مناقشة فكر و تاريخ المعتزلة
المعتزلة -4-

عمر أبو رصاع في الجمعة ٢١ - مارس - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

الحلقة (1) www.ahl-alquran.com/arabic/show_article.php
الحلقة (2 )
www.ahl-alquran.com/arabic/show_article.php

للحلقة (3) www.ahl-alquran.com/arabic/show_article.php

 

الحلقة الرابعة

 

مراجعة تاريخية لمسألة الإرجاء و الجبر و الاختيار في التراث العربي الاسلامي

 




ربما يتحرج الدارسون في مسائلة استقصاء جذور الفكر العربي الاسلامي و مواقفه العقيدية من ولوج مناطق البحث التي تتصل ببنية تاريخية تم للأسف أسطرتها في وعي الأمة و صارت جزء من الدين نفسه ؛ ذلك أن هذا النوع من البحث سيقودنا إلى نسب تلك الجذور لمواقف و آراء و سلوك شخصيات عربية اسلامية لها قدم السبق و تحظى بتقدير قد تجاوزنا فيه كأمة حدود المعقول إلى مستوى التقديس ، فصار وعينا للتجربة التاريخية وعياً مؤسطراً و معاد أدلجته.


إن هذا الحرج يرتفع إذا ما أخذنا درس القوم في اطارهم الزمكاني (الزماني المكاني) ، فلا نحملهم ما لا يحتملون من ناحية بالحكم عليهم بمقياس عصرنا و من ناحية ثانية بمطالبتهم مفارقة طبائع الجنس البشري و ما يأتي منها من احكام و رغبات و شهوات و إصابة و خطأ ، و لا اريد ان استرسل في هذا فأخرج عن الموضوع لكن لعل من المفيد ان نتذكر معاً أسلوب مسلسلاتنا في تناول الشخصيات التاريخية (اسلوب الابيض و الاسود اما ابيض لا يخطئ و اما اسود لا يفعل إلا خطأ). 

(*) عود إلى نشأة القول بالإرجاء
الإرجاء لغة من التأخير ، و في اللسان : أرجأ الأمر : أخره .... و المرجئة صنف من المسلمين يقولون : الإيمان قول بلا عمل.(1) و في القرآن قال : { قالوا أرجه و أخاه و أرسل في المدائن حاشرين}(2)
و قال :{ ترجي من تشاء منهن وتؤوي اليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك ادنى ان تقر اعينهن ولا يحزن ويرضين بما اتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما} (3)
و بوضوح قوله : { و آخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم و إما يتوب عليهم و الله عليم حكيم } (4)
و قوله : { ولله ما في السماوات وما في الارض والى الله ترجع الامور }(5)
و قوله { ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء انما امرهم الى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون } (6)

إذن فالكلمة موجودة في النص القرآني و بمعنى التأخير ، و قد انصرفت فكرة الإرجاء إلى القول بالفصل بين الايمان و العمل ، الإيمان باعتباره التصديق و اليقين عند الانسان و العمل باعتباره سلوك و عبادة و غير ذلك ، فلا تنفي المعصية الإيمان و عليه يجوز ان يكون الانسان مؤمناً و عاصياً في آن معاً.

الرأي عند المرجئة انه لا سبيل إلى الحكم على ما يؤمن به الانسان فعلاً من خلال عمله فقد يظهر سلوكاً ايمانياً و يضمر العكس و قد يبدو من سلوكه المعصية و في قلبه الإيمان ، وعليه فإنه عند المرجئة طالما أن الإنسان اظهر القول بالايمان فليس لنا عليه سبيلاً و يرجئون الحكم على ايمانه و عمله إلى الله وحده.

نجد ان أبا موسى الاشعري عدد من فرق المرجئة أثنتي عشرة فرقة هي : الجهمية و الصالحية و اليونسية و الشمرية و الثوبانية و النجارية و الغيلانية (اتباع غيلان الدمشقي) و الشبيبية و الحنفية (اتباع ابي حنيفة النعمان) و المعاذية و المريسية و الكرامية. (7)


لعل الارجاء كفكرة قديم قدم الدين نفسه ، فكما هو معلوم فهم النص الديني ليس مقطوعاً لفهم واحد بل هو خلافي منذ البداية ، نسب لعثمان بن عفان الأموي و هو ثالث الخلفاء مقولة شهيرة تكشف رأياً ارجائياً و قولاً بتسير الانسان ايضاً إذ قال لمن طالبه بخلع نفسه في الثورة التي قامت عليه : " لا اخلعن قميصاً قمصنيه الله".

إلا ان الإرجاء الذي نشأ اولاً كموقف رافض للربط بين الايمان و العمل و تأخير الحكم على مرتكب الكبيرة إلى الله يوم القيامة و ان "العمل ليس من اركان الايمان" (8)، تبلور كموقف عقدي رسمي في عهد الدولة الأموية على يد خلفائها و فقهاء خلفائها لتبرير ان المفاضلة ليست بالتدين و لا بالعمل الديني و ان الحكم على ايمان انسان و عمله به لله و ان ما تجري به الدنيا من حوادث انما هو ما اراده الله ، الدولة الاموية التي بدأت بمعاوية و اخرجت السلطة من يد منظومة العشرة القرشية التي اختارها عمر او من بقي منها إلى يد الاسرة الاموية على يد خامس خلفاء المسلمين ترتيباً معاوية بن ابي سفيان (20-60 هجري ، 603-680 م).
بعد ذلك ظهر الإرجاء كتيار سياسي معارض بل و ثوري ، و هذا امر يلتبس على كثير من المهتمين ، إذ يعلق دوماً بأذهانهم ان الارجاء مذهب ارتبط بالدولة فلماذا تعدم هذه الدولة رموزاًَ من أهل الإرجاء و تحاربهم؟!
هذا الارجاء الثوري جاء رداً على موقف الدولة الأموية حيال تراجع دخلها من الجزية التي تتحصلها من غير المسلمين ، فبفرض الدولة الأموية هيمنتها على اسقاع واسعة و دخول شعوب مختلفة تحت سلطتها توسع دخلها من الجزية التي تتحصلها من هذه الشعوب و لكن بدخول هذه الشعوب في الاسلام تراجع ما تحصله من الجزية ، و هنا أرادت دولة بني أمية أن تحد من هذا التراجع فوضعت شروطاً صعبة لترفع الجزية عن الداخلين في الاسلام ، و من هذه الشروط : الاختتان و إقامة فروض الدين و حسن الاسلام و قراءة سورة من سور القرآن ، تبدو هذه الشروط تعجيزية بالقياس إلى شعوب اعجمية و حديثة عهد بالدين ، من هنا ظهر الإرجاء الثوري كرفض لهذا التوجه الاموي الرسمي حيال الشعوب الحديثة العهد بالدين الاسلامي ، على منطق ارجائي كان لسان حالهم : ما دام هؤلاء يعلنون اسلامهم و ينطقون بالشهادتين فمالكم و عملهم ؟! الله يحكم على اعمالهم و ليس انتم فارفعوا عنهم الجزية.

ها هو واحد من اعلام الإرجاء الجهم بن صفوان (9) الرجل الثاني في ثورة الازد التي كانت بقيادة الحارث بن سريج و التي و قعت نحو سنة 116م (10) يذبح على يد عامل هشام على خرسان ، و قبله أعدم خالد القسري الجعد بن درهم و قال فيه مقولته المشهورة :" اذهبوا فضحوا اني مضح بالجعد بن درهم " و إذا كان ذبح الجعد أظهر على انه عقاب له على تزندقه لقوله بخلق القرآن و نفي الصفات الزائدة ، فإنه اي الجعد جبري ارجائي ، و لم يكن بالرجل الهين او الجاهل فالجعد كان مؤدباً لمروان الحمار آخر خلفاء بني امية الذي عرف ايضاً بمروان الجعدي نسبة لمؤدبه الجعد بن درهم ، و كان اختاره عمر بن عبد العزيز فولي الخزائن و كان خصيماً لبني امية مر به هشام و هو يبيع في مزاد علني املاك لبني امية و يقول فيهم انهم غصبوا الامر و ليس لهم منه شيء فوعد انه لو صار له الأمر لضرب عنقه و هذا ما كان فعلاً على يد خالد القسري عامله على العراق.

فعقيدة الارجاء عند بني امية كانت مقبولة طالما انها تبرر سيطرتهم على السلطة و طاعة الخليفة بغض النظر عن حاله ، أما ان يشوبها موقف يتناقض مع الدولة و سلطة الخليفة المطلقة فإنها تحارب و تصير كفر ما بعده كفر و لا بأس عند إذ ان يحارب الارجاء الارجاء.

يميز الخياط في الانتصار بين من سماهم من المرجئة بالنوابت (11) وهم على حد تعبيره "عثمانية تقول بالجبر و الارجاء" و من كانوا على شاكلة غيلان بن ابي غيلان الدمشقي ، سماهم الزبيدي ايضاً بالحشوية ممن لحقوا بمعاوية بالشام بعد ان ظفر و صار له الامر (12).

كما نرى فإن الارجاء الأول هو غير الإرجاء الثوري الثاني لهذا تجد ان الارجاء الأول تلازم مع القول بالجبر و الارجاء الثاني شابه القول بالاختيار و مسؤولية الانسان عن افعاله ، بل ان هذا ادى لخلط كما يرى أحمد امين في هذه المرحلة فسمى البعض هذا الاتجاه الارجائي "معتزلة المرجئة"(13) ، الحق اني اردت التقديم بهذا كله لابين ان تيار الارجاء بعامة لا يتسم بوحدة العقيدة في مختلف المسائل بل هو تيار ممتد عبر تاريخ المسلمين تنوعت مواقفه الاعتقادية من اليسار إلى اليمين ، و لا شك ان التيار الارجائي لا زال له إلى يومنا هذا حضور في الفكر العامي عند العرب المسلمين و يميل اكثرهم إلى الفصل بين الايمان و العمل و يقبل معظمهم بايمان من لا يدل عمله على هذا الايمان بإعلانه الاسلام و تصديقه بالرسالة وهذا ايضاً موقف عموم اهل السنة و الجماعة من اتباع المذاهب الاربعة ، و هي قضية غير الجبر ، الذي كان عقدية نشرتها الدولة عبر القرون لتبرر لنفسها الهيمنة على السلطة بوصفها ارادة إلهية و هذا ما جعل العقيدة الاشعرية كما سبق و اشرنا و هي العقيدة الكلامية الرسمية للدولة تدافع بقوة عن الجبر و ان كان بأسلوب كلامي تمويهي عبر نظرية الكسب و تشنع على المعتزلة و القدرية ممن قالوا بالاختيار و خلق الانسان لافعاله بل و تنتحل إليهم موضوع الحديث فتصفهم بأنهم مجوس الأمة.

إذن فالجبر قضية ظهرت منذ المرحلة الأولى للصراع الاسلامي و هو قول شجعت السلطة عليه ؛ تبريراً لسلطتها ناهيك عن الارجاء ، و إذا كان من اشتق الاختيار من العدل كثير ممن سبقوا المعتزلة فتنسب المراجع القول باختيار الانسان قبل المعتزلة كذلك لغيلان الدمشقي و معبد الجهني و الجهم بن صفوان فإن القضية لم ترتدي بعداً عقائدياً واضحاً إلا عند المعتزلة قبل سواهم حيث لا يستقيم عندهم جبر و ارجاء معاً و ينتسل الاختيارو خلق الانسان لافعاله مباشرة من العدل الإلهي و نفي شبهة الظلم عن الله.

بل ذهبت المعتزلة ابعد من ذلك فعقيدتها التي تقوم أساساً على العدل و التوحيد و تشتق أصولها الاربع الأخرى كما يرى القاضي عبد الجبار من العدل بالذات و تعتبر مسؤولية الانسان عن افعاله و خلقه لها القضية الجوهرية الاساسية المشتقة من العدل كما سبق و اشرنا ، لذا فإن المعتزلة منذ انطلاقتها اواخر القرن الأول مطلع القرن الثاني الهجري ، عدت كفرقة معارضة للدولة الاموية ، فالمعتزلة ربطت بين الجور و الاستبداد من ناحية و الجبر من الأخرى و كذلك بين الاختيار و خلق الانسان لافعاله من ناحية و الحرية من ناحية أخرى (14) و جعلت الامر بالمعروف و النهي عن المنكر من أصولها الخمس ، بل تصل القراءة السياسية منتهى نضجها عند المعتزلة في مسألة الارتباط بين الموقف من الدولة و الاختيار الحر للانسان، فتجب اذن محاربة السلطة المغتصبة ؛ فوجودها نتاج فعل بشري الله بريء منه و اسقاطها كذلك يتم بفعل بشري لانسان حر في اختيار افعاله مسؤول عنها (15).

من جانب آخر اشتغل المعتزلة كثيراً في الرد على المطاعن في الاسلام و كانت كثيرة تحت تأثير الاديان و المعتقدات و الفكر القادم من الشرق من فارس و الهند بالذات ، و كان من اشد مهامهم الدفاع عن العدل الإلهي و مسألة الاختيار الانساني هذه بالذات.

مما لا يشار له كثيراً الانتشار الواسع الذي كان لافكار المعتزلة في اسقاع اراضي الدولة و بشكل خاص بين المثقفين منهم ، يروي المسعودي مثلاً ان الخليفة يزيد بن الوليد بن عبد الملك (16) كان مؤمناً بأصول الاعتزال الخمسة حتى انشد احد خصومه من بني امية : 

ساد الناقص القدري فينا و القى الحرب بين بني ابينا 

لقد حرص جهاز الدولة الأمية منذ بداية التدوين و الارهاصات الأولى لحركة الفكر العربي الاسلامي على توظيف امكانيات الدولة للتصدي للقول بحرية الانسان و خلقه لافعاله و مسؤوليته عنها ، هذا دور لعبه الزهري في بلاط عبد الملك بن مروان في وقت مبكر و المعلوم انه افتى عبد الملك بدماء القدرية كما روى عبد القاهر البغدادي(17) ، و هو ذات التوظيف الايديولوجي الذي جعل آلة الحديث الناشطة في عهد بني امية تنتج أحاديثاً تتغنى بمكانة و فضل معاوية بن ابي سفيان لدرجة ان البخاري وجد منها ما أفرده باب كامل سماه "ذكر معاوية بن ابي سفيان رضي الله عنه" اورد فيما مما أورد قول نسبه للرسول الكريم نصه (الأمناء عند الله ثلاثة أنا و جبريل و معاوية)(18).

سنتوسع في ملحقنا حول الحركات الثورية و السياسية للمعتزلة و نكتفي هنا بهذا القدر حول الخلفية التاريخية لمسألة الاختيار على اننا بالضرورة سنرجع في غير موضع لهذه النقطة خاصة عندما نتناول الجوانب التاريخية و السياسية و سنناقش ايضاً في ملحقنا مسألة كلامية مهمة عند المعتزلة و حساسة و مشكلة عويصة هي (الاختيار و العلم الإلهي) .
ننتقل في الحلقة الرابعة إلى ثاني الأصول التوحيد.

يتبع



(*) سيلزمنا الكلام على الارجاء ايضاً عند الحديث عن أصل المنزلة بين المنزلتين و الوعد و الوعيد
(1)ابن منظور - لسان العرب – ط3-1994-ص83-84 تحت حرف الهمزة أوله راء.
(2) الاعراف - الآية 111 .
(3) الاحزاب - الآية 51 .
(4) التوبة - الآية 106 .
(5) آل عمران - سورة 3 - آية 109 .
(6) سورة الأنعام - سورة 6 - آية 159 .
(7)الاشعري – مقالات الاسلاميين –ط استانبول – 1929 - ج1 – ص 213-223 .
(8)أحمد أمين - ضحى الاسلام - ج3 - ص317 .
(9) الجهم بن صفوان : رأس الجهمية المرجئة ، اشتغل بعلم الكلام و قال بخلق القرآن و نفى الصفات و الامر بالمعروف و النهي عن المنكر و البغي، و قال بالارجاء و وقف فيه موقفاً ثورياً كما قال بمسؤولية الانسان عن افعاله على خلاف الجعد بن درهم الذي كان جبرياً ، اصله من خرسان و قيل سمرقند نسب إليه تأثره بالجعد بن درهم اول من نسب إليه نفي الصفات و خلق القرآن ، قتله عامل هشام على خرسان بعد فشل ثورة الأزد التي كان من قياداتها سنة 128 للهجرة .
(10)للتوسع انظر :
*جلال الدين القاسمي – تاريخ الجهمية و المعتزلة - ط القاهرة ص7-9
* تاريخ الطبري ج8 ص 35، 196-197.
* المستشرق فان فلوتن – السيادة العربية و الشيعة و الاسرائيليات – ط القاهرة – 1965-
ص 53-55 ، 65 ، 67 .
* د. محمد عمارة – تيارات الفكر الاسلامي –ط2-القاهرة - دار الشروق 2007 ، ص 35-43) .
(11) الخياط المعتزلي - الانتصار في الرد على ابن الراوندي الملحد ص-156 .
(12) الزبيدي - معجم تاج العروس - مادة نبت - ص589 .
(13) أحمد أمين - ضحى الاسلام - ج3 ص 322 .
(14) القاضي عبد الجبار - المغني في ابواب التوحيد والعدل - ج8-ص4 و ما يليها.
(15) انظر بهذا المعنى و هذا العمق : المرتضى : المنية و الأمل - ص 6 و ما بعدها
(16)المسعودي: مروج الذهب - ج 6 - ص 32 .

(17) عبد القاهر البغدادي : أصول الدين ، ص 307.

(18) صحيح البخاري - باب ذكر معاوية بن ابي سفيان رضي الله عنه

اجمالي القراءات 16941