( قل أفغير الله تأمرونى أعبد أيها الجاهلون ؟ )
الصحابة فى القرآن الكريم

آحمد صبحي منصور في الإثنين ١٧ - مارس - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

الحلقة الأولى

أولا :
ـ هناك ثلاثة انواع من الجهل .. الجهل الانسانى العام ، و الجهل المتعلم ( بفتح اللام ) و الجهل المتدين .

*الجهل الانسانى العام يشترك فيه البشر جميعا ولا يخلو منه انسان مهما بلغ علمه ، فلا يستطيع أى إنسان أن يحيط بأى شىء علما ، فالعلم المحيط هو لله جل وعلا وحده .
غاية ما يعرفه العالم المتخصص أنه مهما بلغ علمه فى مجال تخصصه فهو يدرك أنه لا يزال على ساحل المعرفة وما أوتى من العلم إلا قليلا ، وأنه كلما إزداد علما فى تخصصه إزداد إدراكا بقلة ما يعرفه وكثرة ما يجهله . الاعتراف بالجهل العام هو الصفة الأولى لأى باحث ، لذا ترى الباحث الحقيقى ساعيا وراء الحقيقة لينير بها جوانب من الجهل الانسانى العام الذى بداخله.

*وهناك صناعة للجهل تقوم بها اجهزة التعليم و الاعلام ، حيث يخضع العلم للتوجيه السياسى ، وحيث تسيطر الرقابة على المعلومات فلا يعرف الناس سوى بعض الحقائق او أنصاف الحقائق ، ثم تقوم أجهزة التعليم بتنشئة الطلبة على الحفظ و التلقين دون الابتكار والتجديد والنقاش الحر فيتخرج الطالب وقد عرف رأيا واحدا يرى انه الصحيح وما عداه هو الخطأ، وتندرج كل الأمور فى عقله فى إطار واحد من إثنين إما وإما..وهذا ما عايشناه فى عصر عبد الناصر ، ولا نزال...
وهذا هو الجهل المتعلم ـ بفتح اللام ـ أى الذى تقوم أجهزة الدولة على تعليمه ليقدس الفرد الوطن ثم يتقزم الوطن فى الدولة ، ثم تتقزم الدولة فى الحكومة ، وفى النهاية يتقزم الوطن والدولة والحكومة فى شخص الحاكم المستبد الذى يقوم بتجسيد الوطن والدولة و الحكومة ، ويصبح انتقاده أو هجوه خيانة للوطن ، ويصبح من يكرهه الحاكم المستبد عدو الشعب ، وبالتالى تتركز هيبة الحاكم ، فلم يعد خادما للشعب بأجر يأخذه من الضرائب التى يدفعا الشعب بل يصبح الاها للشعب فلا نقترب منه إلا بالرهبة والخوف ، وحتى لو جرؤنا على الجهر بمعصية الله تعالى فلا يستطيع أحدنا الجهر بنقد الحاكم وجيشه واجهزته.
هذه هى مهمة التعليم والاعلام فى انتاج الجهل المتعلم ـ بفتح اللام.
* الأخطر من ذلك هو ما يحدث اليوم فى مصر ومعظم العالم العربى ، مما يطلق عليه (الجهل المتدين ) ، إذ سيطر الدين الأرضى السنى على الساحة ، وتعاون المسجد والأزهر مع أجهزة التعليم والاعلام و الثقافة وتحت مظلة الاستبداد و الفساد فى انتاج جيل تعلم الأكاذيب على الله تعالى ورسوله على انها هى الدين ، و تشرب الخرافة على انها القداسة ، و تكاثرت فى قلبه اشباح الآلهة الأرضية بدءا من الأنبياء والرسل و الصحابة والأئمة والأولياء ..هنا ترى الجهل المتدين .. وتتعجب حين تسمع شيخا ملتحيا يخطب باكيا دامعا وهو يسرد قصة خرافية لا يقتنع بها طفل فى العاشرة، لأن عقل هذا الشيخ الوقور قد تجمد عند سن الرابعة او الخامسة ، بينما نما جسده و تكاثفت لحيته، وتراه قد انطبق عليه قوله تعالى عن المنافقين من الصحابة ، الذين تعجبك أجسامهم و تتعجب من قلة عقولهم (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ) ( المنافقون 4 )، أى أجسام بلا عقول فأصبحت مثل كتل الخشب المسندة على الحائط .
هذه الأجساد فارغة من العقول الناقدة الحية ، لأن المساجد والأزهر والتعليم والاعلام قام بتغييب العقل فى تلك الأجساد وقام بحشوها منذ الصغر بأكاذيب وخرافات تؤكد تقديس البشر و الحجر .
ثانيا :
فى هذه العقلية التى تتمتع بالجهل المتدين بالدين الأرضى نرى الخلط بين الحقائق المطلقة(فى الدين السماوى والتى جاءت فى القرآن الكريم ) والحقائق النسبية فى التاريخ و ما توارثناه من أخبار السابقين.
ولأن العادة فى الدين الأرضى أن يتحول تاريخ البشر المقدسين الى دين فان تاريخ الصحابة قد تحول عندهم الى دين صار فيه الصحابة ذواتا معصومة من الخطأ ـ أى مقدسة مطهرة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها .
ومع وجود القرآن الكريم محفوظا من لدن الله جل وعلا فان تحول تاريخ الصحابة الى دين قد أصبح يمثل مشكلة لهم، لأن ما جاء فى القرآن الكريم يقطع بأن الصحابة بشر مثلنا فيهم الصالح والطالح . أكثر من هذا فإن تاريخ الصحابة نفسه يقطع بمخالفته للقرآن الكريم بعد موت النبى محمد عليه السلام ، بل كانوا فيه أئمة لنا فى الاعتداء و الظلم والفتن والحروب الأهلية والصراع على السلطة و استغلال الاسلام فى المطامع الدنيوية . وهذا لا ينسجم مع مزاعم العصمة و التقديس و العدالة التى أضيفت اليهم.
على أنها مشكلة عايشها الصحابة انفسهم فى بداية الدعوة ، حين كانت قريش فى عنفوانها تمارس ضغطها على خاتم النبيين عليه السلام بتخويفه من غضب آلهتهم البشرية والحجرية ، فقال تعالى له (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ) ( الزمر 36) ، وبالاضافة للتخويف من (الاعتراض على الأولياء خشية المقت والتعرض لتصريفهم وكراماتهم ) فان قريشا لجأت الى الأمر المباشر للنبى بان يعبد تلك الآلهة مع الله جل وعلا على اعتبار انها تقربهم الى الله تعالى زلفى (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ) ( الزمر3 ) .
وهو جهل هائل أن تتمسك بتقديس بشر مثلك على الأرض يسعى ويصيبه الامساك والاسهال و البلهارسيا ، أو يكون قد مات وتحول الى تراب ، ولذلك أمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم بقوة قائلا (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ؟!!)( الزمر 64 ) وبنفس القوة حذره ربه جل وعلا من ان يستجيب لهم فلو فعل لأحبط الله تعالى عمله ولجعله من الخاسرين (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ )(الزمر 65 ـ ) .
الذى يهمنا هنا ان الله تعالى أشار فى قوله جل وعلا (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ؟!!) الى ارتباط الجهل بالدين الأرضى القائم على تقديس البشر و الحجر..أى الجهل المتدين ، والذى لا زلنا نعانى منه خصوصا فى موضوع الصحابة وتقديسهم واعتبار تاريخهم دينا لا يقترب أحد منه إلا بالتقديس و التحميد ، فاذا انتقدهم وعاملهم كبشر ـ أى بدون تقديس ـ لاحقته الاتهامات واللعنات والتخويف والتخريف . هنا عليه أن يستن بالسنة الحقيقية للنبى محمد عليه السلام ، وهى التمسك بالقرآن ، ويقول ما أمر الله تعالى نبيه الكريم أن يقوله ؛ أى أن يقول لهم (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ) ويقول لهم : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ) .
ثالثا :
1 ـ ومن مظاهر الجهل المتدين فى موضوع الصحابة الخلط فى فهم القرآن الكريم بين الصفات والأسماء التاريخية .
فالقرآن الكريم لم يذكر عن الصحابة سوى صفات ، وهو منهج القرآن الكريم العام فى القصص ، ونادرا ما يذكر اسما ، وعندما يذكر إسما فانه يتحول الى رمز أى صفة ذات دلالة على معنى هام مقصود فى السياق القرآنى . فمثلا : ذكر الله تعالى اسم والد ابراهيم (آزر ) واسم عم النبى محمد ( ابو لهب ) لأنهما تحولا الى رمز يؤكد أن القرابة لا صلة لها بالهداية . وعندما ذكر اسم (زيد ) أى من نعرفه فى كتب التاريخ بزيد بن حارثة ـ فان (زيد ) ما لبث أن اصبح شائعا فى الاستعمال اللغوى دليلا على أى شخص ، وأصبح عاما فى الاستعمال العربى والنحوى أن تقول ( ضرب زيد عمرا ) أو ( قال زيد ) حين تتكلم عن شخص مجهول أو رمز ، بمثل ما فى الثقافات الأخرى من تخصيص اسم معين ليدل على شخص مجهول أو على ( فلان ).
( زيد ) هذا هو المذكور فى موضوع التبنى (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ) ( الأحزاب37 ) ـ وهو تشريع بالغ الدلالة اجتماعيا وعقديا ـ وعداه فلا يوجد اسم آخر لأى ممن عاصر النبى محمدا عليه السلام ، سوى بالوصف .
وعادة ما يأتى الوصف ليدل على المجموع كالمنافقين و المشركين و المؤمنين و المرجفين والسابقين و الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا .
وأحيانا يأتى الوصف ليدل على واحد فقط من الصحابة ، كقوله تعالى عن أحد الضالين فى المدينة (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( المنافقون 11 )، وكقوله تعالى عن رفيق النبى محمد عليه السلام فى الغار (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) ( التوبة 40 ).
هنا يقع الخلط لدى المصابين بالجهل المتدين . إذ أنه فى موضوع الايمان يجب أن نؤمن بقوله تعالى (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) دون أن يدخل فى ايماننا من هو ذلك الشخص المعين الذى يقصده الله تعالى . وأن نؤمن بقوله تعالى (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) دون ان يتضمن إيماننا أن صاحب النبى فى الغار هو فلان بالتحديد . هذه هى دائرة الايمان . أما إذا دخلنا الى دائرة العلم فالتراث يقول لنا ان الأول هو عبد الله بن أبى كبير المنافقين ، وأن الثانى هو أبو بكر الصديق. وإذا هب احدهم وقال شيئا مخالفا فان ذلك لا ينقص شيئا من إيمانه ـ ولكن ينقص الكثير من علمه . هذا هو الفارق بين دائرة الايمان ودائرة العلم .
هنا يقع الجهل المتدين فى خطأ الخلط بين هذا وذاك ..إذ يجعل من حقائق الايمان أن أبا بكر هو الصاحب فى الغار ـ وأن من أنكر هذا فقد أنكر معلوما من الدين بالضرورة وأصبح كافرا ، وبالتالى تتحول أخبار التاريخ الى حقائق ايمانية ضمن عادة الأديان الأرضية التى تجعل تاريخ البشر المقدسين لديها دينا.
2 ـ ونعطى نماذج أخرى من مظاهر هذا الجهل المتدين .
هم حين يدافعون عن كبار الصحابة يجعلونهم السابقين المقصودين بقوله تعالى (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة 100 ) مع ان ألاية تتكلم عن السبق فى العقيدة و العمل الصالح وليس على السبق الزمنى أى كون فلان أول من آمن أو ضمن العشرة الأول الذين آمنوا سابقين غيرهم. الآية تتحدث عن السبق فى العمل الصالح القائم على عقيدة ايمانية ، بدليل أنها ـ نفس الآية ـ الحقت بهم كل من يتبعهم فى السبق بالايمان و العمل الصالح حتى يوم القيامة. وهناك أدلة أخرى منها أن الله تعالى وحده هو الأعلم بحقيقة ايمان الناس ومنهم الصحابة ، والآية التالية تقول للنبى محمد عليه السلام عن بعض أصحابه (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ) ( التوبة 101 ) أى فهناك منافقون أدمنوا النفاق وهم حول النبى و النبى لا يعلم شيئا عن مكنون قلوبهم ، لأن الله تعالى وحده هو الأعلم بما تخفى الصدور ، وهو القائل للنبى ومن معه ولكل الناس (وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ) ( النساء 25 ) . وإذن فهو وحده جل وعلا صاحب الحق الوحيد فى معرفة من هم السابقون ايمانا وعملا بين الصحابة. ومن يزعم أنه يعرف مكنون قلوب الصحابة فقد ادعى الالوهية دون أن يدرى لأنه لا يعلم الغيب سوى الله جل وعلا (قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ) ( النمل 65 ).
المصابون بالجهل المتدين يقعون فى هذا الاثم حين يحكمون أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم الخلفاء الأربعة ومن أسموهم بالعشرة المبشرين بالجنة وبقية كبار الصحابة المذكورين فى كتب التاريخ والتراث. وبالتالى يجعلون كلام الله تعالى فى القرآن الكريم خاضعا للتاريخ المكتوب ، ضمن الخبل المعتاد الذى يجعل التاريخ دينا.
وبمراجعة سريعة لتاريخ المسلمين خلال نصف قرن ستجد أن الأمويين كانوا أعمدة الحرب ضد الاسلام طيلة حوالى ثلاثين عاما ، ثم أضطروا للاسلام قبيل موت النبى محمد ، وبعده ما لبثوا ان تحكموا فى المسلمين وجعلوهم يتجهون للفتوحات ثم الفتنة الكبرى ، لينتهى الأمر بقيام الدولة الأموية التى قهرت ملايين الناس من المسلمين وغيرهم . لم يكن هذا سهلا ، بل سالت من أجله دماء الملايين خلال نصف قرن فقط من الزمان فى سبيل هذا التطاحن على الدنيا باسم دين الله جل وعلا. والتاريخ هو الذى يسجل مسيرة صناع الدول و الحكام و المنغمسين فى السياسة ، والسياسة التى تطمح وتطمع فى الوصول للحكم بالخداع واستحلال الدماء. وهذا ليس من سمات السابقين فى الاسلام بل من صفات السابقين فى العدوان . وهكذا تجد هناك فجوة هائلة بين العظماء فى التاريخ من الحكام و القادة ، والعظماء فى الايمان والعمل الصالح ، وبعد الأنبياء فاننا لا نعرف أسماء العظماء من الصنف الأخير ـ أى من السابقين فى الايمان و العمل الصالح .
ويوم القيامة قد نفاجأ بأن بعض من كنا نحسبهم من كبار الصحابة كانوا هم المقصودين بقوله تعالى (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ) .
3 ـ ولمزيد من التفاصيل نقول :
ليس فى القرآن أسماء كبار الصحابة مثل ابى بكر وعمر و عثمان وعلى و عبد الله بن الزبير و طلحة بن عبيد الله و ابى هريرة و عمرو و سعد بن أبى رقاص و عبد الرحمن بن عوف ..ألخ .. ولم يقل القرآن ( يا أيها الذين آمنوا ان ابا بكر هو الصديق ، وهو صاحب النبى فى الغار ) ولم يقل ( يا أيها الذين آمنوا ان عمر هو الفاروق الذى ينطق الوحى بلسانه ) ولم يقل ( يا أيها الناس ان عثمان هو ذو النورين ) ولم يقل ( يا أيها الذين آمنوا أن عليا بن أبى طالب هو من كرّم الله وجهه ، و هو الوصى ) ولم يقل ( يا ايها الذين آمنوا ان الزبير بن العوام هو حوارى رسول الله ) ولم يقل (إن اسماء بنت أبى بكر هى ذات النطاقين ) ولم يقل عن اختها السيدة عائشة (يا ايها الذين آمنوا خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء ).
ليس هذا فى القرآن الكريم ، وربما لولا حفظ الله تعالى لكتابه العزيز لأدخلوا فيه تلك الأحاديث وأكثر منه مما تحتويه كتب المناقب من مبالغات وخرافات فى مناقب كبار الصحابة ، وما يتبارز فيه السنة و الشيعة فى تعداد مناقب هذا وذاك .
ولأنه ليس فى القرآن أى إسم من تلك الأسماء فان كل هذه الشخصيات لا تعد جزءا من الايمان والعقيدة. هى فقط جزء من تاريخ المسلمين .
وعليه فاذا قلت بأعلى صوتك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلى وعائشة وغيرهم ليسوا جزءا فى دين الاسلام فأنت حينئذ تعبر عن حقيقة من حقائق الاسلام . وأنت صادق تماما فيماتقول لأن الاسلام هو القرآن فقط ، وليس أولئك مذكورين فى القرآن .
ولكن إذا قلت أن أولئك الأشخاص جزء من تاريخ المسلمين المكتوب فأنت صادق لأنهم أعلام فى تاريخ المسلمين المكتوب، ولو أنكرت ذلك فهنيئا لك بالجهل .
على أن التاريخ الحقيقى للمسلمين لا يعلمه الا الله تعالى ، وسنعرفه يوم القيامة حين يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ( الزلزلة 6 : 8 )، وليس لنا أن نتحدث عنه لأنه غيب لا يعلمه الا الواحد القهار جل وعلا. ولا يعلم حقيقته إلا الذى يعلم السر و ما تخفيه الصدور ، والذى هو قائم على كل نفس بما كسبت ، والذى هو على كل شىء شهيد. انه رب العزة جل وعلا وحده.
التاريخ المكتوب للمسلمين ليس دينا ـ هو فقط عمل بشرى ، فيه الخطأ والصواب ، وقد تمت كتابته بعد حدوثه ممتلئا بالروايات المتضاربة المتناقضة ، بسبب الخلاف المذهبى بين الشيعة و السنة ، وهناك منهج تاريخى لبحثه ، وما يصل اليه اى باحث هو أحكام نسبية تدخل فى إطار العلم وليس الدين ، وما يقوله أى باحث هو خطأ يقترب من الصواب ـ أو صواب يقترب من الخطأ ، أو هو خطأ تام ، والعبرة بما يمتلكه من أدوات البحث والاجتهاد وما لديه من ابداع و ملكة بحثية و سعة اطلاع مع نزاهة وموضوعية ، ومهما أوتى من كل ذلك فما يقوله هو مجرد تخمين لأنه يبحث خلال روايات كتبها من لم يكن شاهدا على الأحداث ، وحتى لو كان شاهدا على الأحداث وكتبها من واقع المشاهدة و المعاينة فهناك شك فى صدقيته وحياده ونزاهته. أى يبقى دائما أن التاريخ المكتوب و البحث التاريخى القائم عليه هى وجهات نظر تقع فى دائرة الظن و التخمين ، وبالتالى فمجالها العلم وليس الدين لأن الدين قائم على الاعتقاد واليقين والحقائق المطلقة التى أوحى الله الله جل وعلا بها فى القرآن الكريم.
وبالتالى إذا جاء أحد المصابين بالجهل المتدين وقال ان السابقين فى الاسلام المذكورين فى سورة التوبة هم أولئك الأشخاص من كبار الصحابة فى كتب التاريخ فهو فى حاجة ماسة للنصيحة ، فهو لم يعش عصر الصحابة ، ولم يصاحبهم ، وهو حتى لو كان مصاحبا لهم فى عصرهم فلم يكن مطلعا على ما فى قلوبهم ، وهو ليس أعظم من النبى محمد عليه السلام الذى لم يكن فى حياته يعلم ما فى قلوب أصحابه المحيطين به. والمصيبة التى اوقع نفسه أنه زعم ـ دون أن يدرى ـ الألوهية وجعل نفسه فوق مكانة النبى محمد عليه السلام.
من هنا وجب علينا أن ننصحه. فاذا استمر فى عناده فليهنأ بما وضع فيه نفسه ، حيث سيندم وقت لا ينفع الندم.
والمزيد فى الحلقات القادمة حيث نقدم قراءة قرآنية لبعض ملامح أولئك (الصحابة )..

اجمالي القراءات 20801