قال: فما خطبك يا سامري؟

محمود دويكات في الخميس ٠٩ - أبريل - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

تاركاً وراءه قومه يرتعون من بعد نجاتهم من ملاحقة فرعون وجنوده ، كان نبي الله موسى على الجبل يناجي ربه . و في نهاية المناجاة ، إذا برب العزة يخبره عن شيء ما قد حصل في قومه من وراءه.  لم يكن موسى يتوقع أبداً أن يقوم أحدٌ من  بني إسرائيل بذلك العمل . لقد أخبر الله موسى أن قومه قد ضلوا بفتنة كبيرة . و أيضا أخبر الله موسى باسم المسبب لهذه الفتنة الكبيرة على بني اسرائيل. يقول القرءان ( وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى ،  قَالَ هُمْ أُولاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ، قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ) [20:83-85] . تخيل معي وقع الخبر على موسى عليه السلام. فهو لم يكن يتوقع مطلقا أن يتنكر أحدٌ من قومه لعبادة الله جل و علا ، الله الذي أخرجهم من الذل و أنجاهم من فرعون و جنوده ،  لم يكن  موسى يتوقع أحداًُ من قومه أن يتنكر لله  سبحانه فيعبدوا أحداً من دونه ُ لا يضر و لاينفع.  لقد كان وقع الخبر عنيفاً على موسى لدرجة أنه ألقى الالواح التى احتوت على كلام من الله تعالى.

 مالذي جرى؟ 

الرواية من وجهة نظر قوم موسى : يقول القرءان ( قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ، فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ) [20:87-88]  إن قوم موسى قد اعترفوا بأنهم قد أخطأوا ،و أنهم قد ارتكبوا وزراً جرّاء عملهم ذلك. و يذكر القرءان أن هارون (خليفة موسى في قومه) قد حاول إقناع قومه بالعدول عن هذا العمل و التوقف عن عبادة العجل و العودة الى الله سبحانه ، لكن دون جدوى ، يقول الله (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ، قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى) [20:90-91]. لقد أصر قوم موسى على فعلتهم ، رغم كل الدعوات للتوقف عن عبادة العجل و العودة الى الله الرحمن.  

الرواية من وجهة نظر السامري – المسبب لهذه الحادثة: يقول القرءان (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ؟ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ، قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ) [20:95-97] رغم عظم و كبر الفعلة التى افتعلها السامري ، توجه له موسى بالسؤال المباشر ، ولم يأخذ برأسه و لم يجره من لحيته كما فعل مع أخيه ، بل بادره بالسؤال: ماخطبك يا سامري؟ مالذي جرى لك؟ ماذا حدث لك؟ مالذي دفعك لهذا الفعل الجسيم؟ فاعترف السامرى أنه قد "أبصر" بما لم يبصروا به!  لقد اعتبر السامرى نفسه قديرا على الابصار بما لم يبصر به غيره. و المصيبة أنه قد صدق نفسه و أكبر في نفسه الفعل الذي قام به ، إنه قد تخيّل أنه قد أبصر بالرسول الوسيط! و موسى عليه السلام يعلم حجم هذه الكذبة ، و هو يعلم أنها من تخيّلات السامري! لأنه لم يكن يوجد وسيط ما بين الله و موسى ، فالله كان يكلم موسى تكليماً ، فلم يكن هناك رسول و لا غيره ما بين الله و موسى عليه السلام!

إن السامري قد بنى كل استنتاجاته على تهيؤات و تخيّلات لا أساس لها من الصحة ، و قد أكبر في نفسه الكذبة ، فدعا الناس الى ما في نفسه ، و أفصح لهم عن نيته بتكريس أثر ذلك الرسول الوهمي الذي تراءى له في خيالاته ، فإذا به يجمع من الناس أموالهم و حليهم و ينشيء لهم عجلا ً ، المفارقة المضحكة و المبكية  في نفس الوقت هي لماذا اختار السامري شكل العجل لأن يكون إلاهه  وإلاه أتباعه؟ لقد افترى السامري إثما عظيما إذ انه قد أضل جزءاً ليس بقليل من قوم موسى فجعلهم يميلون معه ميلا عظيماً فعبد جزء من قوم موسى العجل ، لا و بل عبدوه عن سبق إصرار و ترصد! فظلّوا عليه عاكفين حتى يرجع إليهم موسى من سفره الذي قد يأخذ أياما أو أسابيع من ذلك الجبل البعيد!

أبعاد القصة

إن الذي حصل مع قوم موسى و كأنها تشبه محاولة إنقلابية على النظام الفكري الذي جاء به موسى. فموسى عليه السلام قد أوضح لقومه و لفرعون من قبل معنى عبادة الله سبحانه ، و فصل لهم من صفات الله ما يجعل القلب يخشع بالتسليم له سبحانه ، كقوله (قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى ؟ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ، قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى ؟ قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لّا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى ، كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى ، مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ) [20:49-55]، لقد جاءت فعلة السامري و كأنها تضرب بعرض الحائط كل الافكار و الجهود التي كان يقوم بها موسى بسبيل هداية قومه. فقام السامري بتحوير و تحويل معنى العبودية لله جل و علا الى عبادة مادية مصطنعة تشبه تلك العبودية التي كانوا يؤدونها لفرعون و ملأه. لقد نزل السامري بعقول قوم موسى الى أسفل سافلين عندما أقنعهم بأن إلاههم هو ذلك العجل الذي لا يضر و لا ينفع.  و كأن السامري قد أعاد الناس الى سابق عهدهم من العبودية للأشخاص و الاشياء و هو عكس ماكان موسى يناضل من اجله .

و رغم كل هذا العمل الذي قام به السامري ، من إضلال لمعظم قوم موسى إلا أن موسى لم يفرض عليه عقوبة ، بل لم يبتدره بأي سوء على الرغم ان السامري قد أصر على عبادة ذلك العجل مقتنعا فعلا أنه من أثر "الرسول" و أنه فعلا إله موسى! و هذا ملحوظ من قول موسى للسامري (وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ) [20:97] ، فالسامري و معه جزء من القوم قد أصروا على اتخاذ العجل إلاهاً لهم ، فنلاحظ أن موسى قد أفرغ غضبه في أخيه – لأنه كان هو المسؤول على قومه من وراءه -  ، فجرّه من رأسه و لحيته متهماً إياه بالتقصير ، و أما مع السامري فقد قام موسى بسؤاله فقط! و موسى يعلم من الله أن الذي أضل قومه هو السامري و ليس هارون، فلم يقم موسى بقطع رأس السامري بحجة أنه أثار الفتنة ما بين الناس ، و لم يقم موسى باستتابة  السامرى - ليطبق عليه حد الردة كما يفعل المضللون هذه الايام -  لخروجه عن الملة!  بل إنه من بعد السؤال فإن موسى قال للسامري ( فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ، إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ) [20:97-98] فرغم اعتراف السامري أن الفعلة هي مما سولت له نفسه ، و رغم انه ظلّ عليه عاكفاً ، إلا أن موسى تركه يذهب و شأنه ، وذكّره بموعده مع الله سبحانه ، و ذكر الناس بالعودة الى الله تعالى و التوبة اليه (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ، وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ )[7:152-153].

الفوائد

إن أهم ما نستفيده من هذه القصة هو ضمان الحرية الفكرية للأفراد  و ضمان حرية المعتقد للناس.... فرغم عظم الفعلة التي قام بها السامري ـ لم يقم موسى بمعاقبته مطلقا ، بل تركه يذهب و شأنه.  كل ما فعله موسى (كرسول من عند الله) هو تذكير الناس بالحق و العودة الى الله . إن فرض عقوبات بدنية – كالحبس و غيره – على الاشخاص لمجرد أنهم قد جاؤوا بفكر مخالف، أو بحجة خروجهم من الملة ،  هو أمر مرفوض و مخالف تمام المخالفة لما يريده الله. فالله قد أوحى لموسى باسم الفاعل ، و لكنه لم يوحي اليه و لم يأمره بأي شيء تجاه الفاعل ، بل ترك السامري يرفل في الحرية متحملاً وزر ما فعله عندما يلقى ربه يوم الحساب. و أما غضب موسى على هارون فكان بسبب أنه ظن أن هارون لم يقم بما فيه الكفاية من التذكير و تنبيه الناس! فلاحظ كيف حوّل موسى عليه السلام المسؤولية عن إضلال الناس من السامري الى هارون!! ( قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ، أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ) [20:92-93] و كأن هارون هو المسؤول...

بل حتى لاحظ جواب هارون ماذا قال  لموسى عليهما السلام (قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) [20:94] فهارون قد آثر على أن يبقى قومه متمسكين بوحدتهم و تماسكهم كشعب واحد  بدلاً من أن يفترقوا شيعاً و أحزابا متناحرة ... تخيّل معي  عظم الامر الذي جاء به السامري! لقد حوّل الناس عن دينهم و جعلهم يركعون لعجْلٍ بدلاً من الله سبحانه ! و رغم ذلك فإن هارون عليه السلام قد وجد من الصواب أن لا يفترق بنو اسرائيل فيحاربون بعضهم او ان تنتشر البغضاء بينهم على اساس الاختلاف في العقيدة! و في هذا درس عظيم بأن لا تقوم تفرقة و مشاحنات  و حروب ما بين أفراد القوم الواحد بسبب اختلاف العقائد و المذاهب فيه.. فما نراه اليوم من تقاتل و تضييق ما بين الناس على أساس اختلاف المذاهب (كما هو في العراق و مصر و غيرها)  هو أمر لا يقبله عقل و لا يرحب به القرءان مطلقا.

و الله من وراء القصد

اجمالي القراءات 36783