - بدوره- نافٍ للسياسة،ومنطوٍ على قدر كبير من النظرة العدمية تجاه الدولة، التي - على علاّتها، وترهلها،واستتباعها للسلطة- تبقى الجامع الأساسي للمواطنة، والمواطنين.
أما الأمرالثاني، فهو "الإسلام السياسي". فليس خافياً على أحد، أن السيناريو المثالي لحلّالأزمات العربية لدى أمريكا وغيرها، هو تحالف عسكري- إسلامي ضابط للأمن، والمجتمعمعاً. والحال أن التخوّف ليس مقتصراً على القوى الأجنبية، بل هو متوطن لدينا دولاًوأفراداً. فتمدد "الإسلام السياسي" والتدين اليومي لدى قطاعات واسعة من الشعوبالعربية، شأنٌ آيلٌ عن انسداد السبل، وتقطُّع أسباب حماية النفس، والمال، والكرامة،وإزالة السياسة من المجال العام، وإضعاف وسائل الحماية الفردية والاجتماعية فيمواجهة سلطات عاتية، جائعة العين على الدوام، تلك السبل التي وفّرتها فيما مضىالأحزاب، والنقابات، والمنظمات الأهلية. وإن عودة "الإسلام السياسي" إلى البروز- فيمصر على سبيل المثال، وفي تونس إلى درجة أقل، رغم أن المجتمع التونسي، بجهازهالسياسي القديم الذي كان بن علي دخيلاً عليه، وبحراكه المدني المنظم، والأقلتنظيماً، يشي بتطور اجتماعي غير قابل للردّ، وفّرته الهندسة الاجتماعية البورقيبية- ركوباً على موجات الانتفاضات التي تمت، هو المقابل السياسي لانسداد الآفاقالسياسية، الذي ترتجي السلطة الاستناد إليه.

3- يقول عالمالاجتماع السياسي لين جودمان Lenn Goodmanأنالديمقراطية  في القرن الحادي والعشرين لها عائد على المستوى المفهومي والاحترافي  للفلاسفة السياسيين. حيث أن مفهوم الديمقراطية، غني في جاذبيته الأخلاقيةوالعاطفية، وفي غموضه أيضاً، وهو ما ألمح إليه قبل قليل عزيز العظمة، حين تحدث عنبهجة الديمقراطية وجنتها. ومن هنا، فإن الحراك الديمقراطي في العالم العربي، سوفيثير أفكار المفكرين والفلاسفة السياسيين، وسوف يوقد من جديد - بنار الحراك الثوريالشعبي- العقل العربي المستقيل. فالتاريخ الانساني – كما يقول جودمان- هو تاريخالحريات. وأن مجد الديمقراطية هو الحرية. ولكن على الإنسانية أن تجد بديلاً عنالشعب لحماية الحرية. ولن يكون ذلك إلا بالقانون، الذي أشار الى ضرورة تعزيزهالعظمة قبل قليل، ودعا إلى إعادة الاعتبار للجهاز القضائي الذياهترأ، وجعلِهقوام المرحلة المقبلة.
(للموضوع بقية).

 

اجمالي القراءات 9348