الخاسرون والرابحون

هاني الدمشقي في السبت ٢٥ - أغسطس - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

انتهت فترة الإجازة الصيفية وعدت أدراجي إلى عملي بعد أن قضيت تلك الفترة مع الأهل والأصحاب , ولم أستطع متابعة كتابات الأصدقاء على الموقع خلال فترة الإجازة لبطء خطوط الأنترنت إلا ما ندر في مقاهي الإنترنت القليلة والمزدحمة بالزوار .
قال لي صديقي : انظر إلى هذا الكم الكبير من المصلين تمتلئ بهم المساجد في صلاة الجمعة , إنهم إنشاء الله من أهل الجنة . قلت : وما يدريك أنهم من أهل الجنة ؟ هل كل من صلى الجمعة يكون من اهل الجنة ؟ قال : ألم تسمع للخطيب كان يقول الجمعة إلى ال&Igre;جمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهما . قلت : ولكن الناس ما أن يخرجون من المساجد يعودون إلى تصرفاتهم اليومية التي اعتادوا ممارستها , فالبائع يحلف الإيمان المغلظة عن جودة بضاعته ويغش المشتري , والموظف يعود لتلقي الرشوة لكي ينهي معاملة المراجع دون وجه حق , وسائق التاكسي يحاول أن يقتنص من الراكب زيادة عما يستحق , وكثير مما يحصل في الحياة اليومية . قال : ولكن يعودون إلى صلاة الجمعة في الأسبوع القادم فيغفر الله لهم ما بين الجمعتين . قلت : الله سبحانه وتعالى يغفر لمن تاب واستغفر وندم ولم يعد لما كان يفعل إلا أن يرتكب خطأ ما خارج عنه دون اصرار وتصميم . ولكن أكثر الناس فهم أن حضوره إلى صلاة يوم الجمعة كمن يأخذ ملابسه إلى المصبغة لكي تعود بيضاء ناصعة , ثم يعود إلى توسيخها خلال عمله ليعود إلى غسلها يوم الجمعة القادم . قال : المهم أننا كلنا من أهل الجنة لطالما أننا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم , وطالما في قلوبنا مثقال حبة من خردل من الإيمان , وحتى ولو دخلنا النار فلن نمكث فيها إلا أيام معدودات ثم يخرجنا الله منها ويغسلنا في نهر الحياة وينبتنا من جديد وندخل الجنة بشفاعة النبي عليه الصلاة والسلام . فنحن مسلمون موحدون بلا إله إلا الله محمد رسول الله . والسابقون واللاحقون من أمة محمد إلى قيام الساعة هم من أهل الجنة إن شاء الله . فأكثر الناس هم من أهل الجنة . فقلت له : بل على العكس إن أكثر الناس هم من أهل النار وأنهم من الخاسرين . فقال : كيف تقول ذلك ؟ قلت : من كتاب الله ألم تقرأ سورة العصر ؟ تلك السورة العظيمة في القرآن الكريم , نقرأها في صلاتنا مرات عديدة دون النظر لما تحتويه من معاني كبيرة.
فقد بين الله جل وعلا فيها أن الإنسان صنفان فقط الخاسرون والرابحون ( وَالْعَصْرِ . إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) . فهي تبين أن الإنسان عموما خاسر . ( إلا ) وهي أداة استثناء للقليل من الكثير , فئة قليلة منهم هم الرابحون . فلنرجع إلى كتاب الله ونبحث عن من هم الخاسرون . ونستخرج الآيات التي ذكر فيها الخاسرون , فوجدنا فيها : المشركون بالله ( فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ : الزمر 15) ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ : الزمر 65 ) .

والذين لايؤمنون بالآخرة ( إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ : النمل 4-5 ) .

والمتبعون غير الإسلام دينا ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ : آل عمران 85 ) .

والمتبعون للشيطان ( وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا : النساء 119) .

والمنافقون والمنافقات والكفار ( وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ . كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ : التوبة 68-69 ) .

والمكذبون لرسلهم ( الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ : الأعراف 92 )

والظالمون ( وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ . وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ : الشورى 44-45) والمستخفون بالدعاء لله ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ : الحج 11)

والذين يصدون عن سبيل الله ( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ . أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ . لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ : هود 19-22 ) .

والمفسدون بالأرض ( الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ : البقرة 27 ) ومن خفت موازينه ( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ : المؤمنون 103 ) .

والطائعون للكفار ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ : آل عمران 149 ) .

وأصناف آخرى كثيرة مذكورة بآيات الذكر الحكيم .
( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ : الأنعام 140 )
( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ : الأعراف 53 )
( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ : المائدة 30 )
( قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ : الأعراف 23 )
( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ . أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ . أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ . أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ : الأعراف 96-99 )
( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا . ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا : الكهف 103-106)
أرأيت أن الخاسرين هم من السواد الأعظم من الناس .
ثم تعال نعود إلى سورة العصر لنرى من هم المستثنون من الخاسرين ؟ (..إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) فالفائز أو الرابح يجب أن يتحلى بالأربع صفات , فالذي آمن ولم يعمل الصالحات ولم يتواصى مع الآخرين بالحق والصبر لايكفي إيمانه ليكون من الرابحين . والذي يعمل الصالحات ولا يكون مؤمنا ولم يتواصى مع الآخرين بالحق والصبر, فعمله لن يكفيه ليكون من الرابحين وهكذا دواليك . فالله جل وعلا بين الصفات الأربع بعد ( إلا ) . وعطفها على بعضها لتكون متلازمة للرابحين .

ومن هنا نجد أن الإستثناء للقليل من الكثير , لمن يحمل هذه الصفات الأربعة مجتمعة . كأن تقول مثلا أن مستشفى ما بحاجة إلى طبيب دكتور . فترى العدد كبير جدا . وإذا قلت أنه يجب أن يكون جراحا, فيقل العدد كثيرا , ثم إذا قلت أنه يجب أن يكون جراحا بالقلب , فيقل العدد أكثر , فإذا قلت أن يكون مختص بتبديل الصمامات , فستجد أن العدد لن يتجاوز أصابع اليد . ولله المثل الأعلى .

وتجد أن الله تعالى بين في سورة الواقعة أنه ( إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ) وهو يوم القيامة , فسيكون الناس ( وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً ) ثلاثة أصناف الأول والثاني هم الرابحون وهم السابقون وأصحاب اليمين والصنف الثالث هم أصحاب الشمال أي الخاسرون . ووصف السابقون وقال عنهم ( ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ . وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ ) , و أصحاب اليمين (ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ . وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ ) . بينما لم يصف أصحاب الشمال بأنهم ثلة أو قليل لافي الأولين ولا في الآخرين , لأنهم الأكثرون . فهم الخاسرون .
وآيات كثيرة تدل على أن أكثر الناس كافرون وفاسقون ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا : الإسراء 89 ) ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا :الفرقان 50 ) ( وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ : الأعراف 102 ) ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ : يوسف 103 )
فانظر أخي المؤمن في أي فئة أنت ؟ فإن كنت خارج فئة الخاسرون بأي أصنافها فاحمد الله , ولكن هل أنت تحمل الصفات الأربعة للرابحين ؟ لتكون من السابقين أو من أصحاب اليمين . أسأل الله ذلك للجميع .
والله تعالى أعلم

اجمالي القراءات 22051