متطفل على خواطر إبراهيم

دعاء أكرم في الجمعة ١١ - أبريل - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

إسمي إبراهيم،

ولدت في أسرة معروفة في قومي، فأبي كان مسؤولا عن صناعة الآلهة! لقد كان عنده مشغل من أكبر مشاغل قريتنا، فهو يمتلئ بالصنّاع المهرة والحرفيين، ويقوم أبي -آزر- بتوجيههم ليصنعوها حسب التصميم الذي يريد، ثم يطلق عليها من الأسماء ما شاء. تميز أبي بجودة صناعته وطول عمرها، فالصنم الذي يصنعه يعيش دهرا بعكس الأنواع الأخرى المتوفرة في المشاغل الأخرى. 

كان لدى أبي نوعين من الزبائن، الأول العائلات الغنية والمتنفذة في قريتنا والقرى المجاورة، ممن له&ag;م مجموعة محددة من الأوثان يرغبون دوما بإعادة إنتاجها بنفس التصميم (ولكن بأحجام تختلف حسب الحاجة والمناسبة) من مواد مرتفعة الثمن كالمرمر والمعادن الكريمة وغيرها. النوع الآخر، وفي معظمهم من محدثي النعمة الذين يرغبون عن قوالب الآلهة الخاصة بالأسر القديمة، فيعتبرون تصميم وثن جديد دليل على قدرتهم الخلاقة في إيجاد مظهر جديد للمعبودات ذاتها، فكان أبتِ ومن معه يقومون بهذه الأعمال كلها ويتقاضون لقاءها أثمانا مرتفعة.

من آن لآخر كان مشغل أبي يقوم بالتبرع بعدد من الأوثان لمعبد أسس حديثا أو كاهن جديد، وبهذا يضمنون عدم كساد بضاعتهم، إلى جانب استمراريتهم في السيطرة على السوق في وجه المنافسين. هؤلاء المنافسون كانوا من صغار الصنايعية في مشغل أبي، تعلموا المهنة وانطلقوا ليجربوا حظهم فيها فكانوا يخرجون كل يوم ببدعة جديدة تعجب صغار السن ممن يأبون عبادة الآباء فيقبلون على المعبودات جديدة، فكان الطلب على الأصنام جديدة الأشكال والتصاميم بما يتناسب والاتجاهات الحديثة. وبالطبع كان هناك حرب حامية الوطيس بين الصنايعية من جانب وبين الزبائن من جانب آخر حول التصميم الجديد للوثن والطريقة الأنسب لعبادته -فهم لم يتفقوا كيف يعبدون أيا منها- فكان أبي ينجر إليها أحيانا عندما يتورط أحد صناعيته فيها، أو يثيرها أحيانا قبل طرح الأوثان الجديدة إلى السوق!!

رغم تعدد المعبودات، كان هناك صنم كبير جدا، من تصميم وصنع مشغلنا، يقوم في ساحة قريتنا وقد كان مثابة لكل الحرفيين الذين يعملون في المهنة (ولكن هذا من أسرار العمل التي يجب أن لا أفشيها). وكان هناك آخر –ولكن أصغر حجما- يقبع على قمة جبل يطل على قريتنا، فكان أهل القرية يتوجهون إليه بالقرابين – تحت إشراف والدي المباشر- قبل الاحتفالات الدورية التي كانت فرصة مناسبة لبيع المزيد من الأوثان وغيرها من المتاع.

كما قلت، كبرت في هذه البيئة، لكني لم أستطع مجاراة أهل القرية في عباداتهم. فلم أجد هناك معنى في عبادة ما صنعت يداي، فإن كنت عابدا أحد فأنا سأعبد أبي الذي صنع تلك الآلهة، وهذا قد مرّ ببالي في يوم من الأيام، إلى أن شاهدت أبي وقد علقت ساقاه تحت إحدى منحوتاته العظيمة واضطر خمسة من رجاله الأشداء أن يرفعوها ليتمكن من سحبهما. بالطبع تعافت ساقاه بعد مدة ولكن غابت عن بالي فكرة عبادته تماما. وأنا أعتقد أنهم جميعا في ضلال مبين.

في ليلة من الليالي، طفقت أنظر في الموجودات حولي، والظلمة رفعت بصري فرأيت الكواكب المنتثرة على صفحة السماء المعتمة ففكرت أتكون هذه هي الآلهة الحقيقية؟؟ ولكن سرعان ما تبددت ضوؤها عندما بزغ البدر العظيم، لقد كان ... كبيرا ورائعا ومشرقا، لقد بدد العتمة تماما كما تضيء النار ما حولها. لم يكن القمر ليؤذي، إذن هو ربي. تطلعت حولي لأجده يضيء قطرات الندى على الأشجار تلك الليلة، وتلمع تحته مياه البحر فيقفز السمك عاليا محاولا التقامه قبل أن يعود إلى الماء خاسئا. وبضوئه الفضي تبددت كل تلك الشذرات اللامعة المنتشرة على صفحة السماء والتي نسميها كواكب، عندها خطر لي أن هذا ربي، ليكن القمر معبودي.

بدأ الصبح ينفجر وبحلول النهار أفل القمر، واستيقظت من وهمي، لقد أفل القمر وسرعان ما بزغت الشمس، يا لها من شمس أكبر وأقوى وأشد من القمر. أي نار تتفجر منها فتحيط ما حولها بدفئها وجبروتها، إنه حقا يستحق العبادة إذ طلى السماء بألوان حمراء فكانت وردة كالدهان، وقضى نورها على كل تلك الكواكب، بل على القمر المهيب. صعدت إلى أعلى الجبل وتسلقت ذاك الوثن الموجود هناك في محاولة لأقترب منه، لكنه كان بمنأى وأعجزني طلبه. اقترب المغيب وأفل الشمس مرة أخرى، أنا لا أحب الآفلين، كيف غاب عني أن هذا الشمس كذاك القمر، كلاهما يبزغ ويأفل كل يوم منذ وعيت عليهما، أي أمر مر في خلدي جعلني أنسى تلك السُّنة وذاك الديدن؟؟

لن أعبد الشمس ولا القمر، ولئن لم يهدني ربي لأكون من الضالين.

اجمالي القراءات 19473