حين تأكل الأم أبناءها

نبيل شرف الدين في الإثنين ٠٤ - مايو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

كثيراً ما يقف المراقب للشأن المصرى عاجزاً عن فهم طريقة تفكير صانع القرار فى العديد من القضايا، لما تحمله المواقف من تناقضات غير مفهومة، خُذ مثلاً السلوك حيال المصريين الذين قدموا خدمات جليلة لوطنهم، سواء فى الداخل أو الخارج، فتعاملهم بإهمال يثير الإحباط ويدفعهم إلى خندق المناوئين.

وحتى لا نسقط فى فخ التعميم تعالوا نتحدث عن واقعة محددة، وهى تتعلق بأحد أبناء مصر النابغين الدكتور مأمون فندى الباحث البارز بالولايات المتحدة، وهو مصرى ولد وتربى فى أقصى &Cc الجنوب، ولم تفسده القاهرة التى لم يقطنها أبداً، بل ظلت علاقته بها «زائراً خفيفاً»، وربما لذلك لم يتقن ألاعيبها، ولم يرتبط بشلة تدافع عنه وتدفع به لصفوف المشتاقين للمناصب والمغانم.

وشأن كثيرين تخرج فندى فى جامعة إقليمية بالصعيد، ثم التحق بصفوف القوات المسلحة كضابط احتياط على حدود مصر الشرقية، وبعد أن أدى خدمة العلم، قيض للرجل أن يحصل على منحة «فولبرايت» لدراسة العلوم السياسية فى الولايات المتحدة، وقبل أن يكمل عامه الخامس والثلاثين كان يحمل درجة الأستاذية فى تخصصه وصار قريباً من مراكز صناعة القرار الأمريكى وأدلى بعدة شهادات أمام الكونجرس لصالح مصر فى ظروف كانت العلاقات متوترة بين القاهرة وواشنطن، وقدم لبلده الأم مصر خدمات استشارية جليلة، لا مجال للخوض فى تفاصيلها على الملأ.

ماذا حدث بعد ذلك؟

هل اكتفت القاهرة بإهماله للحد المثير للإحباط، بينما انهمرت العطايا والمناصب على المنافقين والفاشلين الذين يسيئون للحكم أكثر مما يخدمونه؟ والجواب هو (لا)، فلم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل انطلقت أصوات المزايدين وباعة صكوك الوطنية، ممن يلعبون أدواراً مكشوفة لصالح «أجنحة ما» داخل كواليس السلطة، ويقومون بدور «عصا القشة» لصالح هذا الجناح أو ذاك، ليعمدوا لاغتياله معنويا بمزاعم متهافتة ما أنزل الله بها من سلطان، من نوعية أنه يحمل الجنسية الأمريكية، وكأن هذه تهمة، وكأنما لا يوجد مسؤولون كبار فى أرفع المناصب لا يحملون جنسيات أمريكية وأوروبية.

أما المثير للدهشة هنا فهو أن الذين يرتبطون بدول معادية لمصر كإيران، هم من يزايدون على فندى وغيره بتهمة «الأمركة»، وهنا يثار سؤال صريح لا يحتمل التمييع عما إذا كنا فى مصر نعتبر أمريكا عدواً لنا شأنها فى ذلك شأن إيران، التى نجحت فى تجنيد الأقلام والمنابر والعملاء؟

وإذا كانت واشنطن فى عداد الأعداء، كما يزعم بعض المأزومين والمحملين بأجندات أيديولوجية أو ارتباطات مع جهات تناصب الغرب العداء، فلماذا إذن نقبل معوناتها وأسلحتها، ونوفد أبناءنا للتعليم هناك، ويتحدث كبار الساسة لدينا عن علاقات استراتيجية تربط القاهرة بواشنطن؟

وهل يمكن أن نضع أمريكا فى نفس خندق إيران، بل نغض الطرف عن «حزبلاوية» طهران ونفسح لهم مواقع فى السياسة والصحافة والبرلمان، ونغض الطرف عن إرهابهم الفكرى للآخرين، مستخدمين إياهم لتصفية أنبغ الأبناء معنوياً، تماماً كما حدث مع سعد الدين إبراهيم الذى نجحنا بشيطنته، وتصويره زوراً وبهتاناً كأنه عدو لمصر، بينما كان الرجل حتى سنوات قليلة مضت من أقرب المستشارين لصانع القرار؟

وكأننا لا نتعلم من خطايانا، فها نحن نعيد الكرة مجدداً مع مأمون فندى، ورغم اختلاف ظروفه ومنطلقاته عن إبراهيم، لكنه بات يتعرض الآن لذات الحملة الغاشمة لاغتياله معنوياً، من قبل أشخاص على رؤوسهم الطير، وكلى ثقة، بحكم خبرات سابقة مع ما يجرى بكواليس الحكم، أزعم أن اتصالاً هاتفياً واحداً من «جهة ما» كفيل بلجم هذه الأصوات التى تفتعل معارك وهمية لاغتيال أنبغ الأبناء، وإبعاد الاتهامات عنهم بلعب دور الوكيل المحلى لقوى الشر الإقليمية كإيران التى تتربص بمصر وتسعى لدفعها فى أتون المواجهات، وحسناً فعل الرئيس مبارك حين ألمح فى خطابه الأخير بأنه لن يتسامح مع هؤلاء الوكلاء المحليين لحزب الله، وبقى أن تترجم تحذيرات الرئيس لإجراءات عملية، وإن كنت أشك فى ذلك، لأن الانتهازيين يجيدون لعبة الالتفاف على كل القرارات.. حتى لو كانت رئاسية.

اجمالي القراءات 10504