من عراق الدكتاتور إلى عراق الدكتاتوريين!

د. شاكر النابلسي في الجمعة ٢١ - مايو - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

العالم مهتم بالعراق، وينتظر تطبيق نتائج الانتخابات الأخيرة على الأرض. ولعل اهتمام العالم بالعراق على هذا النحو، كان نتيجة للحملة على العراق 2003، وموقف الدول الأوروبية منها. ثم لمكانة العراق الاقتصادية كثاني أكبر دول العالم امتلاكاً للاحتياطات البترولية. إضافة إلى أن العراق، دولة واعدة زراعياً، ويمكن أن تكون سلة خبز وسلة فاكهة العالم العربي، وربما العالم الثالث. زيادة على ذلك فإن للعراق تاريخاً وحضارة غنية. كما أن العراق يحتضن أكثر ممن 80% من تاريخ الثقافة العربية منذ العهد الأموي وانتهاءً بالعصر المملوكي.

 

لماذا كل هذا القلق على العراق؟

كذلك، فإن العالم العربي مهتم أشد الاهتمام بما يجري الآن في العراق. وهو قلق أشد القلق على حاضر ومستقبل العراق، وذلك للأسباب السابقة، إضافة إلى أن العراق بالنسبة للعالم العربي، يمكن أن يلعب دوراً مهماً في تقدم الحداثة السياسية، وإرساء أُسس الحرية والديمقراطية العربية المبتغاة. فالعراق هو أكثر الدول العربية تأهلاً واستعداداً للديمقراطية، نتيجة لمكوناته الشعبية، ونتيجة لتعدد الأديان والطوائف والقوميات في العراق، والتي لن تأتلف وتتآلف إلا تحت مظلة الديمقراطية. كذلك فإن وجود الأغلبية من السكان من الشيعة (يقال أن 60% من سكان العراق شيعة) سيكون عاملاً آخر على تأهل العراق للديمقراطية، بسبب أن الشيعة على مدار التاريخ، كانوا أكثر حراكاً، وتفاعلاً، واهتماماً سياسياً من السنة الذين كانوا "ملكيين محافظين"، وسياسيين تقليديين، يكرهون ويرفضون الخروج على الحاكم، تمثلاً بما يُنسب إلى أحد النصوص المقدسة التي تقول "أطع حاكمك، ولو سرق مالك، وجلد ظهرك".

 

خطورة التلكؤ السياسي

ولكن العراق الآن، أشبع غرور أعداء العراق الجديد، بهذا التلكؤ حيال التطبيق الديمقراطي، وتسليم الحكم من الخاسرين للرابحين، في الانتخابات الأخيرة.

والتلكؤ السياسي في العراق الجديد الآن، في تطبيق الديمقراطية، والسير بها إلى الأمام، ومحاولة الالتفاف حول نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، والاستئثار بالسلطة على طريقة الدكتاتوريين في العالم العربي وفي العالم الثالث، قد أسعد الدكتاتوريات العربية، وأعداء الديمقراطية والحرية سعادة كبيرة. والذين أخذوا يستشهدون دائماً بالوضع العراقي المتردي الحالي، للتدليل على فشل الديمقراطية ودعاة الديمقراطية في تطبيق ما يحلمون به في العراق.

والتلكؤ السياسي في العراق الجديد الآن، في تطبيق الديمقراطية، قد أسعد كثيراً رجال الدين المتشددين، الذين حاربوا وناصبوا العداء للديمقراطية العراقية منذ اللحظة الأولى، وراحوا يرسلون قوافل الإرهاب إلى العراق باسم "الجهاد" الإسلامي لاحباط ثورة العراق الشاملة، والتي تجد الآن في طريقها، الكثير من العقبات والعثرات. وهو حال ليس بالجديد على بلد كالعراق. فعلى مدار التاريخ السياسي البشري، شهد العالم مثل هذه العثرات ومثل هذه العقبات للتطبيق الديمقراطي. ولكن أخذ العقلاء والمخلصون، في تذليل هذه العقبات، وتلك العثرات بالصبر، والإخلاص، والدرس العميق للتاريخ وأحداثه، وتعرجاته، وتعقيداته، إلى أن تحققت الأهداف المرجوة.

 

من هو الدكتاتور؟

إن المشهد السياسي العراقي الآن، مشهد حزين ومخجل بكل صراحة ووضوح.   والعالم ومعه العالم العربي، يشاهد، ويسخر، ويضحك، من تلاعب السياسيين العراقيين على الدستور، وعلى الشرعية، ويتهم بعضهم العراق بأنه أصبح "نقابة الدكتاتوريين" كما سبق واتهم "تنداي بيتي" وزير مالية زيمبابوي الاتحاد الأفريقي بالتهمة نفسها. وهو مشهد قد أثلج صدر أعداء العراق أياً كان هؤلاء الأعداء من العرب والعجم. وقد ساهم جزء من الإعلام العربي بعودة الدكتاتورية للعراق، ليست ممثلة بدكتاتور واحد أحد، ولكنها متمثلة بعدة دكتاتوريين. فليس المهم أن تُعلن عن نفسك حاكماً مطلقاً، لا ترضخ لا لدستور، ولا لنتائج انتخابات تشريعية. ولكن يكفى أن تضرب بعُرض الحائط بالدستور، وبنتائج هذه الانتخابات، وتطالب بإعادة فرز الأصوات، ساعةً يدوياً، وساعةً مذهبياً، وساعةً طائفياً. وأن تضيّع الوقت على العراق وشعبه، في إعادة البناء السريعة، وأن تتلكأ في تسليم السلطة، اعترافاً بمبدأ "تداول السلطة"، وأن تسعى للتمسّك بالكرسي، وتصبح عليه خالداً مخلداً، إلى أن تحين الساعة.

وهذا ما يجري في العراق الآن، حيث لا دكتاتور واحداً أحداً يحكمها، ولكن يحكمها ائتلاف كامل، يهتف بحياة الزعيم، وينافح عن حقه في البقاء في السلطة، ويُقال أنه ائتلف مع كتلة أخرى ليكوّنا جبهة دينية طائفية واحدة بمباركة إيران، وبدعمها المالي، والسياسي، والعسكري، واللوجستي. والتي أصبحت المستفيدة الوحيدة تقريباً من العراق الجديد، كما سبق وقلنا.

والمشهد الغريب والمستغرب أن معظم السياسيين الآخرين في العراق يقفون حيال هذا كله صامتين، وربما كانوا مباركين لهذا التوجه والسلوك السياسي الدكتاتوري. فنراهم، ونسمعهم، ونقرأ لهم، وكأنهم يطلبون مكرمةً أو عطيّةً ثمينة من صاحب السلطان، لكي يتنازل عن سلطانه، الذي انتهت ولايته. وهم يرجون، ويتوسلون، ويتلطفون. وكان عليهم من أجل العراق الجديد، ومن أجل الشعب العراقي، أن يكونوا أقوياء وأشداء على الدكتاتورية، وعدم تداول السلطة. ولا يتهاونون مع اللاعبين بمصير الشعب العراقي على هذا النحو الذي يجري الآن.

 

حنظل الديمقراطية المُرّ

نحن نعلم، وقد قرأنا هذا في التاريخ، ومن خلال أمثلة كثيرة، أن تسليم السلطة للآخر، دونه الأرواح والدماء الغزيرة. وأن السلطة أعزُّ من المال والولَد. وأن التحوّل من الدكتاتورية إلى الديمقراطية أمرٌ ليس سهلاً، ولا يسيراً. ولولا الدساتير، والقوانين، ووعي الشعوب وإرادتها الصلبة، لما تنازل سلطان عن كرسيه. وأن الديمقراطية في بلد كان حكمه دكتاتورياً، لها طعم الحنظل المُرّ، لأنها دواء وليست غذاء. فهي كالدواء المُرِّ لمرض خطير، وليست شراباً طيباً. والتحوّل من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، يحتاج أشد ما يحتاج إلى نُخب وكوادر سياسية شفافة، ونزيهة، وأمينة، وصادقة. وتصل بشفافيتها، ونزاهتها، وأمانتها، وصدقها إلى مرتبة الرُسل، والأنبياء الصالحين. ولنا من نيلسون مانديلا، في جنوب أفريقيا المثال الحي، والواضح، والحديث.

 

اجمالي القراءات 9395