وظيفة القضاء‏ ‏بين الاسلام و المسلمين ( المقال الخامس )
القضاء السياسى فى ‏عهد‏ ‏الخلفاء يفسد العدل

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ١٦ - سبتمبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

 

مقدمة
1 ـ المقصود بالقضاء السياسى أن يكون الحاكم ( المستبد ) خصما للمعارضة الواقعة تحت سلطانه ، فيستخدم ضدهم سلطاته التشريعية والتنفيذية والقضائية ، ويكون هم الخصم و الحكم بينما يكون الخصم مستضعفا مهضوم الحق.
هذا القضاء السياسى فى دولة المستبد يبدو ـ ظاهريا ـ منقطع الصلة بالقضاء العادى بين الأفراد فى المشاحنات العادية البعيدة عن السياسة ، ولكن الواقع أن الاستبداد الذى يصادlde;ادر حقوق الناس السياسية هو الظلم الأكبر الذى لا بد أن يمتد ليصادر حقوق الناس الاقتصادية والمعيشية ، ولا بد أن يخلق فسادا وأطماعا فى أموال وممتلكات وحقوق الناس العاديين ،ويكون المستبد وأعوانه هم أبطال هذا الفساد ، وبالتالى يكون المستبد هنا أيضا هو الخصم والحكم لأفراد الشعب العاديين خارج السياسة والمعارضة السياسية .
وفى موضوعنا عن القضاء فالمستبد هو المتحكم فى السلطة القضائية ، وهو يسخرها لخدمته ، ولا يستخدم  فيها إلا من يدين له بالولاء من أصحاب الثقة الذين هم على شاكلته من الاستبداد والجور . القضاة من هذا الصنف يمارسون الاستعلاء على الناس خارج المحكمة ، والحكم ظلما  داخلها ، لا يهمهم رضا الناس المقهورة المتطلعة للعدل ولكن رضا ولى النعم الحاكم المستبد . ومن الوارد وجود قضاة عدول فى هذا الجو الخانق ، ولكنهم مجرد إستثناء فى دولة الاستبداد .
وننتبع فى هذا المقال  البدايات الأولى لنشأة هذا القضاء السياسى الظالم فى عصر الخلفاء (الراشدين ) وننتهى الى تأثير هذا القضاء السياسى سلبيا على القضاء العادى فى نموذج تاريخى عن عصر المأمون العباسى المشهور بعقليته المتفتحة وحبه للعدل وشهرته بالحلم والصفح .
أولا : هذا التحول للاستبداد هل يعد فشلا للاسلام ودولته الاسلامية ؟
1 ـ بداية التحول والخروج عن منهج الاسلام ودولته الديمقراطية المباشرة قد بدأ مباشرة بعد وفاة النبى محمد عليه السلام ، بل قبيل دفنه ، وقد يتساءل بعضهم عن مدى صلاحية الاسلام طالما قام على أكتاف الصحابة ثم بدأ أفوله على يد نفس الصحابة .
الواقع إنه إنتصار أكبر للاسلام أن خلق المستحيل فى الزمان والمكان،وهو إقامة دولة ديمقراطية يحكمها الناس فى عصر تتسيده ثقافة الاستبداد والاستعباد قبل وبعد وفاة خاتم المرسلين عليهم جميعا السلام . هذا هو المستحيل من حيث الزمن . ثم أن ينجح الاسلام فى إقامة دولة ديمقراطية فى بيئة صحراوية قبلية ( نسبة للقبيلة )حيث يسود الولاء للقبيلة والنسب وليس للدين أو للدولة. أى أن إقامة دولة اسلامية ديمقراطية كان مستحيلا بحكم الزمان(العصور الوسطى) وحكم المكان ( صحراء الجزيرة العربية ).
ولم يكن هذا سهلا ، فثقافة الاستبداد والجور كان لها أنصار كانوا يحاربون الاسلام ودولته من الداخل بالمكائد ( المنافقون ) ومن الخارج بالحرب المسلحة والسرية (الأمويون والأعراب).
وبعد موت مؤسس هذه الدولة ـ عليه السلام ـ  فالمنتظر أن يبدأ العد التنازلى فى انهيارهذه الدولة التى كانت تمثل جزيرة ديمقراطية وسط محيط هائج من الاستبداد يحاصرها يريد إغراقها.   
على أن هذا الانهيار لم يتم بسهولة بسبب التاثير الهائل الذى أحدثه القرآن الكريم مع قلة سنواته منذ بدء الوحى على خاتم المرسلين الى موته ،(23 ) عاما فقط ،ومع قصر عمر الدولة الاسلامية الديمقراطية المدنية الحقوقية ذات السنوات العشر ( 1 : 10 هجرية) ـ ( 622 ـ 632 ميلادية )
لم يتمكن أنصار الاستباد و الفساد من القضاء علي دولة الاسلام إلا بالتدريج وبصعوبة ، وعبر سنوات من النزاع و الحروب خلال دولة الخلفاء الراشدين(11-40هـ)(632-661م) أسفرت فى النهاية عن عودة القاعدة العامة وهى الاستبداد والاستعباد ممثلا فى الدولة الأموية:(41-132هـ) (661 -750م)حيث أقام الأمويون استبدادا عربيا قائما على التعصب القبلى(بين العرب) والتعصب العرقى ضد أصحاب البلاد الأصليين ، مع محاولات ساذجة و بدائية فى تسويغه بمبررات دينية تقوم على مبدأ ( الجبرية ).
جاءت الدولة العباسية ( 132 ـ 658 هجرية ) (750-1258م ) بترسيخ وتأطير كل ملامح الدولة الدينية وكهنوتها السياسى،وعلى سنتها سارت الدولة المملوكية العسكرية( 648 ـ 921 )( 1250 ـ 1517 )حتى لقد انتقلت الخلافة العباسية للقاهرة حفاظا على هذا الكهنوت السياسى ولاعطاء الشرعية الدينية لدولة العسكر المملوكية. وبسقوط الدولة المملوكية حرص السلطان العثمانى سليم الأول على العودة الى عاصمته بآخر خليفة عباسى ، وبعدها أصبح سليم العثمانى هو الخليفة ، وانتقلت الخلافة الى العثمانيين لتسويغ دولتهم الدينية . وسقطت الخلافة العثمانية عام 1924 ويريد الوهابيون إحياء الخلافة السنية للسيطرة بها على العالم (المسلم ) فى مواجهة العالم الغربى بمثل ما كان فى العصور الوسطى .
تلك هى الأرضية التاريخية التى ظهر وترسخ فيها القضاء السياسى فى تاريخ المسلمين وحاضرهم الراهن.
2 ـ فى كل هذا التاريخ المخزى للمسلمين فى استغلال إسم الاسلام فى تحقيق أطماعهم السياسية ضاعت الملامح الحقيقية للاسلام ودولته الديمقراطية ، بينما إكتشفها الغرب وطبقها جزئيا فى الأغلب وطبقها كاملا فى بعض المناطق . هذا بينما يسعد المسلمون بالاستبداد والفساد تحت سيطرة دول عسكرية أو دينية ، وكلهم يستغل اسم الاسلام العظيم بلا خجل .
الحضيض الذى يحياه المسلمون الان يتمثل فى التناقض بين الاسلام والمسلمين فى موضوع الدولة الديمقراطية ، ففى أثناء تسيد الاستبداد العالم نجح الاسلام فى إقامة نموذج للديمقراطية المباشرة وليس فقط الديمقراطية التمثيلية النيابية ، ونجح فى إقامتها فى صحراء لم تعرف من قبل بناء دولة اصلا . ونحن الآن نعيش عصرسيادة ثقافة الديمقراطية وعصر التقدم الهائل فى وسائل الاتصال والمواصلات وانعدام المسافات بما يجعل من تحقيق الديمقراطية المباشرة أكثر يسرا ، ولهذا يحدث التحول الديمقراطى وتداول السلطة بالانتخابات فى العالم الثالث كله فى دول لم تكن موجودة من نصف قرن بينما تعود الوهابية بالمسلمين ـ أقدم شعوب العالم ـ الى الوراء، ويعتبر أئمة المسلمين السنيين الديمقراطية رجسا من عمل الشيطان .!
3 ـ ونعود الى القضية الأولى . فهذا التحول والفسوق والخروج على جوهر الرسالات السماوية هو الظاهرة المتواترة فى تاريخ البشر، قبل وبعد نزول القرآن الكريم ، ولذلك تكررت الرسالات السماوية تقول نفس الشىء لأن العصيان لا يلبث أن يعود بعد وفاة كل رسول وكل نبى .
ولا بد لهذا العصيان أن يتكرر بعد وفاة خاتم الأنبياء والمرسلين، فالشيطان لم يقدّم استقالته، وسيظل  يمارس غوايته للبشر الى قيام الساعة (قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ  )(الأعراف 14 : 17 ) .
4 ـ وقد تختلف ظروف وبواعث ذلك التحول والفسوق طبقا للظروف ، ولكن تنتهى الى إقامة أديان أرضية على أشلاء الدين السماوى .
مثلا : جاء المسيح عليه السلام لبنى اسرائيل بنفس رسالة ( لا اله إلا الله ) التى قالها من قبله كل أنبياء بنى اسرائيل ، وسرعان ما بدأ الانحراف العقيدى مباشرا على يد بولس الذى جعل المسيح إبنا لله جل وعلا.
وجاء محمد عليه السلام بنفس رسالة ( لا إله إلا الله ) التى أكّدتها ملة ابراهيم الحنيفية من قبل ، ولكن الانحراف العقيدى بتأليه محمد ( كما حدث مع المسيح ) جاء تاليا لانحراف سياسى أو نزاع سياسى استعمل الكذب على النبى محمد عليه السلام بعد وفاته،وقام بذلك بعض الصحابة أشهرهم أبو هريرة خادم الأمويين . وبفتح باب الكذب على الرسول تأسست لدى المسلمين أديان أرضية ، تشترك كلها فى تأليه النبى محمد وآخرين معه، وعلى أساسها قامت للمسلمين دول مستبدة ، كان ـ ولا يزال ـ القضاء السياسى ملمحا أساسا فى تعامل المستبد مع خصومه .
المقصود أن الانحراف عن الدين الحق يأتى سريعا بعد موت الرسول المبعوث بالحق ، ولكن تختلف ظروف الانحراف ، فمثلا بدأ مبكرا فى البيئة الاسرائيلية بمحاولة قتل وصلب المسيح فلما رفعه الله جل وعلا اليه حدث تحول آخر يزعم أنه إبن الله ،أوأنه الله ـ تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وهذا التحول يتفق مع البيئة الثقافية لبنى اسرائيل ومن حولهم.
والانحراف السياسى العسكرى للعرب المسلمين جاء متفقا مع طبيعة الحربية للقبائل العربية  الصحراوية التى تحترف الغارات والسلب والنهب طريقا للحياة.
5 ـ بدأ هذا التحول مبكرا جدا بمجرد وفاة خاتم المرسلين فى بيعة السقيفة ، ووتوزعت البطولة فى هذا الانحراف بين الأمويين من ناحية وقبائل منطقة نجد من الناحية الأخرى. والواقع أن منطقة نجد كانت ـ ولا تزال ـ مصدر الشرور للاسلام والمسلمين ، منذ ظهور مسيلمة الكذاب فى وادى حنيفة فى نجد الى ظهور ابن عبد الوهاب والوهابية فى نفس وادى حنيفة فى نجد.
وفى بحثنا هذا عن وظيفة القضاء بين الاسلام والمسلمين نضطر للتلامس مع بعض الجذور السياسية لتفسر الانحراف الذى حدث لوظيفة القضاء من عهد الخلفاء الراشدين ، تاثرا بالتقلبات السياسية التى تحولت بها دولة الاسلام المدنية ذات الديمقراطية المباشرة ـ وبالتدريج ـ الى دولة دينية ،عبر فصول من الحروب الأهلية والمذابح ، بما يتفق مع طبيعة العرب العسكرية وصراعهم المسلح فى سبيل النفوذ والنقود.  
6 ـ بموت النبى محمد اندلعت حركة الردة ، وأقواها كان فى نجد حيث مسيلمة الكذاب مدعى النبوة ، ووقعت المدينة تحت حصار حربى منظور من جيوش المرتدين ، ووقع كبار الصحابة تحت حصار آخر غير منظور من النفوذ الأموى المتزعم للقرشيين الذين دخلوا الاسلام حديثا بعد تاريخ طويل من العداء والحروب ، والمنافقين فى المدينة والذين فضح القرآن تآمرهم وقت نزول الوحى ، ومن الطبيعى بعد انتهاء الوحى نزولا أن يشتد تآمرهم ويستقوى بالأمويين الذين دخلوا الاسلام بعد تاريخ طويل من العداء والحروب.
أدى هذا الوضع الاستثنائى الى بيعة أبى بكر قائدا حربيا وحاكما فى بيعة السقيفة ، وهنا بداية الانحراف فى السياسى فى تعيين حاكم فى دولة تركها النبى محمد تحكم نفسها بنفسها طبقا للديمقراطية المباشرة. إقترن بتلك البداية فى الانحراف إغتيال زعيم الأنصار سعد بن عبادة الذى ظل معارضا لبيعوة السقيفة رافضا الاعتراف بخلافة ابى بكر ثم عمر.
7 ـ تأكد الانحراف بعد القضاء على خطر حركات الردة المسلحة ، ورجوع الأعراب المرتدين الى الاسلام ، فالنفوذ الأموى تطلع الى إعادة السيطرة على طريق التجارة الشرقية بين الهند واوربا عبر رحلتى الشتاء و الصيف بين اليمن و الشام ، وكانت الظروف فى صالح الأمويين ،لأنه لا يمكن السيطرة على النزعة الحربية للقبائل النجدية إلا بتوجيه قوتها الحربية نحو الشمال صوب الامبراطوريتين الفارسية والبيزنطية ، فكانت الفتوحات التى تأكد بها الانحراف السلوكى بالعدوان على أمم وشعوب لم تعتد على المسلمين .
واكتمل الانحراف بنجاح الفتوحات فى عهد عمر بن الخطاب المنسوب اليه قوله ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ) وهو الذى استرق شعوبا من الأحرار من ايران الى العراق و الشام ومصر ، وفتح الطريق للأمويين فيما بعد لمزيد من الفتوحات المحرمة اسلاميا.
هذه هى الخلفية السياسية التى بدأ بها الانحراف فى عهد عمر بن الخطاب فى وظيفة القضاء ثم استشرى وساد بعده . ونتتبعه فى هذا المقال وما بعده .
ثانيا : الخلفاء الراشدون وبداية ظهور القضاء السياسى الجائر
1 ـ القاضى لا بد أن يكون محايدا ، ولا يمكن للقاضى أن يكون خصما للمتهم ، فيكون الخصم والحكم فى نفس الوقت،ولكن هذا هو ما يحدث فى ظل الحكم الفردى وتعامله مع المعارضة فى الماضى والحاضر.
وبهذا يرتبط الانحراف السياسى عن الديمقراطية المباشرة بانحراف فى القضاء . فى دولة الاسلام الديمقراطية المباشرة لا يوجد حاكم ، بل طوائف متعددة من أولى الأمر تخضع للمساءلة ، وكانوا موجودين ومطاعين فى دولة المدينة فى عهد خاتم المرسلين نفسه ، وفق ما جاء فى القرآن الكريم ،وبالتالى فلا يمكن أن يوجد حاكم فرد يكون خصما لأحد .
2 ـ فى بيعة السقيفة أصبح أبو بكر أميرا للمؤمنين ،وظهر هذا اللقب لأول مرة تعبيرا عن وجود حاكم فرد وفق ثقافة العصور الوسطى . وقف سعد بن عبادة يعارضه مطالبا بحق الأنصار فى المشاركة فى الحكم كما كان من قبل ، فهم الذين (آووا ونصروا ) وبهم وفى أرضهم قامت دولة الاسلام ، وهم الذين استضافوا المهاجرين من قريش وغيرها . كانت معارضة سعد بن عبادة علنية وصريحة و تستند الى العدل والمنطق ، وكانت الى جانب ذلك استمرارا لواقع عايشه المسلمون فى عهد النبى محمد من المشاركة فى الحكم والسلطة ، بل كانت أيضا استمرار وتأكيدا لمعرفة المسلمين بالاعتراف بالمعارضة التى قام بها ـ قبل ذلك بقليل ـ المنافقون فى عهد خاتم المرسلين ، وقد تمتعوا بحرية القول والفعل والحركة فى ظل شريعة الاسلام حيث كان القرآن الكريم يأمر بالاعراض عنهم، وترك أمرهم لله جل وعلا. ومن المؤكد أن معارضة سعد بن عبادة العلنية الواضحة المقبولة كانت من حيث النوع والحجم مختلفة عن معارضة المنافقين لخاتم المرسلين ، كما أن أبا بكر وعمر ليسا فى موضع مقارنة بخاتم المرسلين .
بعد موت أبى بكر الذى تجاهل معارضة سعد منشغلا عنه بمواجهة المرتدين ثم ببدء الفتوحات جاءت محنة سعد بن عبادة مع عمر . كان منتظرا أن يتعامل عمر مع خصمه سعد بن عبادة بالسّنة الحقيقية الالهية القرآنية ، أى الاعراض والصفح الجميل ، ولكن عمر بن الخطاب استخدم سلطته كحاكم فرد فى التضييق على سعد بن عبادة حتى اضطر سعد الى الرحيل الى حوران فى للشام ، وسرعان ما تم إغتياله هناك سنة 15 هجرية ،اى بعد عامين ونصف من خلافة عمر .  ووصل خبر إغتياله للمدينة على أن الجنّ قتلته ، وأذاعت نبأ قتله شعرا( الطبقات الكبرى لابن سعد : 3 / 2/ 145 ) .
عمر بن الخطاب هنا هو خصم وحكم ، وهو مبتدع ( القضاء السياسى ) فى تاريخ المسلمين ،أى حق الحاكم الفرد فى معاقبة خصومه دون مساءلة ، ودون حق لهم فى الدفاع عن أنفسهم ، بمعنى أن الأخ حسنى مبارك يستن بسّنة عمر بن الخطاب حين يستغل القضاء لصالحه بإنشاء محاكم أمن الدولة وإحالة المدنيين الى المحاكم العسكرية والحكم بقانون الطوارىء ليكون الخصم والحكم فى تعامله مع المعارضة .
3 ـ عمر كحاكم فرد بدأ أول خطوة فى طريق الاستبداد بأن جمع لنفسه السلطات الثلاث : التشريعية و القضائية والتنفيذية. ويظهر هذا ببساطة فى تجواله فى المدينة يحمل فى يده (الدرة) يضرب بها من يراه مستحقا للضرب. يقول الطبرى عن عمر( وهو أول من حمل الدرة ، وضرب بها ) ( تاريخ الطبرى 4 / 209 ) .
ومعظم النار من مستصغر الشرر فإن هذا السلوك من عمر مع بساطته فهو أول خطوة فى الاستبداد . فالحاكم هنا هو الذى يقوم بضبط المتهم ، وهو الذى يسن التشريع بعقوبته ، وهو الذى يحكم عليه بتلك العقوبة ، وهو الذى يضربه منفذا العقوبة. وليس هذا الحاكم مساءلا أمام أحد ، ولا يجرؤ أحد أن يسأله لماذا و كيف ؟ وإذا كان هذا الحاكم يتصرف بهذا الشكل مع الناس العاديين فكيف يتصرف مع المعارضة ؟
4 ـ واشتهر عمر بأنه كان يسير ليلا (يتفقد أحوال الرعية) ومعه درته المشهورة . أى إن عمر هو أول من حقق عمليا مقولة (الراعى و الرعية )، وبمثل ما يفعل الراعى مع الأغنام والمواشى يسير بعصاه يتفقد أحوالهم كان عمر يفعل مع المسلمين من أهل المدينة.
فكرة (الراعى والرعية ) هى أساس الاستبداد ، إذ تشبه الحاكم المستبد بالراعى و تشبه الشعب بالرعية أو المواشى والأغنام التى يملكها ويتحكم فيها الراعى ، يذبح منها ما يشاء ، ويستبقى و يستغل منها ما يشاء ، وليس لأحد من الأغنام مناقشة الراعى أو سؤاله لماذا وكيف.! ومن هنا تم صقل عبارات مثل ان السلطان يملك الأرض ومن عليها ، لا فارق بين بشر وبهائم وغنم . تلك كانت ثقافة العصور الوسطى التى عكستها الأديان الأرضية قبل القرآن الكريم ، ثم عادت بقوة فى دول المسلمين الاستبدادية ، وكان الذى بعثها من مرقدها هو عمر بن الخطاب.
جدير بالذكر أنه يحرم فى الاسلام مخاطبة الخالق جل وعلا بأنه الراعى ، وجعل البشر رعية لرب العزة ( البقرة 104 النساء 46 ) فكيف يكون واحد من الناس راعيا لبقية الناس مسيطرا عليهم مالكا لهم و متحكما فيهم ؟
 5 ـ وجود المعارضة قوية وشديدة الحيوية دليل على ديمقراطية الدولة . بعد مأساة سعد بن عبادة ونفيه ومقتله تمت مصادرة حق الأنصار فى المشاركة السياسية ولم توجد معارضة سياسية لعمر بن الخطاب ، ولكنه كان يترصد لها حتى قبل أن توجد ، بل كان يترصد لها حتى وهو فى فراش الاحتضار ، فقد عهد بأن يتشاور ستة من كبار المهاجرين لاختيار خليفة من بينهم ( على ، عثمان ، الزبير ، طلحة ، عبد الرحمن بن عوف ، سعد بن أبى وقاص ) مع وجود ابنه عبد الله معهم له حق التصويت دون الترشيح  ، وأمر بقتل المخالفين منهم إذا كانوا أقلية تعارض الأغلبية ، أى أوجب أبتداءا أن يكون الاختيار بالاجماع دون معارضة ، وإلا فالقتل. هذا التهديد بالقتل كان موجها لكبار الصحابة الستة ، فقد أمر أبا طلحة بأن يقوم على رءوسهم بالسيف ومعه خمسون رجلا الى أن ينتهوا الى قرار بالاجماع باختيار واحد منهم . ( تاريخ الطبرى 4 / 229 )
التناقض هنا واضح بين عهد خاتم المرسلين فى المدينة وعهد عمر بعد موت النبى عليه السلام بعدة سنوات . فى عهد النبى محمد ـ الذى شهده عمر ـ كانت المدينة شعلة لا تهدأ من النشاط السياسى والحركة الحيوية ، وتشارك فيها المعارضة من المنافقين ، حيث ينشغل المنافقون والمنافقات فى موالاة لبعضهم البعض يسيرون فى شوارع المدينة يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقيمون مسجدا خاصا بهم ضرار وكفرا وتفريقا بين المؤمنين:( التوبة 67 ـ ، 71 ـ ، 107 ـ ). لم يتعرض لهم أحد بالدرة.
فى عهد عمر خمدت الأصوات ما عدا صوت عمر ، ووصلت رهبته والخوف منه الى أطفال المدينة.   كان هو الحاكم الوحيد والقاضى الحاكم بأمره ، والباقون معظمهم خائفون من درته. كان معظم شباب المدينة ورجالها فى الفتوحات تركوا اطفالهم ونساءهم تحت رحمة درة عمر .
كان تركيز عمر على الاستبداد وحصر السلطة فى يد وممسكا الدرة بيده الأخرى ، مع الحرص على استنزاف أموال البلاد المفتوحة بالجزية والخراج وتوزيعه على العرب بالعدل. وكى يحصر السلطة فى يده منع كبار الصحابة من الخروج من المدينة والسفر الى البلاد المفتوحة حتى لا تتكون بهم مراكز قوى تتجزأ بهم الدولة فيمابعد. وجعلهم مستشارين يأخذ برأيهم حسب ما يريد. 
6 ـ جاء عثمان خليفة بسياسة جديدة بعد عمر، تجمع بين الفساد والاستبداد. سمح لكبار الصحابة بالانسياح فى البلاد المفتوحة ، وسمح لهم بجمع الأموال فاكتنز معظمهم الذهب أكداسا ـ حسبما شرحنا فى مقالنا البحثى ( المسكوت عنه من تاريخ عمر فى الفكر السّنى ) وبذلك تخلص من عبء معارضتهم له ، وأحلّ مستشارين له أقاربه الأمويين ، الذين سيطروا على الدولة فى عهده ، وأبرزهم معاوية فى الشام ، بينما جعل مروان بن الحكم مستشاره المؤتمن ، والذى سيطر على الخلافة . ولم يكتف بذلك بل منحهم الأموال بلا حساب. أى إن عثمان أسكت معظم الصحابة بالأموال فى مقابل أن جعل اسرته الأموية تستحوذ على السلطة و تمهد لنفسها الأمر ، علاوة على ما تأخذه من أموال ، تدخره للمستقبل .
لم يكن لهذا ان يمرّ دون معارضة . جاءت المعارضة من (على بن أبى طالب ) الذى تمسك بالسنة الحقيقية لخاتم المرسلين ، كما جاءت من بعض السابقين فى الاسلام مثل ابن مسعود وعمار بن ياسر وأبى الدرداء و أبى ذر الغفارى. لم يستطع عثمان أن يستعمل سلطته فى عقاب (على بن أبى طالب) فاستحكم بينهما الجفاء بعد أن ملّ عثمان من وعظ (على ) له ونصيحته إياه . لم يطق عثمان صبرا على معارضة الاخرين من رفاقه من كبار الصحابة فاستعمل معهم سلطته بالضرب و النفى والتعذيب ، ‏فتعرض‏ ‏عمار‏ ‏بن‏ ‏ياسر‏ ‏للضرب‏ ‏حتى ‏فتقت‏ ‏أمعاؤه‏، ‏وضربوا‏ ‏ابن‏ ‏مسعود‏ ‏حتى ‏كسروا‏ ‏أعضاءه‏ ‏ومنعوا‏ ‏عطاءه‏ ‏ونفوا‏ ‏أبا‏ ‏ذر‏ ‏إلى ‏الربذة‏، ‏وطردوا‏ ‏أبا‏ ‏الدرداء‏ ‏من‏ ‏الشام‏. ‏وكل‏ ‏ذلك‏ ‏لانهم‏ ‏انتقدوا‏ ‏عثمان‏ ‏والأمويين‏ ‏من‏ ‏أقاربه‏ ‏الذين ‏تحكموا‏ ‏فى ‏خلافته‏.‏
أى إذا كان عمر قد إستحدث بضربه الناس بالدرة ـ نظام الحسبة والمطوعة ، فإن عثمان بن عفان هو أول من بدأ عقوبة التعذيب لأقرانه من كبارالصحابة ، وهو الذى إخترع عقوبة التشهير، وقد استعملها مع المحتجين على سياسته من الأعراب .
ونتوقف معهم لحظة : هؤلاء الأعراب ـ الذين هم أشد الناس كفرا ونفاقا ـ كان معظمهم من قبائل نجد .كانوا يفكرون بسيوفهم وليس بعقولهم ، لذا تقلبت بهم الأحوال . أسلموا فى عهد النبى كيدا لقريش والأمويين ، ثم ارتدوا بعد موته بسبب عودة النفوذ الأموى القرشى، ثم عادوا الى الاسلام بعد هزيمتهم ، ثم صاروا عماد الفتوحات تحت قيادة قريش ، ثم ثاروا على عثمان وتلقبوا بالثوار حين رأوا ثمار تعبهم يأكله مترفو بنى أمية ، ثم أحتلوا المدينة وقتلوا عثمان ، وأرغموا (عليا)  على تولى الخلافة، ثم صاروا شيعته وعماد جيشه فى موقعتى الجمل وصفين ، فقاسى منهم (على ) كل المصاعب بسبب حمقهم و تسلطهم عليه وسرعة تحولهم من النقيض الى النقيض. أرغموا عليا على قبول خدعة عمرو بن العاص حين رفع المصاحف على أسنّة الرماح طالبا تحكيم كتاب الله لينقذ جيش معاوية من الهزيمة. وبعد مهزلة التحكيم إنقلبوا على ( على ) يلومونه ، ثم خرجوا عليه فاصبح لقبهم الخوارج ، وهم الذين قتلوا (عليا ) فى النهاية. أى خلال جيل واحد فعل أعراب نجد كل هذا التقلب وكل تلك الحروب من حرب الردة الى الفتوحات الى قتل عثمان والفتنة الكبرى وقتل على .
بدأ زعماؤهم فى الكوفة إنتقاد عثمان فاخترع لهم عثمان عقوبة (التسيير ) عام 33 ، فسير جماعة من أهل الكوفة مقبوضا عليهم إلى معاوية، فلما ذهبوا إليه أرجعهم إلى الكوفة ،فسيرهم واليها إلى حمص. وهذا التسيير يعنى التشهير بهم فيما بين العراق الى الشام وبالعكس ( تاريخ الطبرى 4 / 317 ـ ).
 وبهذا (التسيير ) يكون عثمان هو أول من اخترع عقوبة ( كعب داير ) التى يتفنن فيها البوليس المصرى فى إذلال المصرى المشتبه فيه ،بأن يدور به شرطى بالحديد على كل أقسام البوليس ليرى هل هو مطلوب فى قضية أم لا .
أدى هذا التسيير الى شيوع الانتقاد لعثمان فوصل الى الأعراب فى مصر وأنتهى الأمر باجتماع الثوار ومجيئهم المدينة وحصارها وقتلهم عثمان عام  35 .
كان بامكان عثمان تفادى القتل لونفّذ نصائح (على ) ولواستجاب للمطالبة بعزله واستقال ، ولكنه تمسك بالحكم الى آخر لحظة قائلا ( لم أكن لأخلع سربالا سربلنيه الله)( تاريخ الطبرى 4 / 371 ) أى إعتبر الحكم تفويضا الاهيا ، وتلك هى عقيدة الدولة الدينية بدأ بها عثمان مبكرا قبيل قتله .
7 ـ وتولى (على ) الخلافة فى ظروف معاكسة؛فالعصر كله ضد رغبته فى الاصلاح . حكم (على ) بمنهج القاضى العادل ، وليس بمنهج السياسى الذى ينتهز الفرص ليحقق غرضه باى وسيلة ( مثل معاوية ) لم يعد منهج (على ) صالحا فى التعامل ، فالراسمالية القرشية الجديدة التى بناها عثمان سريعا وقفت ضد منهج (على ) القائم على الاصلاح والعدل ، وتزعم هذه الرأسمالية من كبار الصحابة إثنان هما الزبير إبن العوام و طلحة بن عبيد الله ، ومعهما السيدة عائشة لأسباب خاصة بها . هذا بالاضافة الى الأمويين يتزعمهم معاوية ومروان بن الحكم.
كان يمكن لعلى الانتصار عليهم ، وقد انتصر فعلا فى موقعة الجمل ، وكاد أن ينتصر فى صفين عام 37 لولا إن أشد أعدائه كانوا أعراب نجد ، وهم عماد جيشه ، وقد خرجوا عليه وكفّروه ، واعتدوا بالقتل على الآمنين فاضطر (على) لحربهم فى النهروان فى نفس العام . وشهد عام 40 خرج عبد الله ابن عباس وتخليه عن ابن عمه (على ) وقت شدته فسرق بيت المال فى البصرة وهرب الى بمكة ،( تاريخ الطبرى 5 / 141 : 143 ) وبعدها قتل عبد الرحمن بن ملجم (عليا ) فى نفس العام . ودخل الحسن و الحسن فى الطاعة لمعاوية ومعهما معظم الشيعة ، بينما ظل الخوارج يصارعون الدولة الأموية الى أن أنهكوها وأنهكتهم حتى سقطت عام 132.
اضطررنا للتوقف التاريخى لنؤكد على أن بدايات الاستبداد والفساد أدت الى الحروب الأهلية ، وتلك الحروب الأهلية أدت بدورها الى ارساء حق الحاكم أو الطامع فى الحكم فى شن الحروب، واستحلال قتل الخصوم من نفس الدين والملة. وهذا مناقض للاسلام ودولته وشريعته، ولكنه أصبح الشريعة التى سار عليها المسلمون من الحكام ، ولا يزالون . .
ثالثا : القضاء السياسى عند الخلفاء (غير الراشدين )
1 - ‏ ثم‏ ‏استمر‏ ‏الظلم‏ ‏للمعارضة‏ ‏فى ‏خلافة‏ ‏معاوية‏ ‏مع‏ ‏ما‏ ‏اشتهر‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏حلم‏، ‏وقد‏ ‏أخذ‏ ‏معاوية‏ ‏خصومه‏ ‏الحربيين‏ ‏بالشدة‏، ‏ولا‏ ‏شيء‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏طالما‏ ‏كان‏ ‏الحوار‏ ‏بينهما‏ ‏يدور‏ ‏بالسلاح‏ ‏وعلى ‏أرض‏ ‏المعارك‏، ‏أما‏ ‏سياسته‏ ‏مع‏ ‏خصومه‏ ‏الداخلين‏ ‏فى ‏طاعته‏ ‏فقد‏ ‏كان‏ ‏طابعها‏ ‏الأغلب‏ ‏هو‏ ‏السماح‏ ‏لهم‏ ‏بالانتقاد‏ ‏طبقا‏ ‏لمقولته‏ ‏المشهورة‏ "‏إنى ‏لا‏ ‏أحول‏ ‏بين‏ ‏الناس‏ ‏وألسنتهم‏ ‏ما‏ ‏لم‏ ‏يحولوا‏ ‏بيننا‏ ‏وبين‏ ‏ملكنا‏" ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏معاوية‏ ‏خالف‏ ‏سياسته‏ ‏هذه‏ ‏حين‏ ‏أمر‏ ‏بقتل‏ ‏حجر‏ ‏بن‏ ‏عدى ‏الكندى ‏وأصحابه‏.
‏وكان‏ ‏حجر‏ ‏بن‏ ‏عدى ‏من‏ ‏كبار‏ ‏شيعة‏ ‏على، ‏وقد‏ ‏اضطر‏ ‏لبيعة‏ ‏لمعاوية‏ ‏مثل‏ ‏باقى ‏الشيعة‏، ‏ولكنه‏ ‏استمر‏ ‏على ‏عدائه‏ ‏لمعاوية‏ ‏مع‏ ‏نفر‏ ‏من‏ ‏أصحابه‏ ‏فى ‏الكوفة‏، ‏وكانوا‏ ‏يعقدون‏ ‏مجالس‏ ‏فيها‏ ‏يتذكرون‏ ‏مآثر‏ "‏علي‏" ‏ويلعنون‏ ‏معاوية‏، ‏وكان‏ ‏يعارض‏ ‏والى ‏الكوفة‏ ‏المغيرة‏ ‏بن‏ ‏شعبه‏ ‏حين‏ ‏يبدأ‏ ‏المغيرة‏ ‏فى ‏خطبة‏ ‏الجمعة‏ ‏فى ‏لعن‏ ‏على، ‏فولى ‏معاوية‏ ‏على ‏الكوفة‏ ‏زياد‏ ‏بن‏ ‏ابيه‏ ‏فاستمر‏ ‏حجر‏ ‏فى ‏معارضته‏ ‏لشتم‏ "‏علي‏" ‏فى ‏خطبة‏ ‏الجمعة‏، ‏فأمر‏ ‏زياد‏ ‏باعتقال‏ ‏حجر‏ ‏وأتباعه،  ‏وهدد‏ ‏أهل‏ ‏الكوفة‏ ‏حتى ‏لا‏ ‏ينحازوا‏ ‏لحجر‏ ‏وأصحابه‏، ‏وجيء‏ ‏بحجر‏ ‏إلى ‏زياد‏ ‏فقال‏ ‏له‏ ‏زياد‏ "‏حرب‏ ‏فى ‏أيام‏ ‏الحرب‏، ‏وحرب‏ ‏وقد‏ ‏سالم‏ ‏الناس‏" ‏فقال‏ ‏حجر‏ "‏ما‏ ‏خلعت‏ ‏طاعة‏ ‏ولا‏ ‏فارقت‏ ‏جماعة‏ ‏وإنى ‏لعلى ‏بيعتي‏". لم يرض زياد ابن ابيه بمقالة حجر ، فاستشهد عليه جماعة من أهل الكوفة ، منهم القاضى أبو بردة بن أبي موسى الأشعرى  ، وزعموا أنه خلع الطاعة ودعا إلى الفتنة‏.‏ ‏وأمر‏ ‏زياد‏ ‏بإرسال حجر مع أصحابه ‏معتقلين‏ ‏إلى ‏معاوية‏ ‏فى ‏دمشق‏ ‏مع‏ ‏شهادة‏ ‏سبعين‏ ‏رجلا‏ ‏بأنه‏ ‏شق‏ ‏الطاعة‏ ‏وأعلن‏ ‏الحرب‏ ‏وجمع‏ ‏الجنود‏، ‏وتلك‏ ‏تهمة‏ ‏تستحق‏ ‏القتل‏ ‏لدى ‏معاوية‏، ‏ولم‏ ‏يحقق‏ ‏معاوية‏ ‏فى ‏الأمر‏، ‏وأمر‏ ‏بقتل‏ ‏حجر‏ ‏وأصحابه‏، ‏.‏( المنتظم 5 / 241 ـ عام 51 )
2 ـ و‏كانت‏ ‏تلك‏ ‏أول‏ ‏محاكمة‏ ‏سياسية‏ ‏ظالمة‏ ‏فى ‏تاريخ‏ ‏المسلمين‏ ‏لمعارضين‏ ‏لا‏ ‏يحملون‏ ‏السلاح، وبها إنفتح الباب على مصراعيه لقتل المعارضين السياسيين باستخدام القضاء السياسى،وحتى بدون محاكمة ،أى بمجرد نطق الخليفة أو الوالى أو القائد بقتل فلان.
ونعطى أمثلة :
يذكر الطبرى فى أحداث عام 58 أن عبيد الله بن زياد بن أبيه والى الكوفة اشتد فى مطاردة الخوارج، (فقتل منهم صبرًا جماعة كثيرة ) أى اعتقل من كان فى بيته منهم لم يحارب فألقاه فى السجن معذبا وبلا طعام ولا شراب ولا غطاء حتى يموت ، وتلك كانت عقوبة مشهورة لدى الأمويين. ويحكى الطبرى كيف قتل ذلك الوالى الأموى إبن زياد زعيم الخوارج عروة بن أدية صبرا ، فقد كان إبن زياد يتمتع بمشاهدة سباق لخيوله ، فدخل عليه عروة بن أدية ووعظه مستشهدا بقوله جل وعلا:(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ) ‏فأمر ابن زياد به فقطعت يداه ورجلاه ، وألقاه فى السجن ليموت صبرا ، ثم دعاه فقال‏:‏ كيف ترى؟ قال‏:‏ أرى أنك أفسدت دنياي وأفسدت آخرتك.!  فقتله وأرسل إلى ابنيه فقتلهما‏.‏) ( تاريخ الطبرى 5 / 312 ـ )
‏تطور‏ ‏الظلم‏ ‏للمعارضة‏ ‏السياسية‏ ‏السلمية‏ ‏بعد‏ ‏معاوية‏، ‏خصوصا‏ ‏فى ‏خلافة‏ ‏عبد‏ ‏الملك‏ ‏بن‏ ‏مروان‏، ‏وهو‏ ‏الذى ‏خطب‏ ‏فى ‏المدينة‏ ‏عام‏ 75 ‏هـ‏ ‏فقال‏ ‏لأهلها‏ "‏أنى ‏لا‏ ‏أداوى ‏أدواء‏ ‏هذه‏ ‏الأمة‏ ‏إلا‏ ‏بالسيف‏ ‏حتى ‏تستقيم‏ ‏لى ‏قناتكم‏، ‏فلن‏ ‏تزدادوا‏ ‏إلا‏ ‏عقوبة‏ ‏حتى ‏يحكم‏ ‏السيف‏ ‏بيننا‏ ‏وبينكم‏، ‏والله‏ ‏لا‏ ‏يأمرنى ‏أحد‏ ‏بتقوى ‏الله‏ ‏بعد‏ ‏مقامى ‏هذا‏ ‏إلا‏ ‏ضربت‏ ‏عنقه‏". قال‏ ‏هذا‏ ‏وسط‏ ‏أناس‏ ‏خاضعين‏ ‏لسيطرته،‏ ‏وليسوا‏ ‏وقتها‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏حرب‏ ‏معه‏. ‏
وكان‏ ‏الحجاج‏ ‏بن‏ ‏يوسف‏ ‏أبرز‏ ‏ولاة‏ ‏عبد‏ ‏الملك‏ ‏بن‏ ‏مروان‏، ‏وقد‏ ‏حكم‏ ‏الحجاز‏ ‏فأذل‏ ‏الصحابة‏ ‏وقتل‏ ‏عبد‏ ‏الله‏ ا‏بن‏ ‏عمر‏ ‏بن‏ ‏الخطاب‏، ‏وتولى ‏العراق‏ ‏والمشرق‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏مات‏ ‏عام‏ 95 ‏هـ‏ ‏فى ‏خلافة‏ ‏الوليد‏ ‏بن‏ ‏عبد‏ ‏الملك‏، ‏وقد‏ ‏بلغ‏ ‏قتلاه‏ 120‏ألفا‏، ‏ومات‏ ‏فى ‏حبسه‏ 50 ‏ألف‏ ‏رجل‏ ‏و‏30 ‏ألف‏ ‏امرأة‏، ‏وبقى ‏فى ‏حبسه‏ ‏بعد‏ ‏موته‏ 33 ‏ألف‏ ‏إنسان‏، ‏بدون‏ ‏محاكمة‏ ‏وبدون‏ ‏تهمة‏، ‏ولكن‏ ‏لمجرد‏ ‏الاشتباه‏، ‏إذ‏ ‏كان‏ ‏يقتل‏ ‏بمجرد‏ ‏الظن ‏آلاف‏ ‏الأبرياء‏ ‏لم‏ ‏يرتكبوا جرما ‏.‏
‏4 - ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏الايقاع‏ ‏السريع‏ ‏للدولة‏ ‏الأموية‏ ‏وغلبة‏ ‏الطابع‏ ‏العسكرى ‏والقبلى ‏عليها‏ ‏لم‏ ‏يفسح‏ ‏المجال‏ ‏لتقعيد وتسويغ هذا الظلم ‏. ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏تم‏ ‏فى ‏الخلافة‏ ‏العباسية‏ ‏التى ‏شهدت‏ ‏التدوين‏ ‏ضمن‏ ‏مظاهر‏ ‏حضارية‏ ‏أخرى، ‏وقامت‏ ‏دعاية‏ ‏الدولة‏ ‏حتى ‏قبل‏ ‏تأسيسها‏ ‏على ‏التمسح‏ ‏بالدين‏ ‏والإمام‏ ‏العادل‏ ‏الذى ‏يأتى ‏من‏ ‏آل‏ ‏البيت‏ "‏الرضى ‏من‏ ‏آل‏ ‏محمد‏" ‏. وبعد‏ ‏أن‏ ‏كان‏ ‏الخليفة‏ ‏الأموى ‏أقرب‏ ‏إلى ‏شيخ‏ ‏القبيلة‏ ‏المحارب‏ ‏أصبح‏ ‏فى ‏العصر‏ ‏العباسى ‏إماما‏ ‏مقدسا‏ ‏وحاكما‏ ‏دينيا‏ ‏متألها‏ ‏وفق‏ ‏ثقافة‏ ‏العصور‏ ‏الوسطى، ‏ومن‏ ‏الطبيعى ‏أن‏ ‏يستر‏ ‏عورة‏ ‏الاستبداد‏ ‏بالتمسح‏ ‏بالدين‏ ‏والزعم بإقامة‏ ‏العدل‏ ‏بين‏ ‏الناس‏. ‏
ونعطى أيضا بعض الأمثلة :
* قبل قيام الدولة العباسية كان سليمان بن حبيب واليا على بعض مناطق فارس ، وقد عمل لديه شاب هاشمى من بنى العباس إسمه عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس ، وقد سرق هذا الشاب مالا ، فما كان من الوالى الأموى سليمان بن حبيب إلا أن ضرب ذلك الشاب الهاشمى بالسياط واغرمه المال الذى سرقه . ثم دارت الأيام وتولى هذا الشاب الخلافة العباسية تحت لقب وكنية أبى جعفر المنصور فانتقم من ذلك الوالى الأموى السابق بقتله بلا محاكمة . (المنتظم 8 / 15 )  
* هذا ( الحرامى السابق ) الخليفة أبو جعفر المنصور كان يخطب فى مدينة الرقة ـ وكان بها وباء الطاعون فانقشع ـ فقال المنصور ( إحمدوا الله يا أهل الشام ، فقد رفع عنكم بولايتنا الطاعون ) فقال منصور بن جعونة ( الله أكرم من أن يجمعكم علينا والطاعون ) فأمر المنصور بقتله فى الحال(تاريخ الطبرى 7 / 504 ) ( تاريخ المنتظم 8 / 29 ).
5 ـ حق الخليفة فى قتل من يشاء انتقل من الخليفة الى الولاة والقادة . والقائد العباسى عجيف بن عنبسة ـ الذى قتله الخليفة المعتصم ـ كان فى سطوته قد إتهم كاتبه محمدا بن الفضل الجرجانى بالاختلاس ، وأمر بقتله وكاد يتم التنفيذ لولا فى العمر بقية ، ولنقرأ القصة ففيها عبرة، يقول بطل القصة الكاتب محمد بن الفضل الجرجاني الذى أصبح وزيرا فيما بعد فى خلافة المعتصم : ( كنت أتولى ضياع عجيف ...فرفع علي (أى اتهموه ) أنني ..أخربت الضياع، فأنفذ إلي (أى قبضوا عليه )  فأدخلت عليه ..فلما رآني شتمني وقال‏:‏ أخربت الضياع ..والله لأقتلنك.هاتوا السياف.  ‏ فأحضرت ونحيت للضرب (أى للضرب بالسيف )  ، فلما رأيت ذلك ذهب عقلي وبلت على ساقي (أى تبوّل على ساقه ) فنظركاتبه إلي فقال (للأمير عجيف بن عنبسة ) ‏:‏ "أعز الله الأمير أنت مشتغل القلب بهذا البناء ، وضرب هذا أو قتله في أيدينا ليس يفوت ، فتأمر بحبسه ، وانظر في أمره ، فإن كانت الرقعة صحيحة فليس يفوتك عقابه، وإن كانت باطلة لم تستعجل الإثم وتنقطع عما أنت بسبيله من المهم " ‏.‏فأمر بي إلى الحبس فمكثت أيامًا . وقتل المعتصم عجيفًا ، فاتصل الخبر بكاتبه فأطلقني فخرجت ، وما أهتدي إلى حبة فضة فما فوقها ، (أى صار فقيرا لا يملك شيئا ) فقصدت صاحب الديوان بسر من رأى ( سامرا ) فسر بإطلاقي وقلدني عملًا ، فنزلت دارًا ، فرأيت مستحمها ( دورة المياه ) غير نظيف ، فإذا تل ، فجلست أبول عليه ، وخرج صاحب الدار فقال لي‏:‏ أتدري على أي شيء بلت؟ (أى تبولت ) قلت‏:‏ على تل تراب ‏.‏فضحك وقال‏:‏ هذا رجل من قواد السلطان يعرف بعجيف سخط عليه وحمله مقيدًا فلما صار ها هنا قتل وطرح في هذا المكان تحت حائط ، فلما انصرف العسكر طرحناالحائط ليواريه من الكلاب ، فهو والله تحت هذا التل التراب" ، فعجبت من بولي خوفًا منه ومن بولى على قبره) . ( المنتظم 11 / 85 )
رابعا : ضياع القضاء العادى فى دولة الاستبداد :
1 ـ الخليفة الرشيد كان متقلب المزاج سريع الانفعال ، ولا يتورع فى انفعاله أن يامر بقتل أحب الناس اليه كما فعل بجعفر البرمكى أقرب أصدقائه وأخلصهم له . وتم القتل بالأمر المباشر ضمن أوامر أخرى بالسجن مدى الحياة لوالد جعفر ( خالد البرمكى ) وأخيه الفضل، ومصادرة الأموال فيما عرف بنكبة البرامكة ، ولم يكتف الرشيد بذلك بل جعل الحديث عن هذا الموضوع من المحرمات ، فكان من المحرمات طيلة حكمه .
هذا الخليفة الرشيد يروى عنه ـ فيما يخص موضوعنا ـ تلك الرواية عن أبى معاوية الضرير الذى كان جليسا للرشيد ، يقول عنه ( حدثته يوما بحديث "إحتج آدم وموسى .." وعنده رجل من وجوه قريش ، فقال القرشى : "فأين لقيه ؟" فغضب الرشيد وقال : " السيف و النطع .! زنديق يطعن فى حديث النبى (ص )، قال أبو معاوية : فما زلت أسكّنه ..حتى سكن )( تاريخ الخلفاء للسيوطى : 454 )
الرجل القرشى سمع ذلك الحديث الكاذب الذى يتحدث عن حوار جرى بين آدم وموسى ، فتساءل مستغربا متى وأين تم هذا اللقاء بينهما ، وثار الخليفة الرشيد وأمر بإحضار السيف و النطع لقتل ذلك (الزنديق ) الذى يطعن فى حديث النبى . ولولا تدخل الراوى ما بقى القرشى حيا . الرشيد هنا يأمر بقتل أحد زواره وجلسائه لمجرد سؤال استفهامى . ليس السائل من المعارضة ، وهو حتى لا يسأل يقصد الطعن فى الحديث المروى فلا شك انه يعرف إن هذا من المحظورات، المسكين سبقه لسانه فتساءل ليتعلم ، فكان قاب قوسين أو أدنى من القتل.
2 ـ خليفة مستبد مثله كيف كان التقاضى العادى فى عهده ؟ الإجابة فى القصة التالية :
كان عبد الرحمن بن مسهر بن عمر المتوفى عام 197 قاضيا لمدينة ( جَبُّل)  ‏.‏وقد كان من أتباع أبى يوسف (قاضى القضاة ) فى عهد هارون الرشيد ، وقد حكى ذلك القاضى عن نفسه فقال : (‏ ولّاني أبو يوسف القاضي القضاء بجَبُّل، وبلغني أن الرشيد ينحدر إلى البصرة،فسألت أهل جبُّل أن يثنوا عليَّ فوعدوني أن يفعلوا ذلك إذا انحدر، فلما قرب منا سألتهم الحضورفلم يفعلوا وتفرقوا،  فلما آيسوني من أنفسهم سرحت لحيتي أى (تنكّر ) وخرجت له فوقفت، فوافى وأبو يوسف معه في الحراقة ( السفينة ) فقلت‏:‏ ياأمير المؤمنين نعم القاضي قاضي جبل قد عدل فينا وفعل وصنع ، وجعلت أثني على نفسيِ، ورآني أبو يوسف فطأطأ رأسه وضحك ، فمَال له الرشيد‏:‏ مم ضحكت فقال‏:‏ المُثني على القاضي هو القاضي ‏.‏فضحك هارون حتى فحص برجليه وقال‏:‏ هذا شيخ سخيف سفلة فاعزله ، فعزلني‏.‏فلما رجع جعلت أختلف إليه وأسأله أن يوليني قضاء ناحية أخرى فلم يفعل ‏.‏فحدثت الناس عن مجاهد عن الشعبي أن كنية الدجال‏:‏ أبو يوسف ، وبلغه ذلك فقال‏:‏ هذه بتلك فحسبك وصر إلي حتى أوليك ناحية أخرى ، ففعل وأمسكت عنه.)(المنتظم 10 / 41 ـ )
قاضى القضاة أبو يوسف ولّى هذا القاضى قضاء مدينة (جبل ) ولم يكن قاضيا عادلا ، واحتاج الى أن يثنى عليه أهل البلد أثناء مرور الخليفة عليهم ، فلم يسمع له أحد فاضطر لأن يتقمص شخصية واحد من المدينة وأخذ يثنى على قاضيها ، وضحك قاضى القضاة الذى تعرف على القاضى المتنكر الكاذب ، وعلم الرشيد بالأمر فضحك وأمر بعزله. وحاول القاضى المعزول الرجوع فرفض قاضى القضاة أبو يوسف إرجاعه ، فصنع ذلك القاضى حديثا (نبويا ) يقول إن كنية المسيح الدجال أبو يوسف . وعلم قاضى القضاة أبو يوسف بالأمر فأسكته بأن ولاّه القضاء بمنطقة أخرى .
قاضى القضاة ابو يوسف ( صاحب أبى حنيفة ) كان أحد مشاهير القضاة فى العصر العباسى الأول ، وكان ممن يثق فيهم الرشيد ، مع إنه أحد المفسدين ، و سنعرض له فيما بعد ، ولكن المهم هنا أنه يولى القضاء من هم على شاكلته فى الكذب و الفساد . ولا أدل على شيوع الفساد أن البطل هو الذى يحكى القصة بنفسه مباهيا بها دون أدنى خجل . فماذا لو تكلم ضحاياه ؟
3 ـ وتفاقم‏ ‏ظلم‏ ‏القضاء‏ ‏فى ‏خلافة‏ ‏المأمون‏، ‏وقد‏ ‏ذكر‏ ‏ابن‏ ‏الجوزى ‏شكوى ‏‏المأمون‏ ‏من‏ ‏قضاة‏ ‏عصره‏، ‏وكيف‏ ‏أن‏ ‏كلا‏ ‏منهم‏ ‏كان‏ ‏يرتشى ويختلس‏ ‏الأموال‏ ‏مع‏ ‏كثرة‏ ‏مرتباتهم‏ . هذا ما يرويه القاضى بشر ابن الوليد أحد المقربين للخليفة المأمون .
فى جلسة ( فضفضة ) شكى الخليفة المأمون لجليسه القاضى بشر بن الوليد حال القضاة ، يقول له المأمون (ما شيءمن الخلافة إلا وأنا أحسن أن أدبره وأبلغ منه حيث أريد وأقوى عليه إلا أمر أصحابك - يعني‏:‏ القضاة ) ثم استرسل المأمون فى الشكوى من القضاة فقال: (ولينا رجلًا - أشرت به علينا - قضاء الأبلة وأجرينا عليه ألف درهم ولا له ضيعة ولا عقار ولا مال فرجع صاحب الخبر بالناحية أن نفقته في الشهر أربعةآلاف درهم ، فمن أين هذه الثلاثة آلاف درهم‏!‏ وولينا رجلًا - أشار به محمد بن سماعة - دمشق وأجرينا عليه ألفي درهم في الشهر فأقام بها أربعة عشر شهرًا ووجهنا مَنْ يتتبع أمواله ويرجع إلينا بخبره فصح عنه أنه يملك قيمة ثلاثة عشر ألف دينار من دابة وبغل وخادم وجارية وغير ذلك ‏.‏.. وولينا رجلًا - أشار به غيركما - نهاوند فأقام بعد عشرين شهرًا من دخول يده في العمل سبعين بحينا وعشرين بحينا ، وفي منزله أربعة خدم خصيان قيمتهم ألف وخمسمائة في دينار.. ) وفى النهاية ينافق القاضى الخليفة قائلا (فقلت‏:‏ والله يا أمير المؤمنين ما لك في الخلفاء شبيه إلا عمر بن الخطاب فإنه كان يفحص عن عماله وعن دقيق أسرار حكامه فحصًا شافيا ) ورد عليه الخليفة مرائيا :(‏ يا بشر إن أهمّ الأمور كلها إليً أمور الحكام ( أى القضاة ) . ووددت أن يتأتى مائة قاض مرضيين وأني أجوع يومًا وأشبع يومًا ‏.‏) ( المنتظم 10 / 61 ـ )
 وهذا‏ ‏المأمون‏ ‏الذى ‏قال‏ ‏فى ‏معرض‏ ‏شكواه‏ ‏من‏ ‏ظلم‏ ‏القضاة‏ ‏فى ‏دولته‏ "‏وددت‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏لى ‏مائة‏ ‏قاض‏ ‏عادل‏ ‏وأنى ‏اجوع‏ ‏يوما‏ ‏وأشبع‏ ‏يوما‏" ‏هو‏ ‏نفسه‏ ‏المأمون‏ ‏الذى ‏استبد‏ ‏بالأمر‏ ‏حتى ‏فى ‏قضية‏ ‏علمية‏ ‏وهى ‏خلق‏ ‏القرآن‏، ‏وألزم‏ ‏الفقهاء‏ ‏والدولة‏ ‏برأيه‏ ‏فى ‏القضية‏. ‏أى ‏لم‏ ‏يكتف‏ ‏بالاستبداد‏ ‏السياسى ‏وإنما‏ ‏أضاف‏ ‏له‏ ‏الاستبداد‏ ‏العلمى، ‏وبعد‏ ‏هذا‏ ‏يتباكى ‏على ‏ندرة‏ ‏القاضى ‏العادل‏ ‏فى ‏عصره‏.
ختاما :
‏وهكذا‏ ‏فالمستبد‏ ‏العادل‏ ‏مجرد‏ ‏أسطورة‏، ‏ولا يجتمع العدل فى القضاء العادى بين الناس مع وجود القضاء السياسى و تحكم المستبد فى المجتمع ، ‏لأن‏ ‏السلطان‏ ‏الظالم‏ ‏لا‏ ‏يروج‏ ‏فى ‏دولته‏ ‏إلا‏ ‏قضاة‏ ‏الظلم‏ ‏مهما‏ ‏ادعى ‏أنه‏ ‏يتحرى ‏العدل‏. ‏ويظل العدول من القضاة عملة نادرة فى وجود حاكم مستبد .
وهذا ما سنبحثه فى المقالات القادمة بعون الله جل وعلا.
اجمالي القراءات 29049