لكل نفس بشرية جسدان (8 ): عذاب الجسد المادى وعذاب الجسد الأخروى:

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ٠٢ - نوفمبر - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة

الشائع بين الناس أن للنفس جسداً واحداً هو الذي نعيش به في هذا العالم ونتركه بالموت . والشائع بين الناس أن العذاب مرتبط بالآخرة فقط .

ومن القرآن نعلم أن للنفس جسدين ، الجسد الذي نحيا به الآن ثم الجسد الجديد الذي نبعث به يوم القيامة ويتكون من أعمالنا إن خيراً أو شراً .

ونعلم من القرآن أيضاً أن هناك عذاباً دنيوياً يصيب الجسد الإنساني في هذه الدنيا ، بالإضافة إلى عذاب آخر (قد) يصيبه في الآخرة لو كان مصيره النار.

أولاً: عذاب الدنيا

t;/p>

القاعدة الأساسية في عذاب الدنيا هى قوله تعالى( مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) (النساء123) . أي أن أى عمل سيء يصدر من الإنسان سواء كان مؤمناً أو فاسقاً لابد أن يعاقب به ، وقد يكون الجزاء مصيبة تلحق بالمذنب ، وقد يكون الجزاء أقل مشمولا بعفو الله عزّوجل حين يتوب المذنب ويستغفر ويبدأ عهداً جديداً من الإيمان والصلاح . يفسر هذا قوله جل وعلا (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (الشورى 30). أى أن المصائب التي تحدث تتسبب عن سيئات وكبائر نقترفها ، والله جل وعلا يعفو عن كثير.

وقوله جل وعلا (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) يستفاد منه أن الجزاء من جنس العمل . والعادة أن الإنسان في صراعه من أجل الأموال والأولاد يظلم ويبغي ويرتكب المحرمات ، ثم يكون أولاده وأمواله سببا في شقائه . والمنافقون في المدينة كانوا أغنى الناس وأكثرهم أموالاً وأولادا ، وأكد رب العزة في آيتين أنهم سيقاسون في الدنيا من عذاب يكون مصدره أموالهم وأولادهم (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) (وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ )( التوبه 55، 85).

وفي حياتنا الواقعية نجد التأكيد لهذا، فأبناء المترفين والظلمة والمفسدين وآكلي أموال الناس بالباطل هم سبب شقاء آبائهم ، فالأب لا يجد وقتاً لرعاية أبنائه وتهذيبهم ، ويجد التعويض عن انشغاله عنهم بإغراقهم بالأموال وإحاطتهم بالخدم والوصيفات، وينشأ الصبي مدللاً فاسداً ينتهي به الأمر إلى الإدمان أو أن يكون أعدى أعداء والده .

والله جل وعلا قال لعيسى عليه السلام   (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران 55: 57) أي أن الكافرين يتوعدهم الله جل وعلا بعذاب شديد في الدنيا والآخرة ،(  فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) .

عذاب الكفار فى الدنيا المشار اليه فى سورة آل عمران ( آية 56 )وهو نفس العذاب الذي توعد به الله جل وعلا المنافقين في عصر خاتم النبيين ، وهو نفس العذاب الذي ينتظر كل ظالم في الدنيا . ويتنوع هذا العذاب الدنيوي إلى أنواع شتى نراه في حياتنا الدنيوية تبدأ بالقلق والأزمات النفسية ولا تنتهي بالمرض والكوارث وخسارة الأموال والأولاد ، وأكثر رواد العيادات النفسية هم من الذين جعلوا الدنيا والتطاحن فيها جوهر حياتهم ، وأكثر الأمراض العضوية تأتي من مؤثرات نفسية أهمها القلق وعدم الإحساس بالأمان .

وفى المقابل فالمؤمنون لهم (بالاضافة الى الجنة فى الآخرة ) متاع دنيوى أساسه الرضا وراحة البال والسعادة النفسية ، يقول جل وعلا : (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (النحل 97 ). فالذي يؤمن بالله واليوم الآخر يعيش في صحة نفسية عالية، أو بالتعبير القرآني :( يطمئن قلبه ) (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد28) ، وتستمر سعادتهم في الآخرة ، يقول جل وعلا(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ)، ( سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ)(محمد 2 ،5،  6 )

وبعض العذاب الدنيوي يستمر مع صاحبه إذا مات كافراً فيعذبه الله بما كان يعبده في الدنيا ، فالذي يبخل بالمال ويأتي يوم القيامة بخيلاً سيكون ماله عذاباً له (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)( آل عمران 180).

يؤكد هذا قوله جل وعلا عن الأحبار والرهبان ورجال الدين الذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ويجعلون دين الله تجارة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) (التوبة 34، 35) فالذي يكنز الذهب والفضة ويجمع الأموال بالباطل مصيره في الآخرة أن يعذب بتلك الأموال.

وليس كل من يعذب في الدنيا يكون في الآخرة من أصحاب النار لأن عذاب الدنيا ليس انتقاما ولكنه نذيرً للظالم كي يتوب ، أي جرس إنذار له ليصحوا من غفلته، يقول جل وعلا عن عذاب من يموت فاسقا كافرا :(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ) ويقول جل وعلا عن عذابهم فى الدنيا الذى يكون تنبيها لهم وانذارا لكى ينجو من عذاب الآخرة الخالد:( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ( السجدة 20 : 21 )   أي يذيقه الله بعض العذاب كي يتذكر ولعله يرجع ويتوب وينجو من عذاب الآخرة.

ومن هنا تكرر في القرآن الكريم أن الإنسان إذا مسه مرض أو خاف الغرق استنجد بالله جل وعلا داعياً تائباً مخلصاً ثم ينسى الله بعد الشفاء والنجاة (الزمر 8 ، 49  ) ( الاسراء 66 : 69 ) ( يونس 21 : 23 ). وفى حياة كل عاص وفاسق تتكرر الانذارات والابتلاءات كى يفوق ويتذكر ربه و يتعظ ، وبعضهم يتعظ وينجو وبعضهم يظل سادرا فى غيّه الى أن يموت عاصيا ، ويقول رب العزة جل وعلا عن المنافقين: ( أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ) ( التوبة126)

وأولئك الذين لا يتوبون ولا يتذكرون برغم كل الإنذارات هم الذين طبع على قلوبهم وزين لهم الشيطان سوء عملهم فرأوه حسناً، وأولئك لا فائدة من نصحهم : (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ )( فاطر 8 ). وهم الذين قال عنهم رب العزة جل وعلا (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (المطففين 14) .

أولئك هم أصحاب النار الذين نتوقف معهم الآن :    

ثانياً عذاب الجسد الآخر في الآخرة .

ذلك القلب الذي ران عليه الخطأ فتغطى بالسواد : (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ )   هو التعبير القرآني البليغ عن العمل السئ الذي تكسبه النفس وتأتي به يوم القيامة تحمله ويكون جسدا لها، ويتحول هذا الجسد حطبا للنار ووقودا لها، وهذا ما حذر الله جل وعلا منه المؤمنين مقدما (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)(التحريم 6).

ونبدأ القصة من أولها .

فالله جل وعلا هو نور السماوات والأرض، والنور هو الهدايه (  اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لّا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء)(النور35) .

ونور الله أو هدايته – ينزل به الكتاب السماوي، فيوصف بأنه نور:( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ) (وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِين ) (المائدة 15، 16 ، 44، 46).

وموقف الناس من هذا النور الإلهى ينقسم إلى قسمين في الدنيا؛ مؤمن وكافر ، فالذي يتمسك بالنور (الكتاب السماوي) يكون له هدى: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (الأنعام 122)، فالموت هنا هو موت للنفس والحياة لها هى بالهدى، والنور الذي يتصرف به بين الناس هو ضميره المنير الذي يعمل بالكتاب . من أجل ذلك إذا مسه طائف من الشيطان تذكر فأبصر، عكس الذين يسيطر عليهم الشيطان فيسقطون في الظلمات: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ ) الأعراف 201: 202). وبهذا يتكون ضمير تقى للمؤمن المتمسك بالهدي القرآني أو فرقان يمارس به تقوى الله جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ )(الأنفال  29).

هذا النور المعنوي (الهداية ) يتحول في الآخرة إلى نور حقيقي يؤهل صاحبه للجنة، أو (يصلح) به صاحبه لدخول الجنة: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ) (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ )(الحديد 12-13 ، 19).

الصنف الآخر هو الذي يعرض عن نور الهداية وعندها يتسلط عليه شيطان يقترن به يزين له السوء خيرا والخير سوءا، ويظل يسيطر عليه يحبب له المعصية ويبغض له الطاعة ، إلى أن يأتي العاصى يوم القيامة وقد ترك جسده المادي وارتدى عمله السيء وانكشف عنه الحجاب ، فيجد قرينه الشيطاني إلى جانبه ، ويصور هذا رب العزة بقوله جل وعلا : (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ )(الزخرف36: 39) . وقوله تعالى : ( وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ) لأن العشى الليلي معناه العجز عن رؤية النور، وذكر الرحمن هو النور الذي ينزل به الكتاب السماوي ، فصاحبنا الذي لا يرى النور يكون حتماً عليه أن يعيش في الظلام فتتلقفه شياطين الظلام فيقترن به واحد منهم يصده عن السبيل ويقنعه أنه على الحق ، ويظل هكذا إلى أن يموت ضالا فيفاجأ بالقرين فيقول له يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين . وهناك تفصيلات أخرى في سورة (ق) من (16: 31) .

القلب هو االنفس . وطالما صدأت النفس واسودت وارتدت عملها السيء فإن صاحبها يأتي يوم القيامة وقد اسود وجهه . وأكثرهم سوادا هم أئمة الكفر الذين يحترفون صناعة الأديان الأرضية بصناعة الأحاديث والوحى الكاذب :(وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ) (الزمر 60) وفي المقابل يقول جل وعلا عن اتباع الدين الحق (  أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ )(الزمر 22، 23) .

وفي النهاية فإن الجسدالآخر يكتسب ملامح النفس التي هى صورة كربونية من ملامحنا في الدنيا ، غاية ما هنالك أن الحتميات الأربع في هذه الدنيا تحتوي على حتمية الميلاد ، ومنها لون الإنسان ،  فالله هو الذي يشاء أن يكون لون هذا اسود أو أحمر ، والله جل وعلا جعل من آياته اختلاف الوان البشر: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ )( الروم. 22 ) .

ولكن الإنسان هو صاحب القرار في اللون الذي سيظهر به يوم القيامة ، وهنا حريته في الإيمان أو الكفر ، فلو قرر أن يأتي يوم القيامة بوجه منير فعليه فى الدنيا أن يؤمن إيمانا حقيقيا وأن يخلص وجهه لله جل وعلا ، عندها سيأتي يوم القيامة بوجه منير سواء كان في دنياه وفي جسده الأرضي أبيض أو أسود أو ملونا ، أما إذا شاء الغفلة والظلم فسيأتي يوم القيامة بوجه أسود يعكس كفره وعصيانه ، وليس مهما عندها لون وجهه السابق في الدنيا سواء كان لون وجهه أسود أو أبيض.

وفى المقارنة بين الفريقين يقول جل وعلا(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(آل عمران 106 ، 107) (  وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ )(عبس 38: 42).

الخاتمة .

هنا تتجلى عدالة الرحمن .

فالفرد هو الذي يختار مصيره إذا شاء الهداية هداه الله وإذا شاء الغواية أضله الله . وإذا قرر أن يأتي رب العزة بقلب سليم ووجه أبيض وعمل بذلك في حياته فإن الله لا يخلف الميعاد ، ولو شاء العكس فسيجد جهنم في انتظاره.

لأن لكل نفس سعيها ولا تنفع نفس نفسا ولا تجزي نفس عن نفس ، ولا تحمل نفس وزر نفس أخرى (أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ) (النجم 38: 41) (  وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)(فاطر 81) (  مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً )( الإسراء 15)  

إن النفس تنعم بعملها إذا كانت من أصحاب الجنة ، وتعذب بعملها إن كانت من أصحاب النار ،أى هو عملك وسعيك الذى سيكون به نعيمك أو عذابك ، أى إن الله جل وعلا لم يظلم اصحاب النار بل هم الذين ظلموا أنفسهم :(وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )( النحل 118  ) فالنار هى جزاء ما فعلوه :(وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ  )( النمل 90 ).

ودائما : صدق الله العظيم.

اجمالي القراءات 21154