رسالة مفتوحة إلى قداسة البابا شنودة .. لقد أخطأت أيها الرجل

محمد عبد المجيد في الثلاثاء ٢٣ - سبتمبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

أوسلو في 25 يناير 2005

قداسة البابا شنودة الثالث ...
الحديثُ إليك في رسالة مفتوحة يحتاج إلى حزمةٍ من القواعد والأداب التي تبدأ بأعلى القيم في التسامح ولا تنتهي بتجنب مستصغر الشرر في كل صوره، خاصة الطائفية المقيتة.
عندما شاهدُتك على الشاشة الصغيرة في قُدّاس عيد الميلاد المجيد في العام الماضي، اتصلت في اليوم التالي بصديق قبطي يعلم أنني كمسلم أكثر قُرْبا إلى كنيستنا المصرية من معظم أقباط أرض الكنانة، وقلت له إن كلمة البابا لم تَرُق لي ألْبتةة، فقد كانت يداه ترتعشان وهو يقرأ أسماءَ المسؤولين الذين حضروا القُداس أو أرسلوا تهنئة وكان جمال مبارك حاضرا ومتفحصا الوجوه بنظراته التي لم يغب عنها حلمُ العرش وكرسي السلطة ومكتب الفرعون في قصر العروبة.
قلت لصديقي: إن قَدْاسة البابا أكبر من كل هؤلاء، وأنه كان ينبغي أن يقرأ رسالةَ الشكر مطرانٌ أو شماسٌ أو قس أو موظف في أحد الأديرة.
كنتَ دائما الأكبر في عيني، أرى فيك مصر الصابرة، وأنحني احتراما لموقفك الوطني في الصراع العربي الصهيوني، وكان صليبك أكثر وطنية من هلال المتزلفين للسلام الزائف مع الكيان العنصري في فلسطين المحتلة.
رأيتك مرات كثيرة مُعَبّرا عن همومي كمسلم بأصدق وأعمق مما عبر عنها شيخ الأزهر حتى عندما سقط الرئيس وهو يلقي كلمته، وخرج من القاعة، ووقف فضيلة الإمام الأكبر يهتف بصوت جهوري من أجل الشفاء العاجل لسيد القصر، وهتف المنافقون والأفاقون خلفه، وضعت أنت يديك على فمك بطريقة ذكية متجنبا لحظات كذب لا تليق برب العائلة القبطية، وتتعارض مع موقفك الداعي دائما إلى أقصى صور العدل للمصريين جميعا، مسلمين وأقباط.
موقفي الشخصي، فكريا وثقافيا ودينيا وعاطفيا وعقليا، لم يتغير قيد شعرة في ربع القرن المنصرم، فتاريخ أقباط وطني مِلْكٌ لي أيضا كما هي لك، وأكثر مطالبهم مطابقة تماما لكل واجباتي، وأنا لا أفُرّق بين المسلم والقبطي في يقظتي ومنامي، وفي واقعي وأحلامي، بل أجدني أحيانا متمسكا بحقوق لشركاء الوطن لا يكترث كثيرون منهم لفقدانها.
أرفض الكيل بمكيالين، وأرى أن حق المواطنة لا يتجزأ، ولا يميز أحدا على الآخر، ولو كان هناك عدل في مصرنا وترشح لرئاسة الدولة قبطي ملتزم ببرنامج اصلاحي أمام مسلم يرفع شعارات هلامية تخفي وراءها مزايدة دينية فإن صوتي سيذهب فورا للمرشح القبطي.
مطالب أقباط الوطن ظالمة لأنها استجداء من مواطنين لموظف كبير يعمل لديهم، أعني السيد رئيس الجمهورية، لكن حقوقهم المهضومة والناقصة هي واجباتي وعلى رأسها المساواة الكاملة في كل الحقوق والواجبات خاصة التعيينات في المناصب الوزارية والأمنية والعسكرية والأكاديمية.
قداسة البابا شنودة الثالث ...
عندما نشرت مقالي ( أقباطنا شركاء الوطن .. حقوقهم واجباتنا ) تلقيت رسائل حب كثيرة من أشقائنا في المهجر بل إن أحدهم كتب لي من نيوزيلندا بأنه قبطي هاجر من مصر منذ ثلاثين عاما وقرر أن لا يتحدث مع مسلم قط فلما قرأ مقالي أدمعت عيناه، واشتاق فجأة لمصر الطيبة، وازداد حنينه لأصدقائه المسلمين.
عندما كانت لدي المكتبة العالمية كمركز اعلامي في العاصمة النرويجية، جاءني في منتصف الثمانينيات مصري محتال، يرتدي ملابس رجال الدين المسيحيين وهو متخصص في الاحتيال والنصب على الأثرياء الأقباط في المهجر. كانت لديه أوراق مزورة كثيرة وشهادات مختومة ومعه ختم باسم الكنيسة في الاسكندرية.
انتفضت غضبا وشعرت كأنه سرق أختاما من الأزهر الشريف، وحبست الرجل في مقر المكتبة، وأقرَ كتابة أنه محتال يرتدي ملابس رجال الدين المسيحي في مصر، ثم اتصلت بالمقر البابوي متسائلا عن سرقة أختام من الكنيسة ولا أدري إن كان اتصالي وقلقي وخوفي بدافع من كوني مصري أو مسلم أو من إيماني بأن كنيستنا القبطية ليست لأقباط مصر فقط لكنها جزء من التراث المادي والروحي للمسلم المصري بنفس القدر.
صدقني، قداسة البابا، إن قلت لك بأنك أقرب إلي من رئيس الدولة نفسه، وأرى فيك العزة والشموخ والوطنية والعدل الذي أفتقده في الرئيس حسني مبارك وأتعاطف مع توجيهاتك الروحية كأنها خارجة من منبر مسجد أو من قلب إمام معمم يلقي خطبته في الجمعة الأخيرة من رمضان المبارك.
لو كنتُ مضطرا لأن أختار بين ( الأهرام ) وبين ( وطني ) لأخترت الأخيرة فسهام وأوجاع وهموم يوسف أنطوان سيدهم تخترق شغاف قلبي في الوقت الذي تستنفر كلمات رئيس تحرير الصحيفة القومية مشاعر الغضب في كياني كله وهو يتحدث عن مكتسبات وانجازات ومعجزات العهد المباركي.
قداسة البابا شنودة الثالث ...
ماذا حدث لك ومنك وعنك في الفترة القصيرة الماضية؟
لماذا خالفتَ تعاليم المسيح في المحبة والتسامح وتركتَ نارا مشتعلة في البيت لتعتكف غضبا واحتجاجا قبل اطفائها؟
لماذا انحنت هامتك التي كانت أكثر طولا وعلوا وعزة من شيخ الأزهر وعبست لتعاليم السماء من أجل ارضاء تهور شباب غاضب ثائر بعدما شاهد فصلا قصيرا من مشهد وطن فبحث عنك للتهدئة والفهم والشرح لكنك كنت بعيدا عنه وعنا؟
لقد أخطأت خطأ الكبار عندما طالبت السلطة، التي أختلف أنا معها سبعين ضعفا عن رؤيتك إياها، بأن تُسَلّم إمرأة اعتنقت الإسلام أو ارتدت عنه إلى سلطة الكنيسة متجاهلا تماما أن ضرب الدستور تحت الحزام هو بداية الفتنة المؤججة والمشتعلة في الصدور، فالأصل أن القانون هو المرجعية، والقضاء والأمن والشرطة وقواعد الدولة وسجونها ومعتقلاتها وظلمها وعدلها تدخل كلها في صميم التنظيم المتفق عليه والمختلف على طرق تطبيقه؟
صحيح أن الدولة كرئيسها انزلق غضروفها وقامت بتسليم السيدة وفاء قسطنطين، ليس من أجل العدل والحق فسيد القصر أظلم أهل الكنانة، ولكنك لم تنتصر، بل هزمتنا نحن، مسلمين وأقباطا، في مواجهة ظالميك وظالمي أحبابنا شركاء الوطن .. أقباط مصر!
المشهد التفصيلي للمرأة به من الثغرات أكثر من عدد مطالب أقباطنا العادلة، ولكنك قمت بالصعود إلى حلبة المصارعة وسط صراخ وهتاف وحماس أبناء شعبك من شبابنا الأقباط الذين كانوا أفشل محامين عن أعدل قضية.
قضيتهم الأولى العادلة هي المساواة في المواطنة بكل صورها من حرية بناء الكنائس، والتوظيف كالمسلمين تماما ولو كان المنصب رئيس الدولة أو نائبه أو رئيس الوزراء أو قائد الجيش أو رئيس المخابرات أو حتى رئيس مجلس الشعب.
والمواطنة الكاملة ليست فقط سلوكيات يومية لكنها مشاعر دافئة ومتسامحة وقناعات يقينية بأن لا فرق بين مسلم وقبطي أمام كل مؤسسات الدولة وفي مقدمتها الإعلام.
ومطالب الأقباط العادلة التي أسهبت صحيفة ( وطني ) على مدى سنوات في عرضها كانت قد بدأت في التفاعل داخل النفس المصرية بفضل قوى الاستنارة والموقف الوطني للكنيسة وكراهية الناس للنظام الحاكم.

قداسة البابا شنودة الثالث ...
لماذا أضعفت حجتنا، نحن المسلمين، في مواجهة نظام هيمنت عليه هلوسات الظلم، فجعلتَ من قضية وفاء قسطنطين العشاء الأخير، وكدتَ تهدم المعبد علينا، وأنت صاحب أعدل قضية مصرية في نصف القرن الفائت .. المواطنة الكاملة؟
لقد خانتك حكمتُك، وأوقعك النظامُ الحاكم في فخ نَصَبَه لك بإحكام، وحاولوا تصغيرك وتقزيمك وتحجيمك في شبه فتنة طائفية كادت تجر الوطنَ كله، وتحرق الأرض الطيبة، فانتصر سيدُ القصر عليك وبدا قبيل اعلان الدكتور أحمد فتحي سرور عن ترشيحه إياه في مايو المقبل حاكما أوحد لولاية خامسة أنك كنت، من حيث لا تدري، الطُعمَ الذي وضعوه لشعبنا لاقناعه أن الرئيس حسني مبارك هو الضامن الوحيد لأمن مصر، والزعيمَ القادرَ على كبح جماح التطرف لحماية الوطن من فتنة طائفية أو من استعانة أقباط الداخل والخارج بنجمة داود وأضغاث أحلام سيد البيت الأبيض في لعب دور نبي العصر وفي يده صندوق اقتراع وديمقراطية احتلال وسندويتش هامبورجر وعملة خضراء وفيلم لوالت ديزني ووثيقة عفو عن الصهيونية ويانكي رامبو يقود دبابة في شوارع القاهرة.

أتفق معك، قداسة البابا، في أن حقوق المواطنة تكيل بمكيالين، فالدولة ترحب بمن يترك دينه المسيحي ويعتنق الإسلام وتعتبره حرا، لكنها تكشر عن أنيابها إن كان الخيارُ عكسيا وتعتبر المسلمَ مرتدا يستحق الإعدام.
ولعلك تعرف، وأنت الدارس للتاريخ ومقارنة الأديان، أن الإسلام بريء من الفهم السقيم، وأن كتاب الله العزيز، الذي نؤمن نحن أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يؤكد على أن ( من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر )، وأن التوجيه القرآني العظيم كان ( وما أنت عليهم بمسيطر ).
إنني كمسلم أرفض رفضا قاطعا هراء وعبث وجريمة الظن بأن الإسلام الحنيف يقطع رأس المسلم الذي يقرر اعتناق دين آخر،وأنا مسلم إذن فأنا حر، واستطيع أن أختار طواعية دينا آخر انطلاقا من فهمي واستيعابي لمفردات القرآن الكريم وروح الاسلام وأشعر بمهانة شديدة حينما أقرأ عن أحكام الردة وأعتبر الذين يؤمنون بها يسحبون البساط من تحت أقدام حريتي في اختيار معتقدي وديني واحترام عقلي.
لذا فلن يضر الوطنَ شيئا أن يختار مسلمٌ المسيحيةَ أو يعتنق مسيحيٌ الإسلامَ، وتلك والذي نفسي بيده أجمل ما في حرية الاعتقاد، بل هي الطريق إلى المواطنة الكاملة.
في باكورة شبابي كنت مولعا بمقارنة الأديان، والتهمت كثيرا من الكتب، وقرأت العهدين القديم والحديث مرات كثيرة ، وكان والدي، رحمه الله، أعظم أب في العالم ( معذرة لكل الآباء الطيبين ) ، وقال لي في احدى المرات بأنني لو اخترت دينا آخر غير الاسلام فلن يغضب مني فقيمتي وانسانيتي في عمق تغلغل مشاعر الحرية.
واخترتُ الإسلامَ هذه المرة عن قناعة عقلانية واختراق عاطفي لكل جوانحي، ومع الأيام والسنين تزداد قيمة التسامح في نفسي حتى بلغت مبلغ الإيمان ذاته وقوته وعمقه، فأصبحت أرى أقباطنا، أحبابنا شركاء الوطن لا يتميزون عن المسلمين في أي شيء.
المسلم الذي لا يثق في قوة إيمانه ويخشى أن ينفرط عقد ضعيف في قلبه أو فهمه للاسلام ولا يعرف سحر الحرية في صناعة النفس المتزنة، يظن أن المرتد هزمه بضربة قاضية، وفضح التفسيرَ المريض لحرية الاعتقاد الذي يجعلها قاصرة على المسلمين دون غيرهم من البشر.
لذا فالكيل المنافق بمكيالين، يحلل اعتناق المسيحي للاسلام ويُحرّم على المسلم اختيارا آخر ليس من الاسلام في شيء ولا تسري فيه روح الكلمة العليا للقرآن الكريم.
لذا فقد كنتَ، قداسة البابا، أصغرَ من قامتك العظيمة في الفتنة الأخيرة التي كادت تحرق الوطن كله.
طلبتَ تسليم مواطنة مصرية لسلطة الكنيسة، فتزحزح الوطن قليلا من موقعه وأنت القائل دائما ( الوطن لا نعيش فيه فقط لكنه يعيش فينا ) أليست تلك كلماتك؟

لو دخل عليك في المقر البابوي فجأة السيد المسيح، عليه السلام، لعاتبك عتابا شديدا، وربما كان يطلب منك أن تطالب بحقوق كل المواطنين، مسلمين ومسيحيين، في دولة امتهنتهم، ونظام داس فوق رؤوسهم، ومؤسسات تحتقر المواطن مالم يكن متزلفا ومتقربا ومتوددا للقصر وأسياده.
كان المسيح سيطلب منك أن تقف بهامتك وقامتك وعزتك أمام جموع الشعب وهم يحملون الصليب، وتستنكر باسم الآب والابن والروح القدس الخروج على تعاليم المسيح من الذين طلبوا الاستعانة بآرييل شارون وجورج بوش لاحراق مدينة المدن .. القاهرة الحزينة!
وكان سيُذَكّرك بأن ( من ضربك على خدك الأيمن فادر له الأيسر، ومن أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك أيضا)، وسيطلب منك أن تصلي لعشرين ألف معتقل مسلم في سجون وطنك، وأن تدين كل الانتهاكات والظلم والبغي والعدوان ضد المصريين جميعا.
كان سيقول لك إن المسيح ابن مريم لا يصغر إنْ تركت امرأةٌ زوجَها الكاهن المريض واعتنقت الإسلام، ولا يكبر إن ارتد مسلم عن دينه وقضى ما بقي له من عمر في أحد الأديرة المتاخمة لصحراء لا نهائية.
وكان سيحذرك من فتنة طائفية، ومن ألاعيب سيد القصر، ومن مشاعر العداء الصهيونية نحوك لموقفك الوطني الرائع، ومن ترك جريمة التمييز في المواطنة والالتفاف حول جنحة صغيرة لامرأة قد تكون محقة أو مخطئة، ولكن الجميع، مسلمين ومسيحيين، رجموها بألسنة حِداد، وسد الإعلامُ الأحمق أذنيه بدلا من أن يستضيف السيدة لتقص الحقيقة دون أن تكون هناك اساءة لأي من الدينين.
وكان المسيح سيطلب منك أن تنخرط في عضوية عشاق الوطن دون تمييز، وأن تخرج للعلن، وتشهر رأيك السياسي، وتجعل الكنيسة تعانق المسجد، وتتحدث عن قوانين الطواريء والتجديد للرجل الأوحد وعن الفساد والنهب والسرقة والبطالة والأمية وسكان المقابر والاعلام والسياحة والاقتصاد وانتهاك كرامة المواطن في أقسام الشرطة، وحتى أسعار الدواء والعلاج.
وكان المسيح سيحدثك حديثا جميلا ورقيقا ومفعما بالمحبة عن نبي الإسلام، ويطلب منك أن تعاتب وتنهر الأقباط الذين دخلوا معركة غير متكافئة ( وهم قلة بفضل الله). إنهم يسبّون بأقذع الشتائم الجارحة محمدا بن عبد الله، صلوات الله وسلامه عليه، ولا يستطيع أيُ مسلم في العالم كله أن يمس المسيحَ وأمَه التي أصطفاها الله وفضلها على نساء العالم.
وكان المسيح سيطلب منك أن تضع قوانين جديدة تُسهّل الطلاق، وتفرج بها عن مئات الآلاف من الزوجات البائسات في زيجات فاشلة المطلوب فيها أن تتحمل المرأةُ جحيم الجدران الأربعة، وتحتفظ بعفتها، وتضحي بحياتها وكرامتها من أجل أن يرضى عنها الربُ، وأي ربٍ هذا الذي يكافيء على الصمت، ويسعد بالخرساء، ويطلب من المرأة أن تتحمل من أجل العناية السماوية قسوة زوج وساديته وظلمه وقهره واهانته لها ولأولادهما.
وحتى لو كان العكس هو الصحيح فإن الرجل الذي ينتظره زواج آخر سعيد وأولاد أصحّاء نفسيا وبهجة في الحياة الدنيا لا يطلب منه المسيحُ أن يختار البؤسَ، ويضع صليبه فوق مخدعه في كل ليلة!
كان المسيح سيطلب منك رفع الظلم الواقع على أي قبطية بائسة في زواجها قبل أن تحاسبها عن هروبها إلى دين آخر أو مذهب مختلف أو سلطة كنسية أقل جهامة وقسوة وتزمتا وتشددا في التعامل مع المرأة.
وكان المسيح سيقول لك بأن الكنيسة ليست مخفرا للشرطة، وأن طلبك تسليم امرأة مصرية لمجرد أنها قبطية كان كبوة من أعلى رأس مسيحي في أفريقيا والعالم العربي، فأنت قد ضربت نظام الدولة وتنظيم المؤسسات والعرف السائد وتماسك شركاء الوطن من مسلمين ومسيحيين على الرغم من أنك فضحت هشاشة النظام الحاكم ، وأظهرت ضعفه، وكشفت وهنه.
وكان المسيح سيمسح بيديه الرقيقتين على وجهك الطيب وهو يُذَكّرك باعتكافك عندما حاول الرئيس الراحل أنور السادات اهانتك وضربَ الوطنِ في مقتل، وغضبَ عليك لأنك لم تبارك زيارته للقدس الحزينة الواقعة تحت الاحتلال العنصري الصهيوني، لكنه، عليه السلام، كان سيبعد يديه فورا عن وجهك الكريم وهو يحدثك عن الخطأ الذي ارتكبته عندما اعتكفت من أجل تسليم مواطنة مصرية من سلطة الدولة إلى سلطة الكنيسة.

قداسة البابا شنودة الثالث ..
كم تمنيت أن يكون اعتكافك من أجل كل أولادك المسلمين والأقباط، وأن ترفض انهاء الاعتكاف قبل الافراج عن كل المعتقلين الأبرياء، وليس الشباب القبطي فقط، وتطلب وقف الممارسات القمعية، وعدم التجديد للرئيس أو توريث العرش لابنه!
لقد منحتَ قوى التطرف الاسلامي ورقة رابحة، وجعلتهم يُثَبتّون قناعاتهم المريضة بأن أقباط مصر أهل ذمة بيننا وبينهم عَقدٌ وليس شراكة في الوطن.
كنا نريد أن نراك دائما كبيرا، فإذا بخطئك وكبوتك تفتح كوة صغيرة يطل منها أصحاب أقلام مسمومة تحاول أن تفتك بك في تصفية حسابات لا يعلمها إلا الله.
وظهر صراع داخل الكنيسة فوجدته تلك الأقلامُ فرصةً سانحةً لضرب سلطتك فلا يدري المرءُ إنْ كانت لصالح النظام الحاكم أم من أجل جهات أخرى تنتظر دورها لتلتف حول رأس الكنيسة الجديد، أطال اللهُ في عمرك.
الفتنة الطائفية ليست زوبعة في فنجان، لكنها بركان يتهدد وادي النيل، قد تنفخ إسرائيل فيه الروح وتضرم واشنطون النار، وتشعله قلة من أقباط المهجر، وينهزم المسلمون والمسيحيون بفضل التطرف الاسلامي الحديث الذي يرى الجنةَ من خلال ازدراء الآخرين واحتقارهم واضطهادهم والغاء حقوقهم.

قداسة البابا ...
كل الأطراف في قفص الاتهام من السيد الرئيس مرورا بفضيلة الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر وقداستكم وليس انتهاء بالحمقى والمغيبين والمتطرفين وأنصاف الأميين الذين يظنون أن الله سينحاز يوم القيامة لفئة دون أخرى، وكل صاحب دين يرسم في مخيلته الجنة وفقا لهواه ومزاجه ويضع فيها أقرباءه ومعارفه وأصدقاءه لكن الله، عز وجل، أكبر من كل هذه التخيلات والتصورات القائمة على أنانية مقيتة تبهج المؤمن بها لتصوره أن الحق المطلق في جانبه.
أشعر، قداسة البابا، بما تحس به من غبن وظلم وتمييز وتفرقة، لكنها ليست معركتك بمفردك، فأقباطنا أهلنا ونحن نقف في صفك حتى تنتزع آخر حق لشركاء الوطن من أنياب قوانين ظالمة وعُرف سائد وصمت كصمت الحملان وأنا كمسلم أرى أن التفرقة عمل استعلائي لن يشم صاحبُها ريحَ الجنة ولو على مسافة ألف سنة مما يعدون.
حتى معركة ( خانة الديانة) في البطاقة الشخصية سننتصر فيها بإذن الله فهي فضلا عن إشعار الجميع بأن الدولة تدعو إلى التمييز، فهي أيضا عمل متخلف وأحمق، وأنا لا أفهم أن يكتب الطالب في استمارة دخول الجامعة دينه الذي ينتمي إليه، وتمنح هذه الخانة لذوي النفوس الضعيفة من مسلمين وأقباط فرصة الحكم المسبق على صاحب الهوية وكأنها حرب أهلية صامته.
مصر، قداسة البابا، في حاجة إلى ثورة حب وتسامح والطريق إليها طويل وشاق وصعب وبه من الأشواك أكثر مما بالفتنة الطائفية ذاتها، فثورة الحب والتسامح ستستنفر قوى البغي والتطرف لرفضها، وربما ننتظر سنوات طويلة حتى يتأكد كل صاحب عقيدة بأنه لا يملك في داره صندوقا بداخله مفتاح الجنة.
أحلم كثيرا بأشياء تبدو أنها قادمة من عالم الخيال المستحيل تحقيقه، وأرى في أحلام اليقظة تلك، والتي سيظنها الكثيرون أضغاثا ومثالية ساخرة، قبطيا يجلس في مسجد منتظرا صديقه المسلم ريثما ينتهي من صلاته، ثم يتوجهان معا إلى قس الكنيسة المجاورة يستمعان إلى نصائحه في قضية تخص المسلم.
وأرى قبطيا يتخصص في أحاديث رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، ومسلما يعتكف عدة أيام في أحد الأديرة ويصلي فيه خمس مرات في اليوم!
وأرى قبطيا يبدأ يومه بالاستماع إلى آيات الذكر الحكيم بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، ومسلما يحاضر في تجمع إسلامي عن قيمة التسامح في المسيحية!
إنني، قداسة البابا، أبحث عن زمن جميل في قبح متوارث، وعن محبة في عالم من الكراهية، وعن صدق في فيضان من النفاق الذي تعلمناه في وطننا بفضل أجهزة اعلام عفنة، وطرق تدريس وتعليم متخلفة، وتربية أسرية تتحدث عن صاحب الدين المختلف كأنه الآخر الذي لن يسكنه الله فسيح جناته ولو جاءه بقلب سليم.

أعود، قداسة البابا، إلى خلاصة رسالتي إليك، وعتابي عليك، وأصارحك بأن خطيئتك كانت كبيرة، فقد نسيت للحظات طويلة في اعتكافك أنك مِلْكٌ لنا جميعا، مسلمين وأقباطا، ولست راعي الكنيسة فقط، لكنك صاحب أصدق المواقف الوطنية. قُبلاتك لشيخ الأزهر وتهنئتك له برمضان والعيدين لن توقف طوفان البغضاء المشتعلة في النفوس، وعليك أن تنثر قبلاتك وبركاتك ومحبتك على كل أهل بلدك، وتطلب لمسيحييها ومسلميها الحقوق الكاملة للمواطنة والكرامة.
مسلمو مصر في حاجة إليك كأقباطها تماما أو أكثر، فإذا تكررت الكبوة فربما تجمع المسلمين والأقباطَ نارٌ واحدةٌ.. في وطنٍ كان واحداً فلم يحافظوا عليه!

اجمالي القراءات 14345