مصر بين زلزالين ..

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ١٤ - مايو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

أولا :
عندما حدث زلزال مصر المشهور ظهر يوم 12 اكتوبر 1992 ، أبان عن فساد قطاع الاسكان والتعمير إذ صمدت العمارات القديمة التى لا تزال تحتفظ برونقها وبهائها فى وسط القاهرة مع أن عمرها يمتد الى القرن التاسع العشر ..أما العمارات التى تم بناؤها منذ سيطرة العسكر فقد تساقطت بمعدل ينبىء عن تسارع انتشار الفساد ، فالأحدث منها كان الأسرع سقوطا والأكثر تدميرا. ومن أسف أن كان من بين تلك المساكن عشرات المدارس التى سقطت على رءوس التلاميذ والتلميذات والعاملين فيها وقت ذروة اليوم الدراسى.
وكأن مصر كانت بحاجة الى هذا الانذار الالهى كى تنتبه الى نهر الفساد الاثم الذى يجرى داخلها.
ثانيا :
وقد كتبت فى الاسبوع التالى للزلزال ( 19 اكتوبر 1992 ) مقالا عن كارثة الزلزال فى جريدة (الأحرار ) كان صرخة تنبه الى الفساد العقيدى الذى أنشأ وخلق ذلك الفساد الخلقى فى مصر..
تحت عنوان ( أصل البلاء ) قلت :
• ذلك الزلزال الذي حدث بمصر كشف عورات كثيرة أهمها : أن هناك خللا في ضميرنا ينبغي علاجه فلم يحدث من قبل أن أحيل للنيابة 52 ألف موظف ومهندس في قطاع حكومي واحد يخص الإسكان . وإذا كانت الضمائر قد تخربت إلي هذا الحد في قطاع حكومي واحد ما هو حال الضمائر في بقية القطاعات وفي بقية الطوائف الشعبية والرسمية ومجتمع الصفوة والنخبة ؟ ..!!
• إن الشعوب تتقدم بإصلاح الفرد فيها ، وتتأخر وتتخلف إذا كان أفرادها متخلفين منحلين فاسدين ، وكل الحضارات القديمة سقطت حين وصل العفن إلي الضمير الفردي وفسدت أخلاق الفرد ، وحضارة اليابان التي تبهر الشرق والغرب تقوم علي أساس أخلاقي يتمتع به الفرد الياباني ويمتاز به عن غيره من أفراد الشعوب الأوربية والأمريكية . ولو تخيلنا أننا أقمنا صرحا من الحضارة المادية علي ضفاف النيل وظل الخراب يعشش في ضمائرنا فإن هذه الحضارة ستنهار وتقع أسرع مما وقعت المدارس والجوامع والعمارات الحديثة في الزلزال الأخير .. إن بناء الإنسان يسبق البناء في الإسكان وأن تنقية الضمير هي الأساس في التعمير ، وعلينا أن نواجه عناصر التلوث في النفس المصرية والعربية في صراحة ووضوح..
• تبدأ المشكلة بذلك التناقض بين مباديء الإسلام وسلوك المسلمين ، مباديء الإسلام تدعو للتقوى وهي بتعبير عصرنا صحوة الضمير ومحاسبة النفس وتنقيتها من الشرور ، أما سلوك المسلمين ففي أغلبه نفاق وكذب وعدم التزام بالعهد والوعد، وتلك هي الصورة الواقعية التي تظهر في إعجابنا بصدق الأجانب بل وصدق المصريين الأقباط ، بل وفي تشككنا في المسلم إذا كان حاجا ، وارتباط تأدية الحج بانعدام الضمير ، وبعد فضيحة شركات توظيف الأموال زاد التوجس في المسلم المتدين أكثر ، وأصبح واضحا ذلك الارتباط بين الصحوة الدينية الراهنة ومساجدها الكثيرة ومظاهرها في الزى وفي الأعلام وبين انتشار الفساد والنفاق ، وتجسد ذلك الارتباط في الزلزال حيث سقطت مساجد حديثة تعلن أن الذين جمعوا الأموال لبنائها جمعوا بين التدين الظاهري والفساد الباطني ..
• ونصل إلي ذروة المشكلة ، فالذين بنوا المساكن في الستينات وقبل الصحوة الدينية ( الوهابية ) كانوا اقل في ناحية التدين ولكن كانوا أكثر نقاء في الضمير،أما الذين افرزتهم الصحوة فكانوا علي العكس ، سواء كانوا من أصحاب توظيف الأموال أو من حيتان الإسكان ، إذن فالخلل ينبع من نوعية التدين ومن النصوص الدينية التي تحتفل بها الصحوة الدينية وتطرحها علي الناس .. وهنا أصل البلاء ..
• إن الإسلام في حقيقته قرآن أنزله الله تعالي علي خاتم النبيين الذي طبقه أحسن تطبيق ، وهو قمة الرقي الحضاري ، ولكن ما لبث أن أضاف المسلمون تراثا جعلوه من مصادر الإسلام ، وذلك التراث الديني البشري يحوي في داخله أساس البلاء الذي يناقض القرآن تماما وينسف نظامه الأخلاقي في ترقية النفس وبناء الضمير .
• في ذلك التراث أحاديث تشجع علي الفساد وتجعل الجنة من نصيب المفسدين مهما فعلوا طالما قاموا ببعض العبادات ، فمن بني لله مسجدا بني الله له بيتا في الجنة ، وليس مهما أن يسرق ويفسد طالما يبني مسجدا " ولو كمفحص قطاة "، ومن حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع من الحج نقيا من الذنوب ، أي يمكنه أن يفسد في الأرض طيلة العام كله إلا أياما يقضيها في الحج ، وهكذا تدور أيامه بين فساد مستمر وأيام قليلة في الحج ، بل إنه إذا قرأ بعض السور القرآنية أو دعا ببعض الأوراد دخل الجنة مهما فعل من آثام، بل إنه إن قال لا إله إلا الله دخل الجنة " وإنا زنا وإن سرق رغم أنف أبي ذر " !! .. وحتى لو دخل النار فإن شفاعة النبي في انتظاره تخرجه من النار ، وإذن فما الداعي لأن يرهق نفسه بالطاعات والجنة مضمونة له سواء إن أطاع وإن عصي ؟.. ولماذا لا يسارع بالفساد والعصيان طالما أن الجنة يحتكرها المسلمون مهما فعلوا ؟ ..
• ذلك التراث الذي يحوي عناصر الإفساد لم يكن معروفا إلا للقلة من الباحثين والمشايخ ، فلما جاءت الصحوة الدينية جعلته في متناول الناس في الكتب والخطب وأجهزة الأعلام ، فتعلم المسلمون أن الطريق للفساد مفروش بكثير من الأحاديث المقدسة، وأنه لا عليهم مهما فعلوا؛ فالشفاعة العظمي تنتظرهم ،أى أصبحت تلك الشفاعة تهددنا في حياتنا ومستقبلنا ..
• وقد قمت بالتصدي لذلك الزيف حين كنت في جامعة الأزهر فأوضحت أن العبادات وسائل للتقوى، وأن الله تعالي لا يقبل العمل إلا إذا كان خالصا لوجهه وكان المال حلالا طيبا ، وأن الرسول لن يشفع لأحد يوم القيامة ، لأن الله تعالي يقول له : ( افمن حق عليه كلمة العذاب أفانت تنقذ من في النار ؟)( 39/19) بل إن النبي يخشى من عذاب الله يوم القيامة وأن لن يجيره من الله يومئذ إلا تبليغ الرسالة ( 39/13، 6/15، 10/15، 72/22)
والقرآن يؤكد في أكثر من عشرة مواضع أن النبي لا يعلم الغيب ولا يعلم بما سيحدث للناس في المستقبل : ( قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم 46/9") ومع ذلك فقد زيفوا علي النبي أحاديث يتكلم فيها عن غيب يوم القيامة وما يحدث فيها ، وقد قمت بالرد علي تلك الأحاديث بأكثر من ثلاثمائة آية قرآنية لأنزه الإسلام والرسول عليه السلام من ذلك الزيف وحرصا علي حاضر المسلمين ومستقبلهم من الفساد الذي تدعو إليه تلك الأحاديث . وكانت النتيجة اضطهادا استمر داخل الجامعة وخارجها ومازلت أعاني منه حتي الآن. ومنذ عشر سنوات أصدرت كتابي " السيد البدوي " ودعوت فيه إلي فحص التراث وتنقيته لكي نحل المشكلة الدينية ، ولم يستمع إليّ أحد فتفاقمت المشكلة الدينية وأصبحت أزمة تكتب حروفها علي واقعنا البائس بالدم والرصاص ، ثم أضيف إلي ذلك العمارات المنهارة .. وما ندري ماذا سيحدث في الغد طالما ظلت تلك الأحاديث تحظي بالتقديس وتخرب عقول الشباب وتفسد ضمائر المسلمين .. وإلي متي نظل نصمم علي نسبة الكذب للرسول عليه السلام ؟..
انتهى ..
ثالثا :
مضى على هذه الصرخة حوالى 16 عاما ، وضاعت ضمن صرخات أخرى فى ضجيج عجلات قطار الفساد السريع ، وهو قطار متعدد الدرجات ، الدرجة الأولى منه محجوزة للدين الأرضى السائد الذى كنت أسميه تدينا وقتها ، وأكتفى باثبات تناقضه مع الاسلام ، ولم أكن أجرؤ أن أطلق عليه الوصف الحقيقى وهو (الدين الأرضى ) بسبب ملاحقة الأمن بكرباج السلطة الغاشمة المرفوع فى وجهى دائما ، وملاحقة الشيوخ للأجهزة الأمنية بالتخلص منى بالسجن أو التصفية، فالدين الأرضى يتجسد فى تحالف (الاكليروس ) أو الاستبداد والفساد بمباركة رجال الدين.
ولقد عانى القرآنيون من ذلك (الاكليروس) ولا يزالون .
رابعا :
بعد هذا المقال ب 16 عاما اين وصل الحال بمصر؟
جاء إنذار زلزال 1992على أمل أن يفيقوا الى ما يفعلونه بأنفسهم فلم ينتبهوا ،بل استمروا فى مطاردة المصلحين المسالمين الذين ليست لهم مطامح دنيوية وسياسية. تجاهلوا مغزى الزلزال الأرضى ، وجاءت ارهاصات بزلزال بشرى يحس به الجميع ، ويشعرون أنه سينشر الفوضى والخراب والتدمير ويقضى على الأخضر و اليابس..والمفسدون وشيوخهم أيضا يتجاهلون نذر هذا الزلزال الوشيك ..
لأكثر من ربع قرن احتكرت مجموعة من الأشخاص الثروة و السلطة فى مصر ، واستغلت فى ذلك القوات المسلحة المصرية والأمن والأزهر والاعلام والأوقاف والمساجد والتعليم ،
ووصلت الأمور بالأغلبية الساحقة من المصريين الى تعذر الحصول على رغيف خبز وشربة مياه نقية وأن يتنفسوا هواءا نقيا ، وأصبحت من الكماليات تلك الشكاوى القديمة من تعذر الزواج وتعذر الحصول على مقعد فى الاتوبيس والحصول على عمل . أصبحت الحياة ذاتها متعذرة ، وتضاءل الفارق بين الحياة والموت مما يعجل بالنهاية الصفرية، وهى أن تقتنع الجماهير بأنه بدلا من الاقتتال أمام المخابز فلماذا ننتحر فى الهجوم على مقرات الشرطة طالما أن قدرنا هو الموت جوعا ويأسا..
خامسا :
تلك هى ثقافة المعادلة الصفرية.
العجيب أنها تسرى على الأفراد الفاسدين فى جانب كما تسرى على الشعب المصرى كله فى الجانب الآخر..
الشعب المصرى من جهته وصل أو سيصل سريعا الى الاقتناع بالمعادلة الصفرية وهى الموت ،أى بدلا من أن يموت فى السجون أو فى المظاهرات أو أمام المخابز أو بسبب التلوث والمواد المسرطنة التى تنشرها الحكومة أو من أكياس الدم أو فى مستشفيات الحكومة التى تغتال الناس ..بدلا من ذلك الموت الذى يقترب سريعا من كل مصرى لماذا لا يذهب هو اليه بكرامة ليكون لموته ثمن بدلا أن يموت مجانا على يد الحكومة وبلا كرامة .؟!.
تقافة المعادلة الصفرية لها منطق آخر لدى الأفراد الذين يحكمون مصر، هو منطق العناد الأحمق الأعمى ؛هم يريدون الاحتفاظ بكل شىء برغم كل شىء ، ولا يتركون للغير سوى الصفر؛ احتكروا الثروة والسلطة منذ أكثر من ربع قرن ولم يشبعوا ، امتصوا دماء الشعب فأصابوه بالأنيميا ولم يرتووا، يريدون احتكار كل شىء والى الأبد ، فإن وصل الرئيس الى أرذل العمر فهناك الوريث وهو أشد شراسة وطمعا وتجبرا من أبيه ..أى لا مجال للآخر ـ وهو هنا الشعب المصرى ـ إلا أن يتمتع بالصفر المتروك له ..
وبهذا الصفر سيأتى الزلزال ليدمرالحاكم والناقم والساكت والثائر والغاصب والغاضب، ولكن الفارق أن لعنة الانتقام ستطارد أبناء أولئك الظالمين وأحفادهم بينما بعض من سيموتون فى الانفجار القادم او الزلزال القادم سيعيش بعدهم أبناؤهم فخورين بآبائهم متمتعين بالاحترام .
سادسا :
المعادلة الصفرية لا تعرفها عصابات المافيا لأنهم يتفاوضون و يجعلون لهم حدودا ومعايير ،ويخضعون لمنطق التسويات وحق كل طامع فى نصيب من الكعكعة، ولذلك بقيت المافيا ، ومنذ قرنين وهى تتوسع وتنتشر وتزدهر.
أما المافيا التى تحكم مصر فلم تصل الى هذا التحضر.
لأنها لو وصلت الى تحضر المافيا الأمريكية لأدركت أنه آن الأوان لها بعد كل ما نهبته من مئات البلايين من عرق الشعب المسكين ـ أن تتنازل عن جزء من تحويشة العمر مقابل البقاء فترة فى السلطة لترتيب اوضاعها قبل الرحيل فى وقت مناسب وآمن وبسلام. بهذا الجزء الذى تعيده للشعب يمكن اصلاح اقتصادى حقيقى هم الذين يدفعون تكلفته وليس الشعب الجائع.
هناك مئات الألوف من الميليونيرات المفسدين فى مصر بالاضافة الى عشرات البليونيرات الكبار، كلهم شركاء للحكام ، هذا عدا أعمدة الحكم وكل منهم يملك عشرات البلايين فى الداخل والخارج . ليس صعبا عليهم تدبير مبلغ خمسين بليون دولار لإصلاح الاقتصاد المصرى بحيث يرتفع مستوى الفقراء وينقذ الطبقة الوسطى المصرية من الضياع. هذه الخمسون بليونا أقل مما تم نهبه من مصر فى السنوات العشر الأخيرة من بيع القطاع العام واراضى البناء وعمولات السلاح والقمح والغاز المصرى.. الخ ..وليس الشعب المصرى ساذجا لكى يصدق أنه لا توجد موارد مالية للاصلاح.
صحيح قد لا توجد موارد فى الدولة تفى بالاصلاح الاقتصادى بحيث يدفع تكلفته القادرون فقط . ولكن من قال إننا نتحدث عن موارد الدولة ؟ إننا نتحدث عن مواردكم أنتم وبلايينكم انتم وخزائنكم أنتم . لم ترثوها من آبائكم ولكن سرقتموها ونهبتموها من عرق الفقراء . والحل ان تعود ـ ليس كلها ولكن جزء منها ـ للشعب والدولة ضمن صفقة تتركون بها الحكم بهدوء، و تضمن لكم العيش فى أمن وسلام مع التمتع ببلايين كثيرة لا تستحقونها. أما الاحتفاظ بكل ما نهبتموه والعمل على زيادته مع الزعم بأنه لا توجد موارد والتلاعب باعطاء علاوة ثم استرجاعها أضعافا بزيادة الأسعار...فهذا هو التطبيق العملى للمعادلة الصفرية . الحل أن تدفعوا للشعب جزءا من الكعكة التى يملكها والتى انفردتم بها ولا تزالون ..بدون ذلك فالزلزال قادم ومعه طوفان دم لا يبقى ولا يذر..وليس لكم من عاصم فسيتابعكم ولو كنتم فى بروج مشيدة .. وأمامكم مآسى السابقين من شاوشيسكو وصدام وشاه ايران الى عيدى امين ..
لو كانت المافيا الأمريكية هى التى تحكم مصر لكانت أرحم بالشعب المصرى من هذه المافيا المصرية .
أخيرا :
ومن العجب تلك الخيبة الى نتمتع بها حتى فى الشر.
متخلفون نحن فى كل شىء ..حتى فى الشّر .!!..

اجمالي القراءات 14768