نظرة تأمل

صلاح النجار في الأربعاء ١١ - أغسطس - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

ما أجمل أن يقف الإنسان مع نفسه وقفة تأمل ، وتدبر ، وتفكر ،والتفكر في خلق الله من أجلّ العبادات التي غفل عنها الكثيرون، ولأن التفكير يولد التأمل في خلق الله ، واستشعار عظمته سبحانه وتعالى .

لذا يستوجب على كل مؤمن أن يتفكر، ويتدبر،  ويستنبط،  ويستشف الحكمة من آيات ربه جلا وعلا سواء كانت الحسية أو الكونية ، فالله جل وعلا يصف خاصة عباده أنهم يتفكرون في آياته .. "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" ..تلك هي أسمى لحظات العمر .. تلك هى لحظات الصفا حينما تنقشع الغواشى عن القلب وتنجلي البصيرة ويرى الإنسان كل شئ أمامه بوضوح .. تلك هي حالة الرهبة والسكينة والاطمئنان ..

نظرة إلى السماء في منتصف ليل ساج والتأمل والتفكر فى السماء ذات الأبراج خير من الدنيا وما فيها ، هذا الكون الفسيح الذي لم يعرف له أحد شكلاً ولم تطأه قدماً شاهد على قدرة الله العلى القدير ، هذا التوازن العظيم المحكم والاتساق المذهل بين الأجرام والتوافق والتلاحم والانسجام الذي يتألف من ملايين الدقائق والتفاصيل يصرخ بأن هناك مبدعا لهذه البدائع وإنه إله قادر جامع لكل الكماليات قريب من مخلوقاته قرب دمها من أجسادها  معتنى بها عناية الأب الحنون مستجيبا لحاجاتها سمعياً لآهاتها بصيرا بحالاتها .. أنه الله الذي وصفته لنا الأديان بأسمائه .

ليس كمثله شئ..

أنه المتعالي على كل ما نعرف من حالات وصور وأشكال وزمان ومكان . ظاهر بأفعاله خفي بذاته .. لا تراه الأبصار ويرى كل الأبصار ..

هذا الكون الذي يقول عنه علماء الفلك أن عمره خمس عشرة مليار سنة زمنية واتساعه خمس عشرة مليار سنة ضوئية ؛ والسنة الضوئية هى وحدة مسافة والثانية فيها تساوى 300.000 كم..!! هذا الكون لا نرى بأعيينا منه إلا 5% من محتواه الكلى وأن أكثر من 95% منه مادة خفية سوداء ..!!  وأنالمجرات غارقة في هالات خفية من هذه المادة كما تغرق حبات الفستق في المربى ..!! هذا الكون بأجرامه ومجراته نتج عن جرم سماوي واحد عالي الكثافة شديد الضغط ..!!

" َخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" " غافر57"

أنه صنع الله الذي أتقن كل شئ ..

توالت هذه الأفكار إلى ذهني عندما كنت واقفاً مع نفسي وقفة تأمل وتدبر وتفكر في قول ربى جل وعلا  "  وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " " الجاثية13 " ..عادة نفهم هذه الآية بمفهومها الظاهر السطحي وهو أن الله سخر لنا الشمس والقمر والليل والنهار والنجوم يقول الله جل وعلا " وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ " " إبراهيم33" وقال أيضا جل وعلا " وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ " " النحل12"

 1- ومن أنواع التسخير الإلهي المعروف أيضا الأرض ، فالأرض نستطيع أن نرويها ونبذرها بالبذور فتنبت وتثمر لنا من كل زوج بهيج يقول ربنا جل وعلا "  وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ "" الحج5"

2 - ومن أنواع التسخير الإلهي الظاهرة أيضا الرياح ، فالرياح هي التي تسوق السحاب إلى بلد ميت فينزل منها الماء فتخرج الثمرات بأذن الله تعالى ، يقول جل وعلا " وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" " الأعراف57" ويقول أيضاً جل وعلا عن الرياح أنها لواقح ؛ أي أنها تحمل حبوب اللقاح بين النباتات فينتج الثمار ،وأيضا تلقح السحب الموجبة والسالبة مع بعضها فيحدث تأين فينتج عنه المطر ، فالمطر لا يحدث بدون هذه الخطوة المهمة التي تقوم بها الرياح " وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ"

3 - ومن أنواع التسخير الظاهرة أيضا البحار ، يقول عز من قائل: "  وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " " النحل14 "

4 - والأنعام  أيضا من أنواع التسخير الظاهرة يقول ربى جل وعلا: "  وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ " "النحل80 "

 كل هذه الصور من أنواع التسخير كنا نتصورها وما زلنا نتصورها أنها حدود هذه الآية ، وكنا نعتقد  أن حدود التسخير يقتصر على  الشمس والقمر والنجوم والبحار والرياح والحيوانات ، لكن الآية تتحدث عن شئ آخر .. شئ أعمق وأشمل عما كنا نفهمه ونستنتجه ، فالله جل وعلا يقول " وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ" .

مـــــــــــــــــــــــــــا فى السماوات والأرض + جمعيــــــــــــــــــا منه = تسخير شامل مطلق لكل ما فى الكون .

 لكن كيف ...!!؟ كيف سخّر الله جل وعلا  لنا السماوات بكل ما فيها ..!!؟؟

كيف سخر لنا الله المجرات والنجوم العملاقة الضخمة  البعيدة المترامية الغير منظورة على أطراف هذا الكون..!!؟؟

وكيف سخّر لنا الله جل وعلا الثقوب السوداء التى أصبحت من أكبر ألغاز عصرنا الراهن والتى أصبحت أيضا من أكبر علامات الاستفهام الضخمة التى لم يجد لها أحد إجابة شافية ..!!؟؟

وإن كنا قد روضنا واستأنسنا بعض الحيوانات واستفدنا منها  .. لكن كيف سخر لنا الله تعالى الفيروسات بأنواعها والبكتريا وأدق أنواع الكائنات الحية التى نراها والتى لا نراها ..!!؟؟

وكانت الأسئلة التى طرحتها على نفسي محيرة .. ولا تتفق من نص ورح الآية الكريمة التي تؤكد أن كل ما في الكون مسخر تسخير شامل مطلق  .. ولزم الأمر منى البحث والتدبر .. ثم مزيداً من البحث والتدبر .. وكانت النتيجة مذهلة .. والمشهد عظيما .

فنحن عندما ندقق ونتفكر فى هذا الكون سنلاحظ  أن هذا الكون مخلوق بقوانين نستطيع أن نتعقلها ونفهما ونتدبرها  ، فالكون كله مدبر ومقنن.. فالمنظومة الفلكية كلها لا يمكن أن تحتفظ بأماكنها وهندستها  إلا إذا وجد نظام محكم يمسك بكل هذه المنظومة ، فالله سبحانه وتعالى خلق السماوات بغير عمد نراها  يقول ربى جل وعلا "للّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا" "الرعد2 "   ، الآية تعنى أنه يوجد أعمدة لا نراها ولولا وجود هذه الأعمدة لكانت مصير السماوات إلى الهلاك والدمار وان تسقط فوق بعضها البعض ، فأعمدة المجال المغناطيسي هي يد الله الحافظة الحاكمة التي تمسك بالسماوات والأرض. فالكون كله مقنن وموزون يقول الله جل وعلا " وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ " "الرحمن7 "  ، فالميزان هو القوانين الجامعة التي تؤدى إلى التوازن ، فالكون كله يحكمه قوانين هذه القوانين مؤداه إلى التوازن والثبات والاستقرار .. فالكون ليس عشوائيا ولكنه مقنن لدرجة أن الإلكترون الذي لا نستطيع أن نراه بأقوى أجهز الأبصار ، هذا الإلكترون محكوم بقوانين ، فهو لا يستطيع أن يصعد أو يهبط من فلك أعلى أو إلى فلك أسفل  إلا إذا أعطى أو فقد  شحنة تساوى مقدار حركته صعوداً وهبوطاً .

فالكون كله مبنى على أساس قوانين دقيقة هذه القوانين جعلها الله قابلة للتعقل والتفهم وبالتالي نستطيع أن نفهم هذه القوانين ونعتقلها ونتفهمها وبالتالي هذا التعقل والفهم أدى إلى الاختراع .. فالاختراع لا ينتج من فراغ أو خلق الشئ من عدم .. ولكنه نتج عن إمعان النظر والتدبر واستنباط القوانين من الكون .

ونأخذ أمثلة حية :

1 - فالطائرات والصواريخ والمركبات نتجت عن القانون الذي استنتجه " نيوتن " بعد اكتشافه الجاذبية الأرضية وهو " إن لكل فعل له رد فعل مساوي له في المقدار والقوة ومضاد له في الاتجاه "

فعندما تدور المروحية ينتج عنها قوة مضادة لمجال الجذب المغناطيسي فتصعد الطائرة لأعلى عكس الجاذبية ..!

2 - الليزر ما كنا توصلنا إليه لولا إننا استنتجنا أن حركة الإلكترون في ذرات العناصر في قلب الشمس حركته في الأفلاك قرباً وبعداً عن النواة هو سبب الضوء .. فقمنا بإثارة الإلكترون بطريقة صناعية فخلقنا نوع جديد من الضوء  يسمى الضوء المتجانس وهو يصل من القوة إلى اختراق الحديد.

3 - القطارات البخارية ما كنا توصلنا إليها لولا أن توصلنا لقانون أن البخار يتمدد  بالحرارة ويكون له قوة دفع هائلة .

4 - مواتير السيارات بأنواعها ما كنا توصلنا إليها لولا استنتاجنا لقانون احتراق الغازات الذي ينتج عنه طاقة وقوة ضغط عالية جدا فتقوم بدفع عجلات السيارة  .

5 - الدينمو ما كنا توصلنا إليه لولا استنتاجنا لقانون إذا قطع سلك خطوط المجال المغناطيسي ينتج عنه كهرباء فبالتالي قمنا بصنع الدينو والمواتير بأشكالها وأنواعها .

فالكون مبنى على قوانين ونحن خلقنا قادرين على تفهم هذه القوانين ، هذه القوانين قابلة للفهم والتعقل ومن خلال هذا الفهم والتعقل والاستنباط استطعنا أن نصنع كل هذه التكنولوجيا والحضارة ومصادر القوى الرهيبة الموجودة حاليا في عصرنا الراهن .. وهذا هو معنى التسخير الإلهي الذي تقصده الآية الكريمة  .

فالتسخير الكوني الذي تتحدث عنه الآية يحدث بناءاً على أن الله جل وعلا بني خطة الكون على أساس هذه القوانين التي جعلها الله تعالى متاحة في متناول العقل والفهم .

فإمعان النظر يستوجب الرهبة وشكر والنعمة ، فلا بد أن نتوجه إلى الله جل وعلا   بالشكر فى كل اختراع نخترعه .. وتبارك الله أحسن الخالقين .

وصدق الله العظيم إذ قال: " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ"  ودائما وأبداً  صدق الله العظيم ..

وكل عام وانتم جمعيا بخير  

 

اجمالي القراءات 27411