الهجرة 2

محمود علي مراد في الثلاثاء ١٢ - أبريل - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

النص

الرسول صلى الله عليه وسلم

يذكر النص بدقة، في حديث الفترة المكية، مختلف مراحل هذا الحدث الضخم الذي تمثله الهجرة وهي: عقد بيعة الحرب، واجتماع سادة قريش بحضور إبليس، والقرار الذي اتخذ في هذا الاجتماع بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وإرسال فرقة من الفتيان الأشداء إلى بيته لاغتياله، وخروج الرسول صلى الله عليه وسلم من بيته دون أن يروه؛ وزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر، وخروجه سراً مع أبي بكر من بيته واختباؤهما في غار خارج مكة؛ ورحي&aacuteaacute;هما في صحبة دليل ومولى لأبي بكر؛ والجائزة التي وعدت بها قريش مَن يعيد محمداً إلى مكة(8)؛ ومغامرة سراقة.

سُراقة (9)

لما خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجراً إلى المدينة، جعلت قريش فيه مئة ناقة لمن رده عليهم. قال سراقة: فبينما أنا جالس في نادي قومي إذ أقبل رجلٌ منا، حتى وقف علينا، فقال: والله لقد رأيت رَكبَة ثلاثة مروا عليَّ آنفاً، إني لأراهم محمداً وأصحابه. فأومأت إليه بعيني أن اسكت، ثم قلت: إنما هم بنو فلان، يبتغون ضالة لهم؛ قال: لعله، ثم سكت. ثم مكثت قليلاً، ثم قمت فدخلت بيتي، ثم أمرت بفرسي، فقيد لي إلى بطن الوادي، وأمرت بسلاحي، فأخرج لي من دُبُر حجرتي، ثم أخذت قداحي التي استقسم بها، ثم انطلقت، ثم لبست لامتي (الدرع والسلاح)، ثم أخرجت قداحي، فاستقسمت بها، فخرج السهم الذي أكره "لا يضرَّه" (أي السهم المكتوب فيه هذه الكلمة). وكنت أرجو أن أرده على قريش، فآخذ المائة الناقة. فركبت على أثره. فبينما فرسي يشتد بي عثر بي، فسقطت عنه، فقلت: ما هذا؟ ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره "لا لا يضرَّه". فأبيت إلا أن أتبعه، فركبت في أثره. فلما بدا لي القوم ورأيتهم، عثر بي فرسي، فذهبت يداه في الأرض، وسقطت عنه، ثم انتزع يديه من الأرض، وتبعهما دخان كالإعصار. فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد مُنع مني، وأنه ظاهر. فناديت القوم، فقلت: أنا سراقة بن جُعْشُم: أنظروني أكلمكم، فوالله لا أريبكم، ولا يأتيكم مني شيءٌ تكرهونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: قل له: وما تبتغي منا؟ فقال ذلك أبو بكر. قلت: تكتب لي كتاباً يكون آية بيني وبينك. قال: اكتب له يا أبا بكر. فكتب لي كتاباً في عظْم، أو في رقعة، أو في خَزَفة، ثم ألقاه إليَّ، فأخذته، فجعلته في كنانتي، ثم رجعت، فسكت فلم أذكر شيئاً مما كان. حتى إذا كان فتح مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرغ من حنين والطائف، خرجت ومعي الكتاب لألقاه، فلقيته بالجعرانة (ماء بين الطائف ومكة، وهي أقرب إلى مكة). فدخلت في كتيبة من خيل الأنصار. فجعلوا يقرعونني بالرماح ويقولون: إليك، إليك، ماذا تريد. فدنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته، والله لكأني أنظر إلى ساقه في غرزه (الغرز للرحل بمنـزلة الركاب للسرج)، كأنها جمارة. فرفعت يدي بالكتاب، ثم قلت: يا رسول الله، هذا كتابك لي، أنا سراقة بن جُعْشُم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوم وفاء وبرّ، ادنُه. فدنوت منه فأسلمت. ثم تذكرت شيئاً أسال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فما أذكره، إلا إني قلت: يا رسول الله، الضالة من الإبل تغشى حياضي، وقد ملأتها لإبلي، هل لي من أجر في أن أسقيها؟ قال: نعم، في كل ذات كبد حرَّى أجر. ثم رجعت إلى قومي، فسقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقتي.

التحليل

قصة سراقة واردة في النص باعتبارها الحدث الوحيد الجدير بالذكر في رحلة الرسول صلى الله عليه وسلم منذ انطلاقه من مكة إلى وصوله قباء، نقطة التوقف الأخيرة قبل بلوغ المدينة. والذي يلفت النظر فيها هو طولها: صفحة ونصف. وهي تندرج في سياق تسلسل الأحداث المترتبة على بيعة الحرب، التي يقول المؤلف إنها عقدت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبعض حجاج المدينة المسلمين في نهاية الفترة المكية. والحاصل أن بيعة الحرب، كما أوضحنا في كتابنا عن الفترة المكية، لم تعقد قط. ولهذا فإن هذه القصة، هي وكل البناء الذي أقامه المؤلف على البيعة المذكورة، هي محض خيال. وكثرة التفاصيل التي وردت بها، مع امتداد في الفترة المدنية يصل إلى غزوتي حنين والطائف، هدفها الوحيد، كما هو ظاهر، هو إضفاء ثوب الحقيقة على رواية مختلقة. لذلك فمن العبث تعميق البحث بشأنها.

النص

– يصف النص طريقه صلى الله عليه وسلم في هجرته بالتفصيل، ويذكر أسماء اثنتي عشرة محلة مر بها ركبه إلى أن وصل إلى المدينة. وقد أبطأ على الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر بعض ظهرهم فحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ من أسلم يقال له: أوس بن حُجر، على جمل له - يقال له: ابن الرَّواء - إلى المدينة، وبعث معه غلاماً له، يقال له: مسعود بن هنيدة، إلى أن قدم بهما دليلهما قباء.

– قال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما سمعنا بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة وتوكفنا قدومه (أي استشعرناه وانتظرناه)، كنا نخرج إذا صلينا الصبح، إلى ظاهر حرّتنا ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال فإذا لم نجد ظلاً دخلنا، وذلك في أيام حارة. حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، جلسنا كما كنا نجلس، حتى إذا لم يبق ظلٌ دخلنا بيوتنا. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلنا البيوت، فكان أول مَن رآه رجلٌ من اليهود، وقد رأى ما كنا نصنع، وأنَّا ننتظر قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا، فصرخ بأعلى صوته: يا بني قيلة، هذا جدكم قد جاء. فخرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في ظل نخلة، ومعه أبو بكر رضي الله عنه في مثل سنه، وأكثرنا لم يكن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك. وركبه الناس (أي ازدحموا عليه) وما يعرفونه من أبي بكر، حتى زال الظل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام أبو بكر فأظلَّه بردائه، فعرفناه عند ذلك.(10)

– أقام علي بن أبي طالب عليه السلام بمكة ثلاث ليالٍ وأيامها، حتى أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، حتى إذا فرغ منها، لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فنـزل معه على كلثوم بن هِدْم. فكان علي بن أبي طالب، وإنما كانت إقامته بقباء ليلة أو ليلتين، يقول: كانت بقباء امرأة لا زوج لها، مسلمة. فرأيت إنساناً يأتيها من جوف الليل، فيضرب عليها بابها، فتخرج إليه فيعطيها شيئاً معه فتأخذه. فاستربت بشأنه، فقلت لها: يا أمة الله، من هذا الرجل الذي يضرب عليك بابك كل ليلة، فتخرجين إليه فيعطيك شيئاً لا أدري ما هو، وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك؟ قالت: هذا سهيل بن حنيف بن واهب، قد عرف أني امرأة لا أحد لي، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها، ثم جاءني بها، فقال: احتطبي بهذا، فكان علي رضي الله عنه يأثر ذلك (أي يحدِّث به) من أمر سهل بن حنيف، حتى هلك عنده بالعراق.(11)

– فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء، في بني عمرو بن عوف، يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، ويوم الخميس، وأسس مسجده، ثم أخرجه الله من بين أظهرهم يوم الجمعة .. فأدرَكَت رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة في بني سالم بن عوف، فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي، وادي رانوناء، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة.

– فأتاه عتبان بن مالك، وعباس بن عبادة بن فضلة في رجال من بني سالم بن عوف، فقالوا: يا رسول الله، أقم عندنا في العدد والعدة والمَنَعَة؛ قال: خلُّوا سبيلها، فإنها مأمورة (لناقته) فخلوا سبيلها، فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني بياضة، تلقاه زياد بن كبير، وفرده بن عمرو، في رجال من بني بياضة فقالوا: يا رسول الله: هلم إلينا، إلى العدد والعدة والمَنَعَة؛ قال: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، فخلوا سبيلها فانطلقت،حتى إذا مرت بدار بني ساعدة، اعترضه سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، في رجال من بني ساعدة، فقالوا: يا رسول الله، هلم إلينا إلى العدد والعدة والمَنَعَة؛ قال خلوا سبيلها، فإنها مأمورة، فخلوا سبيلها، فانطلقت، حتى إذا وازنت دار بني الحارث بن الخزرج، اعترضه سعد بن الربيع، وخارجة بن زيد، وعبد الله بن رَوَاحة، في رجال من بني الحارث بن الخزرج، فقالوا: يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمَنَعَة، قال: خلوا سبيلها، فإنها مأمورة، فخلوا سبيلها، فانطلقت، حتى إذا مرت بدار بني عدي بن النجار، وهم أخواله دِنيْا - أم عبد المطلب، سلمى بنت عمرو، إحدى نسائهم - اعترضه سَليط بن قيس، وأبو سَليط، أَسيره بن أبي خارجة، في رجال من بني عدي بن النجار، فقالوا: يا رسول الله، هلم إلى أخوالك، إلى العدد والعدة والمَنَعَة، قال: خلوا سبيلها، فإنها مأمورة، فخلوا سبيلها، فانطلقت. حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار، بركت على باب مسجده صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ مِرْبد (أي الموضع الذي يجفف فيه التمر) لغلامين يتيمين من بني النجار، ثم من بني مالك بن النجار، وهما في حجر معاذ بن عفراء، سهل وسهيل ابني عمرو. فلما بركت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عليها لم ينـزل، وثبت فسارت غير بعيد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع لها زمامها لا يثنيها به، ثم التفتت إلى خلفها، فرجعت إلى مبركها أول مرة، فبركت فيه، ثم تحلحلت ورزمت (أي تحركت وانـزجرت) ووضعت بجرانها (والجران: ما يصيب الأرض من صدر الناقة وباطن حلقها)، فنـزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحتمل أبو أيوب خالد بن زيد رحله، فوضعه في بيته، ونـزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأل عن المربد لمن هو؟ فقال له معاذ بن عفراء: هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو، وهما يتيمان لي، وسأرضيهما منه، فاتخذْه مسجداً.(12)

– فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُبنى مسجداً ، ونـزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه، فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُرَغِّب المسلمين في العمل فيه، فعمل فيه المهاجرون والأنصار، ودأبوا فيه.(13)

– فدخل عمار بن ياسر، وقد أثقلوه باللَّبِن، فقال: يا رسول الله، قتلوني، يحملون عليَّ ما يحملون. قالت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفُضُ وفرته بيده، وكان رجلاً جعدا، وهو يقول: ويحَ ابن سُمَيَّة، ليسوا بالذين يقتلونك، إنما تقتلك الفئة الباغية.

وارتجز علي بن أبي طالب رضي الله عنه يومئذ:

لا يستوي من يعمر المساجدا        يدأب فيه قائماً وقاعدا

ومن يُرى عن الغبار حائدا

– فأخذها عمار بن ياسر، فجعل يرتجز بها. فلما أكثر، ظن رجلٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إنما يُعَرِّض به، فقال: قد سمعت ما تقول منذ اليوم يا بن سُميّة ، والله إني لا أراني سأعرض هذه العصا لأنفك، وفي يده عصا. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ما لهم ولعمَّار، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار، إن عمار جلدة ما بين عينيَّ وأنفي، فإذا بلغ ذلك من الرجل فلم يُستبق فاجتنبوه.(14)

– فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب، حتى بنى له مسجده ومساكنه، ثم انتقل إلى مساكنه من بيت أبي أيوب، رحمة الله عليه ورضوانه. قال أبو أيوب: لما نـزل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، نـزل في السُّفْل، وأنا وأم أيوب في العُلو، فقلت له: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، إني لأكره وأعظِم أن أكون فوقك، وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في العلو، وننـزل نحن فنكون في السفل؛ فقال: يا أبا أيوب، إنَّ أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفله، وكنا فوقه في المسكن؛ فقد انكسر حبٌ (أي جّرة) لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا، ما لنا لحاف غيرها، ننشف بها الماء، تخوفاً من أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيءٌ فيؤذيه. وكنا نصنع له العشاء، ثم نبعث به إليه، فإذا رد علينا فضله تيممت أنا وأم أيوب موضع يده، فأكلنا منه نبتغي بذلك البركة، حتى بعثنا إليه ليلة بعشائه وقد جعلنا له بصلاً أو ثوماً، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أر ليده فيه أثراً. قال فجئته فزعاً، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، رددت عشاءك، ولم أر فيه موضع يدك، وكنتُ إذا رددته علينا، تيممت أنا وأم أيوب موضع يدك، نبتغي بذلك البركة؛ قال: إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة، وأنا رجل أُناجَى، فأما أنتم فكلوه. قال: فأكلناه، ولم نضع له تلك الشجرة بعد.(15)

التحليل

النص، الذي يحرص بوجه خاص على الوقوف عند أبي أيوب، المتبرع السخي، الذي يتكفل من تلقاء نفسه بدفع ثمن الأرض التي اختارها الرسول صلى الله عليه وسلم لبناء مسجده ومساكنه، لا يتضمن أية إشارة إلى المدة التي استغرقتها أعمال البناء ولا كيفية تمويلها. كذلك فإنه لا يذكُر عدد ولا هوية من عملوا بأيديهم في بناء المسجد وبيت الرسول صلى الله عليه وسلم.

هذا على الرغم من أن بناء مسجد المدينة وبيت النبي الملحق به كان عملاً في غاية الأهمية. فقد كان هذا المسجد مخصصاً لعبادة إله واحد بخلاف ما آل إليه مسجد إبراهيم في مكة، الذي نُصبت حول كعبته أوثان بلغ عددها 360 وثناً. وفي مسجد المدينة كانت جماعة المسلمين تلتقي خمس مرات يومياً في الصلوات المفروضة، خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصياً. وكان باستطاعة كل امرئ أن يحدِّث فيه الرسول وأن يطرح عليه ما يشاء من أسئلة. وكان في مقدور كل مسلم أن يحضر الاجتماعات التي كانت تعقد فيه والتي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبلغ فيها المسلمين بآخر ما نـزل عليه من قرآن، ويظل يكرره على مسامعهم حتى يحفظوه عن ظهر قلب، ويشرح لهم معناه وأبعاده والمسئولية التي يرتبها عليهم. وكان لغير المسلم أن يلتقي فيه بالرسول صلى الله عليه وسلم وأن يستفسر منه عن دينه. وكانت أخبار المدينة ومكة وأنحاء الجزيرة الأخرى تتداول فيه. وكانت تناقش فيه المشكلات الخاصة والمشكلات ذات الطابع العام. وكان مختلف أعضاء الأمة يتعارفون فيه ويرتبطون برباط الصداقة. وكان الكفرة واليهود يقصدونه، يدفعهم الفضول، للاستعلام عن هذا الدين الجديد الذي جاءهم من الخارج، وعن رسوله وعن الطريقة التي يؤدي بها تابعوه شعائره. وكان هذا المسجد كذلك تجسيداً لانتقال مركز الإسلام إلى المدينة. وقد تطوع المسلمون، الذين لم يكن لأكثرهم عهد بالعمل اليدوي، بجهدهم لإنجاز هذا البناء وتعبوا فيه أسابيع وربما شهوراً. وكان هذا، بالنسبة لهم ولأولئك الذين بذلوا من أموالهم لبناء المسجد، عملاً من أعمال البر وجهاداً جميلاً. وكانوا، بهذه المثابة، يستحقون ذكراً خاصاً في تاريخ أحداث الهجرة، شأنهم في ذلك شأن أهل المدينة الذين عقدوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم بيعة الحرب المزعومة. شأنهم في ذلك أيضاً شأن من خرجوا في غزوتي بدر وأحد وسائر الغزوات التي تقل عنهما في الأهمية (والتي اشترك فيها عدد كبير منهم) ! إن "السيرة" لا تجود عليهم بهذا الذكر الخاص. لقد كان عدد المهاجرين الذين اشتركوا في بناء المسجد ولا شك كبيراً. ولكن أسماءهم لم ترد في "لوحة شرف" كأسماء حجاج المدينة الذين عقدوا بيعة الحرب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، تعدد بالنسبة لكل منهم مختلف مراحل جهاده في سبيل الله.

ومما تجدر ملاحظته أيضاً في هذا الصدد أن الواقعة الوحيدة التي يرويها النص بشأن بناء مسجد المدينة - هذا الحدث التاريخي العظيم للإسلام - هي شكوى أحد المهاجرين من أصحابه وكذلك نبوءة بشأنه صدرت من الرسول صلى الله عليه وسلم.(16) وأغلب الظن مع ذلك أن بناء المسجد أثار معارضة شديدة من جانب مشركي المدينة، ويهودها، الذين رأوا فيه بحق خطراً محتملاً. المشركون، لأنه لم يكن عندهم كيان ديني ولا حكومة قبلية ككيان مكة وحكومتها وكانوا يخشون بالتالي أن ينجح الإسلام بفضله نجاحاً يهدد مجتمعهم وديانتهم وهيكلهم القبلي. واليهود، لأن الاكتساح الإسلامي، وانهيار النظام القائم في المدينة، الذي بنوا عليه وجودهم، كان يهدد مصالحهم بشكل خطير. ولابد أن هؤلاء وهؤلاء بذلوا قصاراهم لإحباط مشروع إنشاء المسجد، في وقت كان المسلمون فيه لا يزالون قلة في المدينة. ولابد أن ما فعلوه في هذا الصدد، وأن جهود النبي صلى الله عليه وسلم للتغلب على مقاومتهم، كانت من الأحداث البارزة التي شغلت الأذهان في هذه الفترة. وإذا جاز للمرء أن يتحدث عن معركة في وقت السلم، فمن المحتمل أن معركة إنشاء مسجد المدينة كانت أهم معارك السنة الأولى للهجرة. وقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم منها منتصراً، فقد بنى مسجده في آخر المطاف. وكان هذا أول انتصارات الرسول في هذه البلدة. ولكن النصر الذي يحرز في وقت السلم لا يعتبر نصراً عند مؤلفنا. ولهذا فقد اعتبر هذا الحدث الضخم حدثاً عابراً ليس فيه من طرافة سوى نادرتين: إحداهما تظهر مدى عناية أبي أيوب وزوجه بضيفهما العظيم، والأخرى تتعلق بعزوف الرسول صلى الله عليه وسلم عن طعام فيه ثوم أو بصل!

اجمالي القراءات 9408