خيال واحد كئيب

محمد حسين في السبت ٠٣ - مايو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

احدهم شاهد فيلم "حين ميسرة" وقد جاء يتحدث الى فيما رآه ، وقد كان غير مصري بدى مدهوشا بما كان يدور داخل احداث هذا الفيلم. وكالعادة "كمسحوب من لسانى" قلت له : الفيلم لم يعرض شيئا ، تلك لم تكن عشوائيات ، وانما منطقة راقية البسها المخرج لباس قاطنوا العشوائيات. فالعشوائيات بها ما لا ترضى به الحيوانات" ثم صمت.
فنظر لى محدثى وقد بدت عيناه وانها ستقفز اخيرا خارج محيط وجهه الى حيث لا رجعة ، ثم فاجأنى بسؤال: ما هو الشرعى فى مصر اذا؟
صراحة ... بدا السؤال باليسر الشديد الذى عجز معه عقلى عن الاجابة. ولو انه له القدرة على ان يتخذ منزلا فى وجدانى وعقلى هذا الذى اصابه السؤال فى عجلات تخيلاته فادارها بسرعة ، لبدا له ان هناك اعاصير من التخيلات الباحثة داخل الخريطة التشريحية لقاطنى بلدى من اسفل السافلين فيهم الى اعلى عليين! بل ومن المحتمل ان تقتله الدهشة اذا حاول ان يرى فى مرآة عقلى التخيلية وهى تعكس كل التصورات التى افاء الواقع بها على عقلى. بل وقد يصاب سائلى باكتئاب حاد ان ادرك ان كل ما اتى به عقلى لم يكن الا جزءا بسيطا من صندوق الحياة لكل شئ غير شرعى فى بلدى.
فقررت ان اصمت عنده عن الاجابة ... ولكن القلم كالعادة فضاح ... بواح بما تخفى به سرائرى ... وكالعادة اكتب "مثل قاسم السماوى" وقد يترائى للنظارة اننى كئيب ومتشائم (وفقرى) ، حيث لا تعكس مقلة لبى الا كل سئ ، سوى كل ماهو ضد القانون ، ضد الاخلاق ، ضد القيم ، بل وضد فطرة الانسان نفسه .... 

اخذنى خيالى "فى مشوار" بسيط الى مطعم فول وطعمية. وفى طريقى رأيت شحاذا يأتى بكلمات وادعية بكل ما اوتى من ملكات تلتقف الكلمات المستجدية لاعبا بها على اوتار الافئدة لعبا ، بل وفوق ذلك فانه يبدو وكأنه ممسكا بطفل فى يده ، والاثنان لهما مظهر تفر منه الابالسة. هذا الطفل او الصبى المجرور اما انه ابنا له ، او ضالا وجده الشحاذ داخل مقلب قمامة ، او مسروقا من اهله الذين لا يعلمون اين حطت قدميه. يسحبه ويستخدمه بلا رحمة غير مكترث لا هو ولا من يروه بما يدمره فى نفس هذا الطفل الذى حرم من ابسط حقوقه حتى اللعب مع قرنائه. كل تلك اللارحمة حتى يستلين اعين وافئدة الناس بما لا يجعل لهم سبيلا سوى ان يعطوه شيئا من المال. وقد يعلم "بضم الياء" فى النهاية ان هذا الشحاذ يمتلك من المال ما قد يطعم حيا كاملا لثلاثون ليلة ثلاث وجبات لكل فرد بلا انقطاع. 

ثم وانا هائم فى طريقى "داخل خيالى" اتأمل ، وقد استوقفنى هناك طابور طويل من الناس يكاد يستولى باقدام الواقفين داخله على محيط انفاس تكاد تكفى حشرة كى تستمر فى ان تحيا. هذا الطابور امام ثقب صغير فى الحائط لا يكاد يمر منه طفل صغير ، وهناك من يخرج شيئا مستديرا فى حلقات فوق بعضها البعض ، انه مخبز! وما يخرج هو لقمة ، لقمة غير سائغة ، ولولا الجوع وقلة الحيلة ما نظر الى هذا الخبز "او اللقمة" كلب اجرب. وبالداخل يبدو وكأن خيالى اقتحم ، فخيالى يذهب الى كل مكان بلا اى موانع او عوائق ، ويرى ما لا عين رأت ويسمع ما لا اذن سمعت. وها هنا استقر بداخل المخبز صاحبه ، وقد سرق دقيقا يقال عليه مدعما ويقبض ثمنه عشرات الاضعاف من مشترِِ "شغل سوق سودا يعنى". وخرج الخيال مرة اخرى وقد وقف بعضهم يتزاحمون ويتناولون ويسبون ويلعنون ويستولون على الخبز "لانهم يعرفون من يدلى لهم بالخبز من الداخل" وقدر جهدهم يشترون بما يزيد عن حاجتهم بالاضعاف ، حتى يكفى طيورهم لعشرات الايام اللاحقة. غير مبالين بسيدة ضعيفة واهنة تقف عند هذا المخبز منذ الصباح ، بل ويبدو انها واقفة منذ ان قدمت الريح نفسها الى الاله.
وقرر خيالى ان ينتقل الى منظر اخر ، فى الطريق ايضا ، هؤلاء البناءون الذين يعملون لمقاول قرر ان يعبث بخليط البناء حتى يتكسب قدر الامكان على حساب ارواح الناس الذين ظلوا يقتطعوا من قوت يومهم لسنين طويلة حتى يقدروا على توفير مقدم شقة فى تلك العمارة التى اجلا او عاجلا ستصبح قبرا واحدا لهم جميعا ستبدأ معالمه ادوارا حتى تسقط. 

وها هناك ذلك المنظر المألوف ، ضابط شرطة وقف وحول شخص ما يقف امامه بعض المتجلببين ، وقد وقفوا يعزفون لحنا من الصفعات على "قفا" احدهم ، وبعد وصلة طويلة من العزف والسباب قرر ان يأخذه الى القسم صائحا امام المارة "هاتوه نتسلى عليه الليلة دى" ويبدو ان خيالى كالعادة نجح فى ان يلج الى نيته وقد اصاب تلك النية التى تشير الى صندوق الدنيا المسمى بدرج مكتبه يخرج ما يلفقه لصاحبنا الذى يجهل ما ينظره رغم علمه انه سنتهى به الامر الى جلوس ونومه حيث يتبول هو والاخرون! 

وهذا الخيال القاسى الغير ذى رحمة اعطانى مشهدا اخرا فى الطريق لاناس بدوا وكأنهم ذاهبون الى مكان ما وقد كانت على ما يبدو انتخابات ، وقد ارى انهم ذاهبون الى ذلك المكان فى الافق كى يدلوا باصواتهم ، والتى يبدو ايضا انها ليس لها قيمة ، فقد وقف بعض البلطجية كى يجبروهم على الادلاء باصواتهم لصاحب رمز الجردل "او الدردل ، حسب مكان الانتخابات تنطق" ، وهناك بالداخل يجلس رجل جهز ادواته كى يوفر تعب المجئ على الاموات منهم والاحياء وقد جلس يعلم بقلمه ويدلى بالاصوات نيابة عن المصوتين .... والله فيه الخير! 

انظر هنا! تلفازا يذيع خبرا ما ... اه ، الخبر بتاع كل خمس سنين! والقناة اياها ، يجلس المذيع فرحا متملقا بخلفية هى اغنية ، اغنية لمولانا الذى فاز بالرئاسة (!!!!) للمرة الـ (والمصحف الشريف مانا فاكر) ، وكالعادة باجماع الشعب الا واحد من مية فى المية (يبدو انه كان فى الانعاش وقتها ، ربنا يسامحه بقى) تلك النتيجة التى تفوق نسبة من اتفقوا من على سطح البسيطة على الاله نفسه خالق الكون.
وبدا خيالى مسرعا حتى لا يفوته الوقت للحاق بشئ ما... فهذا سائق تكسى يستغل كل من يسقط فى فخه ، وهذا صاحب بقالة يطفف فى ميزانه ، وهذا اخر تشق يده طريقها لتعبث بجسد امرأة واقفة فى وسيلة مواصلات عامة (قطار؟ اتوبيس؟ لم احدد) وتلك يد اخرى تشق طريقها ايضا ولكنها فى جيب رجل قد قرر ان يصحو مسبقا مع اول دعاء لاول طائر فى الفجر حتى يأتى بمعاشه الذى كان ينتظره منذ منتصف الشهر البائد ، وهذا شيخ يبث عينته الحكومة حتى يبخ سمه فى عقول متجمعين فى مسجد يصلون ، وهذا مفتى ونظرائه يفتون فتاوى متناقضة فيما يبدو معجون سنان قد ارتأى احدهم انه قد يؤثر فى صيامه! فقرر ان يسأل!
وهذا حاج يعلق الزينة حتى يعلم القاص والدانى بما هو فاعل. وهذا مدرس خصوصى!!!!!! وهذا وزير يبيع كل ما يأتى فى طريقه ويكذب على الناس الكذابة بطبعها ، وهذا رجل قد علا صوته من الداخل متلاحما مع صريخ امرأة يبدوا وكأنها امرأته وقد انهال عليها بالصفعات والركلات وقد اخذ فى سكته اولاده. وهذا رجل مرور وقف يراقب مرورا ليس فيه اشارات ، وهذا اخر يلقى بالقمامة فى منتصف الشارع قد تجد مريدوها الضالين باحثين فيها عن حاجتهم كيفما اتفق.... وهذا وهذا وهذا وهذا....!!!! صحفيون كذابون ، وقضاة مهانون ، ومحامون نصابون ، ومدرسون بلا اى ضمير ، ودكاترة جامعات كل ما يهمهم ان يبيعوا كتبهم ، وطلاب لا يدرسون ، وضباط كل عملهم ان يعذبوا فى خلق الله ، ومواطنون يسرقون بعضهم بعضا ، ومخدرات ومتعاطوها ، وشباب على النواصى يتحرش بالنساء ، ومستغل لمنصبه! وهذا قانون على الورق ، مجرد على الورق...سن كى يظل على الورق ربما لمجموع اخر غير الذى يعيش هنا...!  وهذه ام بلا اى رحمة ساقت فلذة كبدها كى تأخذ بادميتها لختانها!

وفى النهاية وبعد ان ارهق التفكير عقلى ، وصلت اخيرا لمحل الفول والطعمية ، والذى يبدو وأن صاحبه يقلى فى هذا الزيت للمرة الثلاثين!

حد يجيبلى اجابة ايجابية للسؤال ده يرحمكم الله!

اجمالي القراءات 11158