عودة الروح" للعرب بعد غياب سنوات طويلة

د. شاكر النابلسي في الأربعاء ٠٢ - مارس - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

-1-

من بين الرسائل التي كان يبعثها الزعيم الهندي جواهر لال نهرو (1889-1964) إلى ابنته انديرا غاندي (1916- 1977) في الفترة (1930-1933) التي كان فيها مسجوناً يتنقل من سجن لآخر، والتي جُمعت كلها، وصدرت في كتاب تحت عنوان "لمحات من تاريخ العالم"، رسالة شرح فيها نهرو لابنته ما حصل في تاريخ الثورة الفرنسية. وهو شرح قريب جداً مما يحصل الآن في العالم العربي.

يقول نهرو في بداية رسالته تحت عنوان "سقوط الباستيل":

"داهمت الثورة الفرنسية أوروبا كالصاعقة." (ص74).

فما أشبه الأمس الفرنسي باليوم العربي. وكأن نهرو ما زال يعيش بيننا، ويكتب عن الثورة العربية الكبرى الجديدة، التي تجتاح العالم العربي الآن كالصاعقة.

ولكن هل كل الثورات في التاريخ البشري، تأتي هكذا كالصاعقة؟

ولماذا نشبت الثورة الفرنسية كالصاعقة، ولماذا أيضاً كانت الثورة العربية الكبرى الجديدة الآن كالصاعقة أيضاً؟

-2-

يصف نهرو، في رسالته لابنته انديرا حال أووربا، قبل وقوع الثورة الفرنسية بقوله:

"كانت أوروبا في ذلك الحين مرتعاً خصباً للمفسدين من الملوك والأباطرة، في عالم يسوده الترف والتبذير. ومن المدهش أن الذعر قد استولى على المنتفعين المترفين من ثورة الجياع، الذين كانوا قد وضعوهم في زاوية من زوايا النسيان، وأذاقوهم أنواع الظلم والطغيان."

وهذا ما حصل في العالم العربي تماماً، منذ نيل الاستقلال في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، وكان سبب "انتفاضة الجياع"، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ثم "ثورة الجياع"، في نهاية 2010 ، وبداية 2011.

-3-

هل كان نهرو عام 1930، يقرأ أسباب الثورة الفرنسية، أم كان يقرأ ما حصل في العالم العربي في نهاية عام 2010 في تونس، وبداية عام 2011 في مصر وليبيا؟

ثم لنر كيف تندلع الثورات، بما فيها الثورة الفرنسية، والأمريكية، والروسية، واليوم الثورة العربية الجديدة.

أليست أسبابها ومسبباتها واحدة: الفقر، والبطالة، والفساد، والظلم، والطغيان؟

إنها طبيعة واحدة. فهكذا تتم الثورات.

يقول نهرو:

"بركان الثورة، يثور كما تثور بقية البراكين بعد غليان وتفاعل، يجريان تحت سطح الأرض، مدى أجيال عديدة. ويظل ذلك الغليان حتى يضعف سطح الأرض، ولا يقوى على حبسه، فيشق له فوهة، ويقذف بحممه الملتهبة إلى عنان السماء. هكذا تتفاعل عناصر الثورة مدة طويلة، تحت سطح المجتمع."

وهذا ما شاهدناه ونشاهده في تونس، ومصر، وليبيا، اليوم.

أما الذين يتساءلون أسئلة ساذجة كأسئلة:

كيف صبر التونسيون على حكم زين العابدين مدة 23 سنة؟

وكيف صبر المصريون على حكم مبارك مدة 30 سنة؟

وكيف صبر الليبيون على حكم القذافي مدة 42 سنة؟

فعليهم أن يقرءوا التاريخ جيداً، ويتساءلون:

كيف صبر الفرنسيون على حكم لويس الخامس عشر (1715-1772) مدة 59 سنة من الظلم والطغيان؟

-4-

لقد سبق وقلنا، أن الثورات كالبراكين، لم يتم تكوين عناصرها خلال سنوات معدودات فقط، ولكنها تراكمات تاريخية، كانت تتفاعل تحت سطح المجتمع، لسنوات طويلة، ربما تمتد إلى مئات السنين، مثلها مثل تكون البراكين التي تحدث عنها نهرو، قبل قليل. وقد سبق أن قال توفيق الحكيم في روايته "عودة الروح" عام 1933:

 "إن الشعب الذي تحسبه جاهلاً، ليعلم أشياء كثيرة، لكنه يعلمها بقلبه لا بعقله."

وقلب الشعب هنا، هو باطن الأرض حيث الغليان، والعقل هو القشرة الرفيعة التي ينفذ منها البركان. وعندما يصل الشعب إلى العقل والعقلانية، وينزع عنه شعور الخوف والرهبة من السلطة، يتم انفجار الثورة. وذلك هو ما حصل حتى الآن في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن.

أما سكون باقي أنحاء العالم العربي حتى الآن، فمرده لا  إلى أن العدالة والمساواة والحرية، قد تحققت في هذه البلدان، ولكن لأن براكين النقمة، والثورة على الظلم والطغيان والفساد، التي تغلي تحت سطح المجتمع، لم تجد بعد الطبقة الرقيقة، لتنفذ منها، والتي وجدتها تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، لكي تنفجر، وترسل حممها الشعبية.

-5-

لقد اتهمت الثورات الأربع التي قامت في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، بأن وراءها محرضون، صبية، إرهابيون، طامعون إما بالسلطة، وإما بالمال، وإما هم مدسوسون من جهات أجنبية لغرض تدمير الوطن، والاستيلاء على خيراته. وقد برزت هذه التهم بشكل واضح في الخطابات التي ألقاها في ليبيا سيف الإسلام القذافي (21، و 25/2/2011 ومن بعده والده معمر القذافي (22، و24/2/2011) ثم الخطاب الذي ألقاه علي عبد الله صالح (14/2/2011) الذين اتهموا الثوار بالهلوسة والجنون وتعاطي المخدرات والارتهان لقوى خارجية، وأنهم لا يدرون ماذا يفعلون، ولا يفقهون ما يقولون. ولو قرأ هؤلاء الحكام، وفهموا تاريخ وفلسفة الثورات لما قالوا ما قالوه، ولما هذروا بما هذروا به.

فماذا يقول الزعيم جواهر لال نهرو في هذا المقام؟

يقول:

"تتألف عناصر الثورة من المبادئ والأحوال الاقتصادية. ولكن الممسكين بزمام السلطة، لا يبالون بكل ما يتعارض مع مصالحهم. ويتصورون أن الثورات مجرد نتيجة لتحريض المهيجين.

فهل غاب عن ذهن هؤلاء، أن المحرضين ما هم إلا بشرٌ، تسوءهم الأحوال التي تكتنفهم، فيعملون على تغييرها؟"

ويضيف نهرو قائلاً:

"إننا نجد في كل ثورة من الثورات، عدداً من المحرضين الذين هم وليدو النقمة والاضطراب القائمين. ولكن مئات الألوف من الناس، الذين يسيرون مع الثورة، ليسوا مجرد أداة في يدي المحرضين. لأن أغلبية الشعب تحرص دائماً على تأمين المعيشة، ولا تبادر إلى المجازفة والمخاطرة، إلا إذا ازدادت الحالة سوءاً، وأصبحت جحيماً لا يطاق. عندئذ يتغلب هؤلاء على خوفهم وضعفهم، ويستعدون للمجازفة والسير وراء من يدعون بالمحرضين. لأن هؤلاء المحرضين يرسمون للناس طريقاً للخلاص من شقائهم."

-6-

لم يكن الزعيم نهرو في تونس، أو في مصر، أو في ليبيا، أو في اليمن، لكي يقول لنا اليوم، مثل هذا الكلام الواقعي، الذي ينطبق على كل زمان ومكان، وكأنه يقوله من واقع الحال الآن. وتلك ميزة السياسي والزعيم المثقف، والرائي، الذي نحتاج له في العالم العربي هذه الأيام، لكي يفهم الحاكم مع هؤلاء الشباب، طبيعة رياح العصر والمتغيرات الهائلة، التي حدثت خلال السنوات القليلة الماضية. وأن الشعب العربي شعب عريق، وجيد، ويستأهل أنظمة حكم أفضل بكثير من الأنظمة القائمة. وأن الحرية والديمقراطية ليست مكسباً للشعوب فقط، بقدر ما هي مكسب لأنظمة الحكم وللحاكمين أيضاً. ولعل أبسط هذه المكاسب، أنها تجنبهم ثورة الشارع عليهم،  وتدع التاريخ يكتب بكلمات من نور منجزاتهم، بدلاً من أن تتم كتابة فضائحهم، وشتائمهم بالفحم الأسود على جدران الأزقة والحواري.

 

 

اجمالي القراءات 9465