السبب الحقيقي لنكبة فلسطين
جدتي

دعاء أكرم في الأربعاء ٢٦ - سبتمبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

1- جدتي، جاوزت الثمانين من العمر. تنتشر في وجهها أخاديد العمر الطويل وتنطلق ضحكتها لدى سماعها طرفة، ثم تعود إليها ملامح من الحزن فترجع  طفلة يتيمة الأب في التاسعة من عمرها،  زوجها إخوتها لشاب من الأقارب (جدي) كان في الثالثة أو الرابعة عشر من العمر. نامت الصغيرة عند حماتها سنتين أو ثلاث حتى بلغت ثم انتقلت إلى غرفة زوجها الذي أخذ مؤخرا شهادة "الابتدائي" من الأزهر في ذلك الوقت.

في مطلع القرن العشرين كان الفقر والعيشة "ع البَرَكة" سمة سائدة في فلسطين، فرغم وجود إقطاعيين وتجار وقلة متعلمة، ورغم وجود عائلات تملك  أراض واسعة في مختلف المناطق إلا أن عمل ملاك الأرض من  الرجال والنساء جنبا إلى جنب في الزراعة كان هو السائد، ولكن....

كان على النساء أن يبدأن عملهن من قبل صلاة الفجر، القيام بأعمال الخبز، والغسيل، وتحضير الفطور، وتنظيف السفرة بعد الأكل، والغسيل، وتنظيف المنزل، الخياطة وتحضير الشاي، والأطفال (إما للذهاب إلى المدرسة البعيدة أو الانطلاق للعمل في الأرض مع آبائهم وأمهاتهم وأقاربهم). ثم تحضير "الزوادة" قبل الانطلاق جماعات إلى الأرض لمساعدة الرجال الذين سبقوهم بعد الإفطار مباشرة.

تقول جدتي أنهن كن يعملن إلى وقت غياب الضوء، ثم يعدن مرهقات إلى المنزل (مع أطفالهن ممن عادوا إلى المدرسة أو ممن يعملون أصلا في الأرض) ليستكملن الأعمال المنزلية، في حين يجلس الرجال للسمر والسهر.

كانت الصغيرة اليتيمة ربيبة حماتها تنهر وتضرب أحيانا عندما "يفور" دم الشاب الأزهري التعليم، "يا ناقصات العقل والدين" كان شعاره دوما (وإلى الآن، وإن جاوز التسعين).

لم تكن حماتها أما حنونا للطفلة الصغيرة. بل كان يطيب لها أن تؤجج صدر زوجها وابنها على تلك الطفلة. فيضرباها.

كان الشاب الأزهري المتدين يمنع زوجته من حضور أي مناسبة اجتماعية من أعراس أو غيرها وذلك لدى العودة إلى المدينة في مواسم انتهاء الزراعة. وكانت العائلة الكبيرة تعيش في منزل فسيح متعدد الغرف، خصصت غرفه لكل زوجين وأطفالهما.

حدث أن عقد قران وحفلة العرس في ذلك المنزل، فأصر الشاب على أخذ زوجته الصغيرة بعيدا "عن معازف الشيطان" ، ويتجه بها إلى أرضهم. ويتركها هناك يوما كاملا إلى حين انتهاء "كلام النسوان الناقصات" أي حفلة العرس. وطوال الطريق، كان يهتف، "تريدين الذهاب؟ تريدين حضور الحفل؟" فتجيب المسكينة بغضب غلفه الحزن "لا أريد أن أحضر شيئا ولا أرى أحدا!" فيسخر منها طوال الطريق.

لاحقا في تلك الأمسية، أصر والد الشاب أن ترجع جدتي إلى المدينة كي تحضر الحفل فهو لأحد الأقارب المقربين ولا يجوز أن لا تحضر. غضب غضبا شديد،ا ولكن لم يخرج عن طوع أبيه. أمرها أن تخرج أمامهم وكان الوقت بعد العصر، فسارت، وبعد قليل تنبهت أن لا أحد وراءها وكانت العتمة آخذة بالزحف!!

هي تعرف الطريق، لكن المكان موحش. ورغم إعيائها تابعت المسير، ووصلت مشعثة مغبرة إلى بيت العائلة لتجد العروس مزدانة بزينتها، والسيدات والصبايا يحطن بها ويغنين ما طاب لهن.

عندها تلقفتها بعض القريبات، ولدى سماعهن بما حصل انطلقن في الدعاء على ظلم الظالم بالدعوة المعروفة في فلسطين "الله يكسر جاههم الظلمة" والتي لا تزال ترددها أمهات الشهداء والمنكوبات إلى يومنا هذا.

طلبن منها الذهاب للاغتسال وتغيير الثياب وتمشيط الشعر كي تحضر الحفل، ولكن خوفها من زوجها تجاوز رغبتها الطبيعية في مشاركة النساء الفرحة. فاتجهت إلى غرفتها وأغلقت النافذة بشرشف سميك، وسدت الباب، ولم ترد على أي طارق لبابها حتى انقضى العرس.

حلفت بعدها جدتي أن لا تحضر أي مناسبة أو عرس، وقد برت قسمها، فهي إلى الآن لم تحضر هكذا مناسبة وإن كانت في عقر دارها.

2- أخبرتني جدتي عن ظلم الرجال نسائهم، فقد كانوا يصيحون بهم وقت الفجر أن "قمن إلى الصلاة يا ..." فيقمن دون مراعاة وجود حائض أو نفساء أو جنب بينهن. لم تكد الواحدة منهن تلد وتمر بضعة أيام، حتى كان يطلب منها الانطلاق إلى دورة الحياة اليومية في الأرض والبيت.

أخبرتني جدتي عن شقيقتها المتزوجة من أخي زوجها. كان الشاب مريضا وضعيفا لا يقوى على عمل الأرض، فطلب منها وهي العروس  أن تحل مكانه، فكان أن حرثت الأرض وزرعت وحصدت ورعت الشاه، وأنجبت وربت، وترملت وهي لم تتجاوز العشرين عاما. لا تزال هذه السيدة تعيش إلى الآن، وتتذكر وتدعو "يكسر جاهم البعدا" وهي أيضا من الدعوات الشائعة بين الأمهات الفلسطينيات إلى يومنا هذا.

3- كان الرجل يطلب زوجته فكان لا بد أن تجيب مهما كانت تفعل، وفي أي وقت، وإلا فغضب الله عليها ولعنة ملائكته والملأ الأعلى. وغني عن القول ماذا كان يعني ذلك لنساء لم ير فيهن رجالهن إلا متاع ، "يكسر جاهم الظالمين".

4- أخبرتني جدتي عن ضرب تلقته بسبب شقيقات زوجها وكيدهن للصغيرة الغرة. بل يقول البعض أن زوجها ضربها بعد أن جاوزت الستين لأنها عارضته في كلام له، فكسر لها سنين، ومن وقتها يتندر أبناؤهما على والدهم قائلين "الشيخ يحترم المرأة"--- "يكسر جاه الظالمين"

 5- حرمت جدتي تعلم القراءة، في وقت كانت متزوجة من الشاب الأزهري ابن الشيخ الذي يفتي للناس في شؤون دينهم ودنياهم معا. ولكن رغبة العلم فوق كل شيء عندها، فهاهي اليوم تجلس مع حفيدات لها ليعلمنها قراءة القرآن الكريم، لتجد متعة في ترتيل آياته بصوتها العجوز بعد كل هذه السنين.

وفي كل مرة تقص علي قصة ما، تدعو بجملتها المعهودة على ظلم الرجال،  أخبئ دموعي عنها، وتختم قصتها وهي تضحك وتقول "شو بدنا نعمل، هيك ربنا بده"!

الظلم ظلمات، لعل جاه الفلسطينيين قد كسر بالاحتلال بسبب دعوات النساء المقهورات من الرجال!!!

 6- وهي اليوم وقد بلغت من العمر عتيا، آخذة بالتمرد على الشيخ الكبير الجليل شيئا فشيئا، فتناقشه وتعارضه فيغضب منها، فلا ترضيه!

ملاحظة: رغم ذلك فالشيخ الجليل جدي ونحن نحبه جميعا وندعو له ولها بالصحة والعافية!

اجمالي القراءات 6238