قراءة في ( الغريبة) مليكة أوفقير

محمد عبد المجيد في السبت ١٤ - يونيو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً


أوسلو في 14 مايو 2008



أكثر السرقات دناءة وخسة وحقارة تلك التي تدخل عنوة على الإنسان الحر، وتقتطع من عمره يوما أو عاما أو عدة أعوام يقضيها المظلوم في أقبية السجون حيث يمارس الساديون القساة باسم السلطة أحط السبل والوسائل التي يتأكد بعدها الحيوان أنه أكثر رقيا وتحضرا من البشر.
في ( السجينة ) وصفت مليكة أوفقير مشاهد من عشرين عاما قضتها في مكان لا ينتسب إلى السجون أو المعتقلات، ولا يتشرف بأن يكون قطعة مهجورة في الصحراء، لكنها  عزلة تأديبية لأسرة حملت اسم أوفقير، وقرر الملك الحسن الثاني أن يعاقب الرجل في قبره بوضع أسرته، ومنهم طفل لم يكن قد بلغ الثالثة من عمره، في أكثر الظروف حشراتية، وإمعانا في مضاعفة عذاباتهم، قام بتقسيم الأسرة إلى قسمين في نفس المكان لمدة ثمان سنوات لا ترى الأم وابنها الصغير أولادها وبناتها رغم أن جدارا واحدا يفصل بينهم، وتلك كانت متعة الملك وهو يجلس في الدروس الحسنية يسبح بحمد الله، وينصت بشغف لعلماء من العالم الاسلامي كله جاءوا في حضرته ليباركهم كرمه معهم، أما الملك فكان مشغولا وهو يسمع آيات الله البينات بكل أنواع التعذيب التي يمارسها زبانيته مع المنسيين في سجون ومعتقلات المغرب.

مليكة أوفقير تحدّتْ الموت وغيابات السجن والحرمان والتعذيب والاذلال لعشرين عاما من شبابها، وعندما خرجت رغم أنف أمير المؤمنين عرف العالم أنَّ عيون مسؤوليه ومثقفيه وإعلامييه كانت معصوبة بالجهل لِما كان يحدث في مملكة الصمت المخيفة.

في كتابها ( الغريبة ) تصف رفاهية الحرية، وتحاول أن تعيد رتق ما تم اقتطاعه من عمرها، وتلصقه مرة أخرى فتنجح أحيانا وتفشل أحايين أخرى.
إنها في باريس حيث تستطيع أن تسير دون أن تنظر خلفها، وأن تمارس حرية الكلمة، وتختار طعامها، وكتابها، وتركب المترو، وتقود السيارة، وتتحدث مع رجل شرطة دون أن يرفع صوته أو سوطه وينهال على ظهرها.
تصف مليكة أوفقير يوم أن حصلت على حريتها في 26 فبراير 1991 بعد عشرين عاما، أو عشرين قرنا في أعتى سجون الحسن الثاني.
تقارن بين سنوات كانت وأفراد أسرتها يتعفنون في السجن الذي أراده الملك انتقاما لروح والدها، وبين تدفق الأحلام فجأة رغم أن سنوات الحصار في الحرية كانت خمساً، وكانت أجهزة المخابرات المغربية تستجوب كل من يقترب من الأسرة، أو يصافح احد أفرادها، أو يبتسم في وجه أحدهم.
بدأت حياتها في سن الثالثة والأربعين عندما استنفر فرار أختها ماريا وسائل الإعلام الفرنسية، وخضع الملك لأول مرة، ولن يستطيع أن يختطف مليكة أوفقير ويذيبها في حامض الأسيد كما حدث مع بن بركة.
السلطة في العالم العربي عبقرية في مواجهة المواطن، ومبدعة في فن التعذيب، أما الاختطاف فمخابراتها تستطيع أن تفعل ما تعجز عنه كل أجهزة الأمن المحترفة، فالاختطاف قد يتم في فندق ببلد شقيق، أو من خلال دعوة رقيقة يتسلمها الضحية ثم يختفي بعدها، أو عملية تخدير يشرف عليها دبلوماسيون في الخارج، وأحيانا يتولى كاتم الصوت احالة روح الكلب الضال ( وفقا لأدبيات المخابرات الليبية ) إلى عزرائيل.
في حياة الحرية تكتب مليكة أوفقير بمرارة ممزوجة بتهكم لا نظير له عن الحياة اليومية الباريسية، وعن التبضع في السوبر ماركت وجنون الشراء، وحُمّىَ الاستهلاك، والمصارف، والسحب الآلي، والمطاعم الفاخرة التي تقدم لك أطباقا تتوسطها شرائح متفرقة من الطعام لا تراها العين المجردة.
مليكة تحمل معها عشرين عاما كانت مفقودة، وكلما استعادت مشهدا قديما، حتى لو كان مقاسمة الحشرات والفئران لهم كسرات الخبز التي كانوا يدفنونها تحت الأرض خشية مصادرتها، يصطدم المشهد بعالم الحرية، ويختلط الأمر عليها فلا تفرق بين السجن الحقيقي والسجن الكبير.
لا تصدق مليكة أنها يمكن أن تستدعي الشرطة لموقف أو لحمايتها فقد تعلمت أن الشرطة هي التي تستدعي الأشخاص، وأن الحديث مع رجل الأمن له أصوله وقواعده، والنظرات المتراخية، وأحيانا تقليد المتذللين والمساكين والخائفين فهي الطريقة الأكثر أمنا لتجنب غضب رجال السلطة.
في ( الغريبة ) تكتب مليكة بقلمها أو بقلبها أو بمرارة ذكرياتها، وتتحول إلى حكمة متحركة ساخرة للحياة ومن الحياة، لكن آلامها التي تجترها تصيب كلها كبد الطغاة، وتغرس أنيابها في وجوههم القبيحة.
في ( الغريبة ) تحاول أن تصف الحرية، ولكن ماذا عن الشخص الذي لم يعايش تجربة مثلها، هل هو قادر على الاستمتاع بالعالم خارج السجن؟
في ( الغريبة ) تدين مليكة الطاغية الذي سرق من عمرها وأعمار أفراد أسرتها عقدين من الزمان، لكن خلف الحديث عن الحرية يختفي شيء رهيب.
إنه عالم المنسيين الذي قضى كثيرون منهم نحبهم، وبقي كثيرون لا نعرف عنهم شيئا، فالمثقفون يكتبون عن عبقرية الزعيم، وخطباء الجمعة يتحدثون بعيدا عن المنطقة الحمراء، والإعلام تم تخديره وتدجينه، وسجون العالم العربي أقامها الطغاة لاثبات أن السخرة والعبودية والإذلال مرادفة لحقوق الإنسان في عرف سيد القصر.

مليكة أوفقير تصرخ في عالم من الصم والبكم والعمي.



محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو النرويج

Taeralshmal@gmail.com

اجمالي القراءات 10792