المسكين والهلاك القادم للمترفين المسلمين:

آحمد صبحي منصور في الأحد ٣٠ - أغسطس - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

 

المسكين والهلاك القادم للمترفين المسلمين:
 
أولا : بين المسكين و الفقير
 
كل الخلق فقير لله جل وعلا :
 
1 ـ من الفوارق الأساس بين الخالق جل وعلا و مخلوقاته أن كل المخلوقات ( تحتاج ) الى الخالق فى بقائها ، بينما لايحتاج الخالق اليها لأنه جل وعلا غنى عن العالمين ، وهذا معنى ( الصمد ). فالله جل وعلا هو (الغنى ) بمعن&e; ) بمعنى المستغنى فى الحقيقة عن خلقه ، بينما نحن فى الحقيقة فقراء لله جل وعلا مهما بلغنا من غنى نسبى ، يقول جل وعلا :  ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) ( فاطر 15 ).
2 ـ لا يغرنك مظاهر ومواكب المترفين الذين تمتلىء خزائنهم بالأموال، فالذى يجعل المال قبلة حياته يبتغى أن يكون أغنى الأغنياء هو فى الحقيقة يحمل فى داخله طمعا قاتلا يجعله (أفقر الفقراء ) لأنه يريد أن يكون الأغنى و الأوفر ثراءا والأكثر جاها ، أى هو مفتقر جدا للتكاثر والتنافس الاقتصادى والصراع على الثروة ، ويظل كذلك كالذى يتخبطه الشيطان من المسّ حتى يفاجأ بالموت ، فيخسر كل شىء.
ولذلك يخاطب الله جل وعلا أغلبية البشر فيقول لهم تلك الحقيقة البشرية : ( أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ )
وفى نفس الوقت يحذر المؤمنين من الوقوع فى نفس الفخّ فيوضح لهم ان هذه الحياة الدنيا مهما لمع بريقها فهى الى زوال ، ولا تستحق تضييع العمر فيما تحتويه من لهو ولعب و زينة و تفاخر بالأموال والأولاد ، فينبغى أن يكون التسابق فى عمل الخير و الايمان الحق للفوز بالمغفرة والجنة : ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِسَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ )(الحديد 20 : 21 )
ولو افترضنا أن إنسانا قد ملك كل شىء من الشباب والصحة والشهرة والجاه والثروة التى تزيد عن حاجته فسيظل فقيرا الى اهم شىء ، وهو (الأمل ) فى الحصول علىشىء يتمناه و يسعى اليه ويحلم به. هذا (الأمل ) هو الذى يجعل للحياة معنى تستمر به فينا ونستمر به فيها ، وبدون هذا الأمل يفقد الانسان طعم الحياة مهما بلغت ثروته وسلطته، يعيش فى ( ملل ) بدون (أمل ) و تتكاثر أمراضه النفسية فلا يتخلص منها إلا بالموت أو الانتحار .
لذا يكون الايمان بالآخرة هو البلسم الشافى لكل انسان ؛ فقيرا بالغ الفقر والمسكنة أم فقيرا شديد الثراء والجاه . الايمان بالآخرة ( بمعنى العمل من أجل الفوز بالجنة و التجاة من النار ) هو الذى يجعل الانسان ينجح فى كل اختبارات هذه الدنيا من محن ومنح ومن نعم ومن نقم ، على (أمل ) أن يفوز بالجنة ويزحزح عن النار ،وهو يرفع شعارا قرآنيا يتكون من أربح حقائق لا ريب فيها وهى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ )(وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)( فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ )(وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) ( آل عمران 185 )
أنواع الفقر :
وطالما أننا جميعا فقراء لله جل وعلا فانه فى داخل الفقر يتنوع البشر :منهم الطامع ومنهم القانع . الطامع هو الفقير فى نفسه ،أى مهما بلغ ماله وجاهه فهو لا يشبع لأنه ينظر الى ما فى أيدى الاخرين ، ولا يرضى بما فى يده، ينظر فقط الى الجزء الخالى من الكوب الذى فى يده .وهناك القانع الراضى بما آتاه الله وجل وعلا ، وهو الذى ينظر الى الجزء الممتلىء من الكوب الذى فى يده ، ويعمل و يرضى بما قسم الله جل وعلا له ، ولا يحسد الآخرين ، ولا يمدّ عينيه الى من امتحنهم الله جل وعلا بزهرة الحياة الدنيا، لأنه يضع نصب عينيه المتعة الأبقى والأعلى وهى الجنة ، وبهذا أوصى الله جل وعلا خاتم المرسلين فقال : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) ( طه 131)
 وبعد تقسيم البشر نفسيا من حيث الفقر أو الغنى هناك تقسيم لهم من حيث الاحتياج المادى . وهنا ندخل فى موضوع المسكين .
 
ثانيا : ماهو المسكين ؟
الفقر و المسكنة بين الضروريات و الاحتياجات الأساس :
 
هناك احتياجات أساس فى حياة الانسان لا تستمر بدونها الحياة . منها قسم قد جعله الله جل وعلا مجانا متاحا للجميع ، ومنع البشر من التحكم فيه ، لأن المخلوق لا يستغنى عنه بضعة دقائق ، وهو الأوكسجين فى الهواء . الانسان يتنفس مجانا لأن حاجته للتنفس كل دقيقة ، ولو حيل بينه وبين التنفس بضعة دقائق مات . (تخيل ـ يا مؤمن ـ أن حاكما شرقيا تحكم فى الهواء كما يتحكم فى ثروة الشعب ، من سبيقى حيا من ذلك الشعب ؟ ).
بعد الهواء يأتى الماء ، وهو شبه مجانى ، والعاة ان يعيش البشر حيث توجد المياه ، والمياه مجانية ومتاحة ، ولكن قد تحتاج الى جهد بشرى فى نقلها أو فى تنقيتها، وبهذا يكون لها ثمن زهيد. ولا يستطيع الانسان البقاء حيا بدون الماء يوما أو أكثر حسب الأحوال .
ناتى بعدها للضرورة الثالثة التى لا يعيش بدونها الانسان عدة أيام ، وهو الطعام .
يحتاج الانسان الى الطعام عدة مرات يوميا ليدفع عنه ألم الجوع ، وبدون ذلك يصير الطعام مشكلة له ، وحين يكون ( فقيرا ) للطعام يكون ( مسكينا ) .
فالمسكين هو ذلك الفقير المهدد بالجوع يوميا بحيث تكون مشكلته الأولى هى الطعام ، (ليس الحصول على جهاز تليفزيون أو تليفون أو سيارة أو شقة متوسطة الحال أو زوجة على قدر الحال ).
هنا لا يهم السبب ، هل هو فقير للطعام لعجزه البدنى عن السعى والعمل والكسب ، أو لأنه يسعى بهمة للطعام ولكن يتوقف حصوله على الطعام على ظروف خارجية لا شأن له بها ،كالذى يعيش على الصيد ليأكل ،وهو يسعى بكل طاقته ليحصل على صيد يأكله ، وقد ينجح وقد يفشل ؛هذا المجتهد فى السعى هو أيضا مسكين لأن الحصول على الطعام اليومى مشكلة له. ومن روائع الوصف القرآنى لمصطلح المسكين قوله جل وعلا فى قصة موسى مع العبد الصالح (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) ( الكهف 79 ) هم مساكين حتى لو امتلكوا سفينة ، لأنها وسيلتهم للحصول اليومى على الطعام ، وبدون هذا الطعام هم جوعى .
وبمناسبة الجوع ندخل على الملمح الاخر من ملامح المسكين .
ارتباط المسكين بالجوع للطعام
 
يتخصص المسكين من بين مستحقى الصدقة بالحث على إطعامه ، مما يدل على ارتباط المسكين بالجوع والحاجة للطعام . ونعطى أمثلة :
*عن كفّارة الظهار يأتى من الخيارات إطعام ستين مسكينا (فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) ( المجادلة 3 :4 ).
*ويجوز لمن يشق عليه الصيام أن يفطر إذا قدّم فدية وهى إطعام مسكين (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) ( البقرة 184 )
*ومن صفات الابرار يوم القيامة انهم كانوا فى الدنيا (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا)( الانسان 6 ـ) 
 *وبتعبير آخر يجعل الله جل وعلا من صفات أصحاب الميمنة (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍيَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) (البلد 13 ـ )
*بينما تأتى من صفات أصحاب النار أن أحدهم كان فى الدنيا (وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) ( الحاقة 33 ـ) ويعترفون فى النار : (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ)(المدثر 42) ويقال لهم ( كَلاَّ بَل لّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ)(الفجر 17 ـ)ومن صفات المكذبين بالدين الحق  ( أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) وحينئذ لا عبرة بصلاتهم ( فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ).
ارتباط المسكين بالذل
ولأنه جائع محتاج لإشباع ( الغريزة الأساس ) أكثر من مرة ، فالمسكين معرض لفقد كرامته الانسانية ، أى ترتبط ( المسكنة ) بالذل فى اللغة العربية والقرآنية.
ويأتى مصطلح المسكنة مرادفا للذل فى موضعين تعرض فيهما رب العزة لعقاب العصاة من أهل الكتاب،قال جل وعلا:( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ)(البقرة61)(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ )( آل عمران 112 ).
ومن أعراض البلهارسيا العقلية المصاب بها أرباب الدين السنى أنهم صنعوا حديثا يفترى أن خاتم المرسلين كان يدعو ربه فيقول ( اللهم أحينى مسكينا وامتنى مسكينا واحشرنى فى زمرة المساكين ) . لم يعرف أولئك الوضّاع أن المسكنة تعنى الذل ، وأنه يستحيل الذل بالنسبة لخاتم المرسلين لأن الله جل وعلا قال (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) ( المنافقون 8 ) وصدق الله العظيم حين قال (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) فالمنافقون لم ينقطع العهد بهم بعد تمام نزول القرآن ،وإلا ما تعرض لهم رب العزة فى القرىن الكريم بكل هذه التفاصيل . كل هذه التفصيلات من مظاهر الاعجاز المتجدد فى آيات القرآن الكريم التى تصف المشرك والكافر والمنافق مهما تخفوا خلف الشعارات .
المسكين لا تعريف له خارج حاجته للطعام 
ليس للمسكين توصيف آخر خارج افتقاره للطعام ، فلا يشترط أن يكون المسكين مؤمنا تقيا صالحا كى يستحق الرعاية ،يكفى كونه مسكينا جائعا لياخذ حقوقه المنصوص عليها. بل يجب ألا تمنعك خصومتك له من إعطائه حقه ، يقول جل وعلا( وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )(النور 22 ).
ووفقا لما جاء فى الاية الكريمة السابقة فما ينطبق على المسكين ينطبق على غيره من جميع مستحقى الصدقة من الفقراء واليتامى والأقارب وابناء السبيل والجيران والسائلين و المحرومين . لا يشترط فى أحدهم أن يكون مسلما أو مؤمنا أو مستقيما.لا عبرة بدينه ومعتقده وسلوكه ، فتلك مسئوليته هو أمام الخالق جل وعلا ، وليس عليك هداهم ، وفى هذا المجال ليس هناك أروع ولا أعظم من قوله جل وعلا :(لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ )( البقرة 272 )  
ثالثا : ظاهرة المساكين انذار بهلاك المترفين
المساكين بين الطبقة والوسطى والمترفين
فى الدولة الحقوقية القائمة على رعاية حقوق الناس والانسان لا توجد ظاهرة (المساكين ) المحتاجين للطعام يوميا لأن حقهم المشروع يحصلون عليه ، من الأفراد ومن سلطات المجتمع على السواء.
وجود المساكين كظاهرة اجتماعية محسوسة لا يظهر إلا فى مجتمع الاستبداد والفساد ،وهو يعنى خللا فى المجتمع ، إن لم تتم معالجته بسرعة فسينفجر المجتمع من الداخل .وهذا ما حدث فى التاريخ العربى والعالمى ، لا فارق بين ثورة الزنج فى العصر العباسى وثورات الشيوعية فى العصر الحديث ، كلها ثورات نتجت عن احتكار فئة قليلة جدا للسلطة والثروة مقابل أغلبية عظمى تعانى من الفقر ، ويتساقط معظمها من الفقر العادى الى الأشد فقرا أو المساكين الجوعى.
وجود طبقة وسطى قوية ومتسعة دليلا على صحة المجتمع وعافيته ، فالطبقة الوسطى عامل أمان ، ليس فقط فى كونها تمثل عقل المجتمع وضميره ومستودع ثقافته وأمل تقدمه ـ ولكن أيضا لأن وجودها الفاعل يفتح الطريق للمكافحين والطموحين والموهوبين من أبناء الطبقة الدنيا للصعود الى الطبقة الوسطى فتزداد بهم عددا وقوة، ويتقلص عدد الفقراء. ومن الناحية الأخرى فان نفوذ وفاعلية الطبقة الوسطى يعنى ـ أيضا ـ تقليص نفوذ وفاعلية الطبقة العليا بنشر الوعى ومحاربة الفساد .وهذا التقليص للطبقة العليا يكون لمصلحتها حتى لا تتغول وتستبد بالحكم و تستخدمه فى مضاعفة الثراء ويتحول ثراؤها الى الترف ، ويدفع الباقون الثمن توطئة لتدمير المجتمع فى النهاية. وبضعف الطبقة الوسطى وضمورها تتكاثر طوابير المساكين ويتحولون الى ملايين الأفواه الصارخة تطلب الطعام ، ويتضخم عددها مع زيادة احتكار المترفين للثروة والسلطة ، وتسقط الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى لتنضم الى الفقراء ويتساقط أغلبية الفقراء الى قاع المسكنة ، وينقسم المجتمع الى أغلبية من المساكين الجوعى وأقلية ضئيلة جدا من المترفين ، وينفجر المجتمع ويتدمر من الداخل .
وفيما يخص موضوعنا فإن وجود طبقة وسطى قوية ومؤثرة يمنع وجود المساكين كظاهرة فى المجتمع ، وحين ينقسم المجتمع الى أقلية ضئيلة جدا من المترفين وأغلبية كبيرة من المسلكين مع وجود طبقة وسطى هزيلة فقل على ذلك المجتمع السلام.
وهذا ما ينتظر العالم العربى إن لم يتم إصلاح عاجل.
واقع المسلمين بين ظاهرتى المساكين والمترفين
هذا الخطر يهدد المسلمين بالذات حيث يتعانق الفساد مع الاستبداد ، وحيث تتركز الثروة فى ايدى فئة مترفة لا تحس بآهات الجوعى داخل الوطن ، أو من جيرانه . والأمثلة قاتلة وقاهرة . البحر الأحمر يفصل الترف المكتنز فى الجزيرة العربية عن ملايين من المسلمين الذين يموتون جوعا فى السودان و الصومال ، ولا ينهض لنجدتهم سوى منظمات الغرب الانسانية والمسيحية . فى داخل مصر تعج الفنادق الفاخرة بالأفراح و الولائم للمترفين الذين لا شهية للأكل لديهم ، فينتهى الطعام الفاخر الى الزبالة بينما تنتحر أمهات وآباء لعجزهم عن إطعام أطفالهم . يستورد المترفون فى مصر وجبات الطعام الساخن رأسا من مطعم ماكسيم فى باريس ، فيأتيهم طازجا بالطائرات بينما يتشاجر ويتقاتل الفقراء فى طوابير الخبز المدعم ، ويزدحمون على شراء زبالة الطيور المذبوحة. الأحياء الفقيرة والعشوائية فى وسط القاهرة وضواحيها تعانى من انهيار البنية التحتية وانقطاع الماء وتلوثه بينما تنعم القرى السياحية وقصور المترفين فى الصحراء والبحر الأحمر و الساحل الشمالى بالماء النقى وأعلى تجهيزات المرافق .
يذكرنا هذا بقوله جل وعلا عن علامات الاهلاك للبشر: (فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ) ( الحج 45 ). ( القرية ) فى المصطلح القرآنى هى المجتمع . والمجتمع الظالم مصيره الى الهلاك ، وحين يهلك تبقى من آثار الظلم فيه وجود قصر مشيد وبئر معطلة . البئر المعطلة رمز للمرافق التى تخدم الملايين ، ومع ذلك فقد عطلها صاحب القصر المترف الذى يعيش فيه وحده. صورة معبرة بالغة الدلالة تنذر بانفجار قادم لمصر يأكل الأخضر واليابس ، حيث يقوم الجوعى بتدمير قصور المترفين على رءوس أصحابها أو من يتبقى منهم.
قواعد الاهلاك بين المترفين والمساكين
وجود المترفين مرتبط بوجود المساكين. هما معا تعبير عن خلل ظالم فى توزيع الثروة ، فتتركز بالظلم فى يد فئة محدودة مقابل أن تجوع الأغلبية. المسلمون يقرأون آيات القرآن الكريم فى تحريم الظلم وارساء العدل و إعطاء ( حقوق ) الفقير والمسكين ، وفى التحذير من الاهلاك ، ومع ذلك فهم لا يتعظون ولا يخشعون.
لقد جعلها الله جل وعلا قانونا عاما سارى التطبيق قبل وبعد نزول القرآن الكريم ، فقال (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) ( الاسراء 16 ) وأشار جل وعلا الى تطبيق هذا القانون من عهد نوح (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا)( الاسراء 17 )، وبالتالى يتم تنفيذه بعد نزول القرآن الكريم ، والأمثلة التاريخية كثيرة فى تاريخ المسلمين ، وكالعادة لا يلتفت اليها أحد.
الآية الكريمة تقول (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً ) : إرادة الله جل وعلا هنا تالية لارادة البشر وأفعالهم إن خيرا وإن شرّا،والمترفون تربوا على الظلم واعتبروا ثروة الأمة حقا لهم ، لذا يرفضون الأمر بالاصلاح فيحل الهلاك ،أى أرادوا الفسوق رفضا للاصلاح فأراد الله جل وعلا لهم عقوبة الهلاك.
ونتوقف مع العناصر الثلاثة:الأمر بالاصلاح : (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) ورفض المترفين ذلك الأمر (فَفَسَقُواْ فِيهَا )،والهلاك والتدمير(فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ).
العنصر الأول :الأمر بالاصلاح : (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا)
وقد شرح رب العزة هذه الجزئية فى قوله جل وعلا : (وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ) ( الشعراء 208 : 209 )، أى يأتى لكل قرية منذرون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ولكن يرفض المترفون تنفيذ الأمر بالاصلاح بل يفعلون العكس وهو الفسق و العصيان ، أو بالتعبير القرآنى (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا) فيأتى الانتقام الالهى (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا).  
والعادة أن يتولى النصح والوعظ دعاة مخلصون لدينهم ووطنهم وقومهم ، وهذا ما حدث فى الأمم السابقة ، يقول جل وعلا:( فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ) ( هود 116 ) اى وجود هؤلاء المصلحين وتأثيرهم الاصلاحى الايجابى قد ينجى المجتمع من كارثة التدمير ، لولا أن المترفين يقفون لهم بالمرصاد تمسكا بوضعهم الاجتماعى والاقتصادى ، فيأتى التدمير .
ومع أن الحديث عن هلاك الأمم السابقة جىء به لوعظ الأمم اللاحقة فان الله جل وعلا لا يكتفى بذلك ،فيأتى التحذير الالهى للمؤمنين ، يقول لهمرب العزة معنّفا مهددا محذّرا : ( هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) ( محمد 38 ). استبدالهم بقوم آخرين يعنى هلاكهم . والنجاة تكون بالانفاق فى سبيل الله وعدم البخل ،لأن عاقبة البخل تحلّ على البخيل نفسه ،فالقاعدة الالهية أن من يبخل فانما يبخل على نفسه.
ويؤكد رب العزة على نفس المعنى فيقول للمؤمنين :(وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )(البقرة 195 )، قوله جل وعلا (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) لا علاقة له بموضوع الانتحار لأننا نفهم هذه الجملة القرآنية من سياقها الخاص فى داخل الآية ومن السياق العام فى موضوع الاهلاك الذى نتحدث عنه. فى السياق الخاص داخل الاية ، فهى تتكون من ثلاثة أجزاء ، الجزء الأول يأمر بالانفاق فى سبيل الله :(وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، والجزء الأخير يأمر بالاحسان (وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ، وبينهما يقع التحذير من التدمير و الهلاك (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).
العنصر الثانى وهو عصيان وفسوق المترفين : (فَفَسَقُواْ فِيهَا ):
لم يوجد فى تاريخ المسلمين مثل تولستوى ( 1828 ـ 1910 )الذى تنازل عن ثروته للفقراء، وعاش مثلهم. مترفو المسلمين ساروا على نهج المترفين السابقين الذين أهلكوا أنفسهم وأقوامهم .
ولقد أبان رب العزة عقلية المترفين خلال قاعدتين تسرى كلاهما فوق الزمان والمكان :
*فالمترفون اعتادوا تكذيب الرسالات السماوية والكفر بها :(وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ) ( سبأ 34 ). وهو نفس ما يتكرر من مترفى المسلمين اليوم ، بدليل اضطهاد أهل القرآن بسبب دعوتهم السلمية الاصلاحية القرآنية .
* والمترفون يتمسكون بالثوابت التى وجدوا عليها آباءهم ، لأن وضعهم الاجتماعى والاقتصادى تأصل و تأسس على هذه الثوابت ، وتغييرها يعنى زوال مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية ، لذا فالقاعدة الثانية هى قولهم لكل نذير أنهم يحافظون على ( ما أجمعت عليه الأمة ) ، يقول جل وعلا كأنما يصف عصرنا ( وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ)(الزخرف 23 ).
الملاحظ هنا أن الله جل وعلا لم يقل عن المصلح الداعية أنه رسول أو نبى ،ولكن جاء بمصطلح شديد الدلالة وهو ( نذير ):(وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ ) (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ ) حتى لا يقصر الأمر على الأنبياء والرسل  بل يشمل كل الدعاة ممن يسير على نهج وسنة الأنبياء الحقيقية فى ارساء العدل ومقاومة الظلم . بالاضافة الى ان مصطلح ( نذير ) هو المناسب للتحذير والانذار من الهلاك القادم .
بالله عليكم : هل يستطيع بشر الاتيان بهذه الروعة فى اختيار اللفظ ؟ ليس فقط فى اختيار لفظ ( النذير )، بل أيضا اختيار لفظ ( المترف ) فهو ليس مجرد الغنى الثرى، ولكن الذى تتكاثر ثروته ـ على حساب الفقراء ـ الى حد تؤثر فيه على عقليته وتصرفاته فيعيش حياة الترف والسرف وبلادة الاحساس بما يعانيه الناس .
العنصر الثالث : التدمير والاهلاك : (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ).
تخيل هنا وضع المترف المدلل حين يحل به الهلاك ، هو ما تعود سوى النعيم واللذة والراحة وأن يقف الجميع رهن إشارته. ليست له قدرة الفقراء على التحمل ومعايشة الألم ، لذا تهون عند المحنة آلام الفقراء والمساكين لأنهم تعودوا على مصاحبة الألم ومعايشة المحن ، أما هذا المترف فكان يكفيه عذابا وقهرا أن يذهب الى المطبخ يجهز طعامه بنفسه ؟ فكيف إذا حاق به التدمير .هنا يصرخون ويهربون ـ دون جدوى .!!
يصرخ المترفون عند محنة التدمير.كلاّ.. لا يصرخون ،إنهم يجأرون ،أى أكثر من الصراخ. وهذا من اعجاز القرآن الكريم فى اختيار اللفظ المناسب لحال الموصوف ، يقول جل وعلا (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ )(المؤمنون 64 ). تقول الآية التالية ردا على جأرهم بالصراخ الهائل (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لا تُنصَرُونَ ) ألى لا سبيل لنجاتهم فالهلاك حائق بهم ، ثم يأتيهم التذكير بموقفهم من القرآن الكريم وآياته ( قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ) أى كانوا فى (أيام العزّ والترف ) يرفضون باستكبار آيات القرآن حين (تُتْلَى) عليهم ، وبدلا من التلاوة يجعلون آيات القرآن الكريم موضوعا للتغنى والسمر الى أصوات (المقرئين ). هذا ما كانت تفعله قريش ، وهو نفس ما يفعله المسلمون اليوم فى التغنى بالقرآن .
حين التدمير يحاول المترفون الهرب ، ولكن لا مفرّ ولا محيص ، حتى لو حاول بعضهم الهرب قبل التدمير فلن ينجو ، يقول جل وعلا ( وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ )، أى ليس مجرد الهرب والجرى ، بل الركض مثل الغزال الذى يهرب من الأسد . ويزداد ألمهم ومعاناتهم حين يتذكرون قصورهم و ترفهم السابق ، (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ) ( الأنبياء 11 : 13 )
رابعا : علاج القرآن الكريم لمشكلة المسكين
العلاج الأساس هو فى قيام دولة ديمقراطية توازن بين العدل والحرية وتضمن حقوق كل مواطن ، و تضمن للمواطن الفقير والعاجز عن الكسب حياة كريمة باعتبار ذلك حقا له ، وليس مكرمة وتفضلا عليه .
ولقد فصّلنا القول فى الديمقراطية المباشرة فى الدولة الاسلامية الحقيقية وتناقضها مع الدولة الدينية بما يؤكد أنه لا وجود فى دولة الاسلام للمساكين كظاهرة . يوجد مساكين كأفراد فى الدول الحقوقية لأسباب مختلفة ، منها إختيارهم الشخصى كالرغبة فى التبطل والتسول والكسل ، ومنها خلل عقلى أو قصور جسدى . وفى دول متقدمة كالولايات المتحدة ترى المشردين الذين بلا سكن ( Homeless) وبلا عمل ،ومنهم ضحايا الإدمان ، وتتولى جهات كثيرة مسئولية إطعامهم واعالتهم وتسكينهم ، وبعضهم يهرب من الاسكان الحكومى المجانى لأنه يفضّل التشرد فى الشوارع .
رأينا كيف تعامل القرآن الكريم مع وجود المساكين ظاهرة ملموسة بالتحذير مسبقا من قيام طبقة مترفة ، وبانذار هذه الطبقة المترفة حين وجودها ، فكيف تعامل القرآن الكريم مع وجود المساكين كأفراد ؟
فرض الله جل وعلا إطعام المسكين ورعايته على المجتمع ( ممثلا فى سلطته السياسية والادارية ) وعلى الأفراد ، وجعل هذا حقا أصيلا للمسكين . ونشير لذلك بايجاز :
حق المسكين على الأفراد
1 ـ حقوق دائمة ، مطلوب من المؤمن القيام بها بنفسه ، وهى إيتاء حق المسكين . ليس المسكين وحده بل يضاف له ذوو القربى وابن السبيل والوالدان واليتامى وعموم السائلين والجيران والأصحاب: ( الاسراء26 )( الروم 38) ( البقرة 83 ، 215 ، 177) ( النساء 36 ).
2 ـ حقوق طارئة : عندما يظاهر الزوج من زوجته فعليه دفع كفّارة ، الخيار الأخير فيها إطعام ستين مسكينا ( المجادلة 3 :4 ). ولو حضر المسكين تقسيم التركة فالواجب إعطاؤه منها ، هو وبقية المستحقين ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) ( النساء 8 ). وعلى من يعانى من الصيام ويريد الفطر أن يدفع فدية قدرها إطعام مسكين ( البقرة 184 ).
حق المسكين على المجتمع
للمسكين حصة من الغنائم ( الأنفال 41) والصدقات (التوبة 60 )والفىء (الحشر 7). وفيما سبق نلاحظ الآتى :
1 ـ التعامل مع المسكين فى نفس درجة التعامل مع الأقارب ، له نفس الحق مما يخرج بالأمر من مجرد إعطاء الصدقة الى الرعاية الكاملة المستحقة له.
2 ـ تعاون الأفراد مع المجتمع فى كفالة المسكين ، فالدولة تتعامل مع المساكين كجماعة أو كشريحة ، تنشىء لهم دور الرعاية والمطاعم المجانية ،أو تعطيهم بطاقات للتغذية المجانية ، وفى نفس الوقت فان كل فرد مطالب برعاية من يعرفه من المساكين من أهل الحى ، وبهذه الرعاية على المستوى الفقى من الدولة والمستوى الرأسى من جميع الأفراد يمكن رعاية كل المساكين فى المجتمع .
نشر ثقافة الرعاية للمسكين
من السهل إصدار الأوامر و التوصيات ، ولكن لا بد فى تنفيذها أن تتحول الى ثقافة يتشربها الناس مرتبطة بواجباتهم الدينية الاجتماعية ، حتى ينشأ أفراد المجتمع على التكافل والتعاون على البر والتقوى والبر والتراحم .يقول جل وعلا فى صفات أصحاب الميمنة ( فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍيَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) (البلد 13 ـ )
من هنا لا يكتفى رب العزة بالأمر برعاية المسكين ، ولا يكتفى بالتحذير من تدمير المجتمع لو أفرز الفساد فيه طبقة كبيرة من المساكين ، بل يمتد التحذير الى عقاب دنيوى يحيق بالأفراد الباخلين المقصرين فى إعطاء حق المسكين . وهذا العقاب الدنيوى لا يحول دون الخلود فى عذاب النار . وقد تكررت الآيات فى هذا حتى تتكون لثقافة رعاية المسكين جانب كبير من التوجيهات القرآنية . ونكتفى بلمحة موجزة:
عقوبات دنيوية لمن يبخل على المساكين 
حكى رب العزة قصة الأخوة الذين بخلوا على المساكين من ثمار حديقتهم ، قائلين :( أَن لّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ ) فكان عقابهم فى الدنيا تدمير الحديقة ، وينتظرهم عذاب أكبر فى الاخرة ( القلم ـ24 ـ). والاسلوب القصصى عامل هام فى التثقيف خصوصا إذا كان يتضمن عقوبة دنيوية ، والعادة أن البشر يحرصون على السلامة فى الدنيا ويخافون العقوبة الدنيوية أكثر من العقوبة الأخروية .
عقوبات فى الآخرة لمن كان يبخل على المساكين ولا يحض على إطعامهم  
ويحكى رب العزة ـ مقدما ـ إعترافات أصحاب النار بذنوبهم ، ومنها : (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ)  ( المدثر 44 )
ويجعل من الجرائم التى يستحق صاحبها النار أنه لا يحض على طعام المسكين (الحاقة 33 ـ) ( الفجر 18ـ ) وحتى لو كان يصلى فلن تجديه صلاته طبقا لسورة الماعون ( أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ) أى إن الحض على إطعام المسكين واجب ، من لا يفعله يحوز صفة من صفات أصحاب النار ، كما أن هذا الحض على إطعام المسكين وظيفة اجتماعية و ليس مجرد وظيفة فردية وفقا لما جاء فى سورة (الفجر/ 18 )(وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ) .
جزاء من يعطى المسكين فى الآخرة
وفى المقابل يتحدث رب العزة عن النعيم الذى يلقاه من يقوم بواجب المسكين وغيره ، ويسميهم أبرارا ، يقول جل وعلا : ( إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا)( الانسان 5 ـ) .
هذا ما جاء فى القرآن الكريم حرصا على سلامة المجتمع حتى لا يتعرض للتدمير ، ولكن المسلمين اتخذوه مهجورا ..
 
 
 
 
اجمالي القراءات 19581