لماذا يفزع المسلمون إذا غيّر أحدهم دينه؟

سعد الدين ابراهيم في السبت ١٢ - سبتمبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

منذ عدة أيام اتصلت بى المُحامية نجلاء «كاترين» الإمام، من مخبئها فى مصر، لكى تبث همومها وفزعها، نتيجة ما يحدث لها من تهديدات، منذ أعلنت تغيير ديانتها من الإسلام إلى المسيحية. وكنت قد تابعت الضجة الإعلامية التى أحاطت بهذا الحدث.
كما كنت قد نوّهت بالفتوى الحكيمة للدكتور على جمعة، مُفتى الديار المصرية، «بجواز تغيير المسلم أو المسلمة دينه إلى دين آخر». وقد وردت تلك الفتوى فى مقال نشرته صحيفة الـ«واشنطن بوست» الأمريكية، واسعة الانتشار و&Ccedicedil;لتأثير.
وحسناً فعل فضيلة المُفتى، دفعاً عن الإسلام تهمة التزمت وضيق الأفق. وقد استند د.على جمعة فى فتواه إلى ما أقرّه الله سبحانه وتعالى فى مُحكم كتابه الكريم «لكم دينكم ولى دين».
ولكن يبدو أن سماحة الإسلام، التى جعلت منه أحد أعظم الأديان التى عرفتها البشرية، شىء وتزمت بعض المسلمين المُعاصرين شىء آخر. وقد عدت إلى صفحات تاريخ الإسلام والمسلمين، طوال الأربعة عشر قرناً الماضية، لعلى أجد تفسيراً لهذا التناقض بين صحيح الإسلام من ناحية وتزمت بعض المسلمين وتعصبهم ضد أبناء الديانات الأخرى من ناحية ثانية. وفيما يلى ما خلصت إليه من هذه القراءة التاريخية..
- أولاً، فى العصر النبوى، أى مع بداية الدعوة، حيث كان الرسول، محمد صلى الله عليه وسلم، هو المُعلم الأول للدين الجديد، وهو القدوة فى مكارم الأخلاق، فإنه لم يحدث أبداً أن عوقب إنسان فى المدينة أو مكة لأنه تراجع أو ارتد عن إسلامه.
وكان بين من فعل ذلك بعض المسلمين الأوائل من الصحابة والمُهاجرين والأنصار. ولعل قوله تعالى (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن. إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمُهتدين). «النحل ١٢٥» وأيضا قوله تعالى (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) قد نزل كمرشد للرسول للتعامل مع مثل هذا الموقف، قبل ١٤٠٠ سنة.
- ثانياً، كلما كان حُكّام المسلمين أكثر فهماً لدينهم وأكثر خشوعاً لربهم وأعدل فى الحكم بين الناس، كانت الرعية على دين ملوكها، أى أقرب للنموذج النبوى الأول فى التسامح ومكارم الأخلاق. وعاش غير المسلمين فى سلام وأمان فى دار الإسلام، بل ساهم غير المسلمين فى عمارة ديار المسلمين. وهم الذين علّموا المسلمين الأوائل، الذين أتوا من الجزيرة العربية، علوم وفنون العصر من الكيمياء إلى الفلك والطب والرياضيات.
وكان هذا التفاعل المُبكر بين العرب المسلمين وسكان البُلدان الأقدم حضارة مثل مصر وفارس والشام، هو الذى أنتج أرقى مدنية عرفتها البشرية بين القرنين السابع والثانى عشر الميلاديين.
- أصبحت المدن الإسلامية التى جسّمت هذا التقدم العُمرانى والحضارى مثل دمشق وبغداد والقاهرة والقيروان وغرناطة وإشبيلية، مقصداً لكل طلاب العلم والمعرفة. ولم يكن هذا الازدهار الحضارى والمعرفى مُمكناً إلا لتوافر عاملين مهمين:
أولهما، مناخ الحُرية فى الفكر والاجتهاد.
ثانيهما، التسامح الدينى.
والواقع أن الحُرية والتسامح وجهان لنفس العملة، وهما معاً اللذان شجعا الخلق والإبداع والاجتهاد داخل المجتمعات الإسلامية نفسها، وشجّعا الآخرين من غير المسلمين على التواصل والإسهام مع نظرائهم من المبدعين والمجتهدين المسلمين. وما كان للفارابى، وابن حزم، وابن رشد، وابن خلدون، وغيرهم أن يظهروا ويُضيفوا للتراث الإنسانى ما أضافوه من إسهامات عبقرية فى كل الميادين إلا بسبب هذا المناخ المُتسامح دينياً وثقافياً واجتماعياً.
ومع تقهقر التسامح تقهقر الاجتهاد فى شؤون الدنيا والدين، وحل التخلف والضعف، حتى أصبحت دار الإسلام وشعوبها نهباً لكل الطامعين من خارجها.
وعودة إلى موضوع نجلاء «كاترين» الإمام، لماذا قامت قيامة عديد من المسلمين لمجرد قيام إنسانة بمُمارسة حق إنسانى ورخصة إلهية فى اختيار عقيدتها الدينية؟ فماذا يُضير الإسلام الذى صمد وازدهر ١٤ قرناً، أو المليار وثلث المليار مسلم إذا تركهم فرد أو مليون فرد؟
وهل العبرة هى بالكم «العدد» أم بالكيف؟ وهل توبيخ أو عقاب من يترك دينه هو الذى يحمى هذا الدين؟ وإذا كان العباد هم الذين سيُحاسبون بعضهم البعض فى حقوق الله، فماذا تركوا لله سُبحانه وتعالى فى الآخرة؟
ومن أبشع ما قرأت فى مُتابعتى لردود فعل بعض المسلمين المتزمتين، أحد المُعلمين فى مدرسة «الخليفة المأمون» الثانوية، الذى نذر أن يقتل نجلاء، عقاباً لها لمُمارسة حقها الإنسانى ورخصتها الإلهية (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).
وأستغرب أن يكون هذا الرجل مُعلماً وفى مدرسة تحمل اسم أحد أعظم الخلفاء العباسيين فى القرن الثانى الهجرى «التاسع الميلادى»، الذى كان راعياً ومُشجعاً للحُريات الفكرية والدينية. وفى عصره ازدهرت العقلانية والسجالات بين الفرق الدينية.
ولم يتسبب ذلك فى ضرر أو ضرار، لا للإسلام ولا للمسلمين، وأستغرب كيف يأمن أولياء الأمور أو وزير التربية على تلاميذ مدرسة «الخليفة المأمون» من أمثال هذا المدرس؟ فهو قدوة سيئة للنشء، وأمثاله هم الذين يزرعون التعصب، الذى هو الأب الشرعى للعنف والإرهاب.
كذلك ادعى بعض من هاجموا المُحامية نجلاء «كاترين» الإمام، أنها أعلنت عن تغيير دينها من أجل الفرقعة الإعلامية والشهرة. وحتى إذا كان ذلك صحيحاً، فإن تفويت الفرصة عليها يكون بتجاهلها، وتركها وشأنها.
وادعى آخرون أنها فعلت ما فعلت، لكى تهاجر وتطلب اللجوء السياسى بادعاء أنها مُضطهدة دينياً أو أن حياتها وأطفالها فى خطر. طبعاً، الله وحده يعلم ما فى قلب نجلاء، فهو وحده يعلم ما تُُخبئه الصدور. ولكن حتى بافتراض صحة هذا الادعاء، فهى حُرة، ومن حقها أن تخطط لحياتها ولأطفالها كيفما تريد.
وحينما سألتها عن موقف زوجها مما فعلته، صححت لى بأنها مُطلقة منذ أكثر من خمس سنوات، وأن مُطلقها لم ير أطفاله منها، ولم يرعهم طوال تلك المدة، وأنه انضم إلى قافلة من هاجموها فى الصحافة. ومع ذلك فهى تعلن أن من حقه أن يحتفظ بطفليهما إن أراد أن يرعاهما بنفسه، وأن يُبقيهما على دينه.
سألتها إن كانت حقيقة تفكر فى مُغادرة مصر إلى أرض أخرى أكثر أمناً وأماناً. قالت: (نعم، كما فعلت أنت يا دكتور سعد..
ولكن السُلطات المصرية صادرت جوازات سفرها وأولادها فى المطار، فعادت إلى مسكن جديد، على أمل ألا يعرفه أولئك المتربصون من أمثال مُدرس مدرسة «الخليفة المأمون»)!
منذ عدة سنوات، أثناء فترة سجنى فى طرة، قصدنى شاب فى عُمر نجلاء، وقال إنه يعلم أننى من المُدافعين عن حقوق الإنسان، وعن الأقليات، بما فيها الأقليات الدينية، وأنه لذلك يطلب مُساعدتى فى دفع الأذى الذى يتعرض له من إدارة السجن ومن زملائه فى العنبر رقم «٢».
وسألته ولماذا يتعرض لهذا الأذى المزدوج؟ أجاب، وفى عينيه دمعة محبوسة، «لأنه غيّر دينه من الإسلام إلى المسيحية».
قلت له، وأنا أشعر بحزن حقيقى، «إننى سجين مثلك، ولا أملك لنفسى أو لغيرى ضرراً أو نفعاً»، فليصبر، ما دام مؤمناً بما فعل، أو ليعد إلى دينه الأول، اتقاء للإيذاء.
قال إنه يُفضل الصمود للإيذاء على أن يتراجع عن قراره، وإنه سيصبر، وللصابرين الجنة! وسعدت بأنه تذكر معنى الآية الكريمة.
ولم يمر إلا أسبوع على هذا الحديث عبر القضبان، إلا وكانت بعض مُشكلات هذا الشاب السكندرى قد حُلت. وهو ما يحتاج إلى تفصيل فى مقال قادم. والله يتولى «نجلاء» كما تولى ذلك الشاب برحمته.
اجمالي القراءات 14859