سقطت حماس وعاش درويش

نبيل شرف الدين في الإثنين ١١ - أغسطس - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

كان بوسع أعضاء تنظيم "حماس" أن يلوذوا بالصمت، ويبتلعوا ألسنتهم أمام جلال الموت، لكنهم أبّوا إلا أن يفصحوا عن طويتهم وأمراضهم النفسية المستعصية، التي تبدأ بالعُصّاب تجاه أي فعل إبداعي، سواء كان فناً، أو شعراً، أو موسيقى، أو أي مظهر من مظاهر البهجة والحياة، ولا تنتهي إلا بنهايتهم المحققة.
هاجت قطعان "حماس" عبر الشبكة تنهش لحم أجمل فتيان فلسطين، محمود درويش، وتكيل إليه كل صنوف البذاءات والردح والشتائم والسخائم، بل والتكفير الصريح، في افتئات وقح على الله تعالى، حين يمنحون أنفسهم حقاً ربانياً خالصاً، وهو محاسبة الناس على معتقداتهم وطويتهم.
وبقليل من التأمل سنكتشف أن "فُجر الخصومة" ليس جديداً على الحركات المتأسلمة، فهو سلوك مألوف، وقاسم مشترك بينها على اختلاف مسمياتها ومنطلقاتها، وهو أحد مظاهر النفاق التي وردت في الحديث النبوي الشريف عن صفات المنافق "إذا خاصم فجر"، كما أنه بالتأكيد ليس الملمح الوحيد لتجرد هذه التنظيمات من إنسانيتها، وإصرارها على خداع الجميع ولو بالإكراه، فهناك الكذب بقلب بارد، والادعاءات بامتلاك الحقيقة المطلقة، والاستعلاء على خلق الله لمجرد أن أحدهم قرأ آيتين من القرآن الكريم، أو صلى ركعتين من الفروض أو النوافل، حتى يمنح نفسه بعد ذلك حق محاسبة الناس، ويضع ذاته المريضة في منزلة أسمى من البشر، تفتئت على الذات الإلهية فتكفر هذا، وتمنح ذاك صك الغفران، وهلم جرا..
يعد أتباع التنظيمات الإسلاموية الناس بجنات تجري من تحتها الأنهار، لو "حكّموا" شرع الله، لكن المعضلة في ماهية "التحكيم" والشرع"، وبالطبع فإن فهمهم الأبله المتخلف هو الوحيد المعتمد، وما دونه فهو كفر بواح، فمثلاً يتصدى أنصاف المتعلمين وأشباه المثقفين منهم، للنقد الأدبي من دون علم بخفايا اللغة ومقتضيات اللغة الشعرية ودلالات الألفاظ وينتزعون عبارة من سياقها وأخرى من قصيدة، ليغزلوا في النهاية "عقد الشر" الذي يعتبرونه "إنجازاً تاريخياً" توصلوا إليه، وبعد ذلك يتحدثون بلغة خطباء المنابر الذين لا يُناقشون، ولا يملك أي مخلوق أن يراجعهم في ما يطلقونه من تُرّهات، وهذا هو الفارق بين من يناقش ومن "يخطب"، من يحترم عقول محدثيه، ومن يستعلي عليهم لا لشئ إلا لأنه أمسك بالميكروفون، وجلس أمامه المأزومون والمغيبون بسحر القداسة الزائفة، ليهللوا ويكبروا بعد أن وضعوا عقولهم في ثلاجة، ومنحوا ضمائرهم إجازة مفتوحة..
بالطبع ليس هذا هو الشر الوحيد الذي اخترعه تنظيم "حماس" وفرضه على أهالي غزة المنكوبين بالحصار والإحباط وتقلص مساحات الأمل، فقبل سنوات حين قفزت على السلطة في لحظة عدمية، بلغ خلالها اليأس بالناس في القطاع مبلغه، وبعدها جرت في بحر غزة مياه غزيرة، وأصبحت "حكومة الحاج هنية" تباهي بالانتصار على عائلة من عوائل غزة، وتستمتع برؤية أبنائها بالملابس الداخلية في طوابير مخزية أمام الجنود الإسرائيليين، الذين كانوا ـ للأسف ـ أكثر إنسانية ورفقاً بهم من إخوانهم "الحمساويين"، فعلى الأقل منحوهم ملاذاً آمناً، وأدخلوا الجرحى المستشفيات، في ما كان أشاوس "القسام" يجوبون شوارع غزة، يوزعون "الكنافة" ويحملون صور بن لادن والزرقاوي وأحمدي نجاد وغيرهم من شرار الخلق.
بعد يوم واحد على ذلك اليوم الأسود الذي اختطفت فيه "حماس" قطاع غزة، كتبت عن المصير الأسود الذي ينتظر السواد الأعظم من أهالي القطاع، ولم أكن بالطبع أرجم بالغيب، أو أقرأ الطالع والفنجان، بل كان مجرد استقراء لخبرات سابقة مع جماعات التأسلم في بلدان كثيرة، قلت إن حماس وقادتها لا يفقهون في السياسة إلا كما تفقه خالتي "الصعيدية" في اللغة الصينية.. فحماس لا تجيد سوى الحشد والتأليب وتجييش المشاعر وترف النقد كالعوّام على البر، وحينما حان الأوان ليجربوا السلطة، حولوا الشارع الغزاوي إلى ساحة للتجارب، ووجد كل غزاوي نفسه مطالباً بدفع فاتورة مغامرات "أبو العبد"، وبقية مجلس الآباء وغلمانهم، الذين لا يجيدون من السياسة سوى الخطب، ولا يعرفون من الحكم سوى الخطف والمساومة، وتحريض الدهماء واستخدامهم دروعاً بشرية..
وحيال ممارسات "طالبان غزة" لم يجد المرء سوى تقديم العزاء للشعب الفلسطيني في أعزّ ما يملك وهو حريته فاعتبارا من اليوم الذي سطت فيه حماس على مقاليد السلطة، كبلت حياة أهالي غزة بآلاف القيود، وصودرت حرياتهم العامة والشخصية، وطورد شبانهم وشاباتهم واستعر الاقتتال بين شتى الفصائل، وتعاظمت الفوضى إلى حد العبث وأجواء العصابات، ورحل من تمكن من الفلسطينيين فرارا بأرواحهم، وطبعاً علينا أن ننسى الفنون والأدب والمسرح والغناء وأي نوع من الإبداع فكله حرام، في قانون (حماستان)، مثل قدوتها وربيبتها عصابة (طالبان).
أما على صعيد السياسة الداخلية فقد بشّرت بأنه لن يكون هناك أي شئ اسمه معارضة ولا من يحزنون، لأن من يعارض حماس يجري بالفعل تصويره بأنه يعارض الله شخصياً، ومن ينتقد حماس يتهم بهدم الإسلام، وأتحدى أن يكون هناك الآن في غزة صوت وحيد معارض لقادة هذا التنظيم، حتى من داخل صفوفه، ناهيك عن التيارات المخالفة من علمانيين وفتحاويين وشيوعيين وغيرهم، فقد تحولت غزة إلى "مشتل" لا يتسع إلا لنوع وحيد من النباتات السامة المتسلقة، بعد أن كان أهلها يحلمون بها بستاناً يتسع للبرتقال والتين والزيتون والزهور.
وأخيراً، دعونا نحصي عدد الشعارات التي تسقط من عمائم "حماستان"، وقد رأينا قادة حماس يفاوضون جنرالات إسرائيل، وكيف يلتزمون (زي الشطار) بالتهدئة، ويعقدون الصفقات مع من كانوا يصفونهم بالأعداء، ورغم كل هذا لا يكفون عن توزيع الأكاذيب على خلق الله ببجاحة منقطعة النظير عن "المقاومة والصمود والأمن والاستقرار"، وغيرها من المعاني التي لا وجود لها إلا في الخطب المنبرية لكهنة حماس.
وباختصار، أكرر القول إن تجربة حماس ليست سوى محطة فاشلة جديدة لعصابات المتأسلمين الإرهابيين، على درب تجربة الترابي في السودان، والملا عمر في أفغانستان، والمحاكم الإسلامية في الصومال، وغيرها من المغامرات السياسية البائسة التي حولت الإسلام والمسلمين إلى أشرار العالم..
والله المستعان

اجمالي القراءات 10485