مصر الغاضبة!

سليم عزوز في الأربعاء ٠٩ - أبريل - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

لم يكن يوم الأحد الماضي يوماً عادياً في تاريخ الشعب المصري، فهذا اليوم شهد إضرابا عن العمل بسبب الارتفاع المجنون في الأسعار. ومثل هذا الإضراب سابقة، في تاريخ المصريين، وأهمية هذه الخطوة من وجهة نظري، في أنها لها ما بعدها، ويمكن البناء عليها!.

الدعوة للإضراب كانت من عمال المحلة، بدلتا مصر، ويبلغ عددهم اثني عشر عاملا في قول، وثلاثة عشر عاملا في قول آخر، ثم تبناها أفراد عبر الشبكة العنكبوتية، حيث وصل عدد الداعين لهذا الإضراب قرابة المئة ألف داع، وقد تبنتها حركات بعد ذلك مثل كفاية، و9 مارس الخاصة بأساتذة الجامعات.

لم نعرف في مصر ثقافة الإضراب، ولهذا حدث تباين في شكله، وقد تداخل مع مظاهر الاحتجاج، فمن دعي الي عدم الذهاب الي العمل والمكوث في المنازل، ومن دعي الي الاحتجاج بالشوارع، ومن دعي للتوقف عن البيع والشراء، وان كان الجميع قد اتفقوا علي فكرة مقاطعة العمل في هذا اليوم!

يكذب من يقول انه كان يستطيع ان يقف علي حجم الاستجابة للدعوة، قبل يوم الأحد، ففي الواقع انه لا يعرف احد كيف يفكر السواد الأعظم من الشعب المصري، ومتي سيتحرك ضد هذه الأوضاع الموغلة في السوء، فلا شك ان الغلاء الفاحش في الأسعار، قد اكتوت بناره كل طبقات الشعب، وعلي وجه التحديد الطبقة الدنيا، حتي ليعد السؤال العصي علي الإجابة: كيف يعيش الموظف البسيط، في ظل هذا الارتفاع المجنون في الأسعار؟!

كنت أشاهد برنامج " ببساطة " عبر قناة المحور، واتصلت سيدة هاتفيا، وروت كيف ان معاشها هو ثلاثمائة جنيه، ومعها قبيلة من الأبناء، وقد وجدها مقدم البرنامج الكاتب الصحفي سيد علي فرصة، ليقف علي الإجابة علي هذا السؤال المحير: كيف تعيشون إذن؟، فمؤكد أنها تستحق ان تكون وزيرة للمالية، لأنها تستطيع ان تسير حياتها بهذا المبلغ المتواضع، وستكون بكل حال أفضل من وزير المالية المتعالي علي الشعب، والذي ينظر إليه كما لو كان يعمل في السخرة، في أملاك جده، صاحب التاريخ الوطني المشرف. تعرفون بكل تأكيد ان جده هذا هو بطرس غالي، واكتفي بهذا القدر لأن في فمي ماء!.

لكن كان جواب السيدة صادما: إحنا مش عايشين أصلا !

الارتفاع الجنوني في الأسعار، لم يقتصر علي سلع الرفاهية، بل انه وصل الي المكون الأساسي للوجبات الشعبية، بشكل يدفعنا للقول انه لم تعد هناك وجبة شعبية في مصر، فحتي أسعار الفول المدمس ارتفعت، وأصبح الكيلو منه بتسعة جنيهات، وهو الامر الذي جعل ملك الحديد، الذي ينظر إليه أهل الحكم علي انه محمية طبيعية، وهو أحمد عز أمين التنظيم بالحزب الحاكم، وصديق جمال مبارك الانتيم ان يقول في إحدي جلساته الخاصة مستنكرا: يقولون إن الحديد غال، مع انه أرخص من الفول، فبينما طن الحديد ستة آلاف جنيه علي الأكثر، فإن طن الفول هو تسعة آلاف جنيه!.

ان زجاجة الزيت مثلا التي كانت تباع بثلاثة جنيهات ونصف الجنيه، ارتفع سعرها في ظرف أسابيع الي اثني عشر جنيهات، والقوم يتحججون بأن الأسعار قد ارتفعت عالميا، وهذا صحيح، لكن الارتفاع يقابله ارتفاع في الرواتب وهو مالم يحدث، فضلا عن ان هذا الارتفاع يبدو غير طبيعي، فأنت قد تشتري شيئا اليوم بسعر، فتذهب في الغد لتجد سعره قد زاد وهكذا. هذا ناهيك عن أن سعر السلع عندنا أغلي من سعرها العالمي، فزجاجة الزيت سالفة الذكر، سعرها عالميا هو سبعة جنيهات ونصف الجنيه!

والذي زاد وغطي، هو أزمة رغيف الخبز، والحديث عنها أصبح علي المشاع، وصار معلوما للكافة.. كل هذا جري في ظرف شهرين، وبدون سبب معقول، فلم نستيقظ ذات صباح لنفاجأ بزيادة في أعداد المواليد، وان هناك مليون امرأة مصرية أنجبت في يوم واحد، مليون شاب مثلا، في عمر المراهقة، حتي نقول ان وجودهم ضغط علي الموازنة العامة للبلاد

إن من الواضح أن المشكلة في الحكومة، ونحن لدينا حكومة رجال أعمال، تم منح عناصرها حقائب وزارية بدون ان تكون لهم فتوحات تؤهلهم لذلك، وكان هذا الاختيار، هو من باب التجريب، وعلي الرغم من فشل التجربة إلا ان أصحابها متمسكون بها، فهم لا يريدون الاعتراف بالخطأ!

لقد انشغل أعضاء هذه الحكومة بمصالحهم الخاصة، وبأعمالهم، وسخروا مواقعهم الوزارية من أجل زيادة ثرواتهم، وما يسري علي الوزراء فيما يختص بالكفاءة، يسري كذلك علي رئيس الوزراء، فأروني مبررا واحدا يجعل من أحمد نظيف رئيسا للوزراء؟!.. فحتي في المجال الوحيد الذي قالوا انه يجيده، اثبت فشلا ذريعا وغرق في شبر ماء!

لقد قالوا في بداية اختياره، ان الرجل عبقري كمبيوتر، ومصر تريد ان تنتقل به من زمن الانالوج الي عصر الديجتال، وعندما جري ما جري لكابل الإنترنت في عرض البحر، ضرب هو وحكومته الالكترونية لخمة، ووقف علي رصيف النهر، وصاح بصوت جهير: إني أغرق!.

لم أكن وحدي، بصفتي مراقباً، من عجز عن قياس الاستجابة الشعبية لهذا الحدث التاريخي.. اقصد بذلك الدعوة للإضراب، فقد بدا القوم من أهل الحكم مثلنا، وصدرت التحذيرات مهددة بالويل والثبور، ضد الذين لن يذهبوا الي أعمالهم في هذا اليوم!.

وما رميت إذ رميت، ولكن الله رمي. فقد كان هذا التهديد الصادر من وزارة الداخلية عبر وسائل الإعلام الحكومية بمثابة الإعلان عن هذا الإضراب!

يوم الأحد استيقظت من نومي مبكرا علي غير العادة، وخرجت مسرعا، ومتجولا في الجيزة، الي وسط القاهرة، وحرصت علي ألا استقل سيارتي، فلا أحد يتوقع ماذا يمكن ان يحدث في هذا اليوم!.

ترجلت، وركبت المترو، والأتوبيس، والميكروباص، والتاكسي، وأستطيع ان أقول وأنا مطمئن في شهادتي إلي أن الإضراب قد نجح. الشوارع وفي أوقات الذروة بدت هادئة، كثير من المحلات مغلقة، وكثير من المدارس لم يذهب إليها إلا المدرسين، والمواصلات العامة تبدو شبه خالية من الركاب، لم أشاهد اختناقات مرورية، شارع الملك فيصل، الذي يعاني من الزحام الشديد عشية ونهارا، كانت السيارة الميكروباص تمرق فيه كما يمرق السهم في الرمية.

في وسط البلد كان الجو يذكرنا بالقاهرة في الثلاثينيات، والتي شاهدناها في أفلام الأبيض والأسود.. كانت هناك مظاهرة حاشدة بنقابة المحامين، وسط حصار أمني كثيف.. الأمن كان موجودا في الشوارع بكثافة بشكل ذكرني بمشهد بغداد ليلة السقوط.

عمال المحلة لم يخضعوا للصفقات المشبوهة، التي كانت تسعي الي تقديمهم علي أنهم انتهازيون باعوا القضية، وباعوا القوي الوطنية التي انحازت لهم في مطالبهم، التي هي مطالب الشعب المصري كله. لقد اضربوا وتظاهروا، وتم الاعتداء عليهم بالهراوات والقنابل المسيلة للدموع، فما وهنوا لما أصابهم، وما استكانوا!.

إنه المصري عندما يغضب، ومصر هذه الأيام غاضبة، وقديما قيل: إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلا بد ان يستجيب القدر.

اجمالي القراءات 12594