زينة المرأة عند إبن سعد وإبن حنبل والبخارى ومسلم وخلفيتها التاريخية

آحمد صبحي منصور في السبت ٢٨ - يناير - ٢٠٢٣ ١٢:٠٠ صباحاً

زينة المرأة عند إبن سعد وإبن حنبل والبخارى ومسلم وخلفيتها التاريخية
القسم الثانى من الباب الثالث : التشريعات الاجتماعية
كتاب ( تشريعات المرأة بين الاسلام والدين السنى الذكورى)
زينة المرأة عند إبن سعد وإبن حنبل والبخارى ومسلم وخلفيتها التاريخية
أولا : عن ابن سعد وابن حنبل والدولة العباسية
1 ـ كان منتظراً ان يسير ابن حنبل على منوال الشافعي ، إذ كان الشافعي تلميذاً لمالك و كان أحمد بن حنبل تلميذاً للشافعي ، ومالك والشافعي لم يخصصا أبوابا لزي المرأة ، ولكن ابن حنبل المتوفي سنة 241هــ كانت له ظروفه الخاصة هو ورفيقه الفقيه المؤرخ ابن سعد المتوفي سنة 222 هــ، وهو المشهور بلقب ( كاتب الواقدى ).
2 ـ كان ابن سعد رفيقا لابن حنبل في محنة خلق القرآن ، وقد ثبت ابن سعد مع ابن حنبل ثم اضطر في النهاية للموافقة على رأي الدولة العباسية في ان القرآن مخلوق ، وتم الإفراج عنه بينما ظل ابن حنبل إلى أن افرج عنه سنة 219هــ في رمضان بعد ثلاث سنوات ..
3 ـ وكلاهما ــ ابن سعد وابن حنبل ــ شاهدا الترف الذي عاش فيه الخليفة المهدي وجاريته الحسناء الخيزران أم ولديه الهادي والرشيد ، وشهدا تعاظم نفوذ الخيزران في عهد المهدي ، ثم في عهد ولديها الهادي والرشيد ، وشاهدا ترف الرشيد وولعه بالجواري وتأنقهن في الجواهر والزينة ، ثم كانت محنة ( خلق القرآن ) في خلافة المأمون ابن الرشيد ، التي استمرت في خلافة المعتصم . ولم ينس ابن سعد وابن حنبل المحنة ، وكل منهما أصدر من الفتاوى على قدر ما ناله من المحنة .
ثانيا : اسلوب ابن سعد
1 ـ لم يؤلف كتابا فى الفقه ، بل هو رائد فى التاريخ للشخصيات ، أو ما يعرف ب ( الطبقات ) ، وموسوعته الضخمة ( الطبقات الكبرى ) مرجع أصيل فى السيرة وتاريخ الصحابة والتابعين وصدر العصر الأموى . وقد خصّص الجزء الثامن والأخير عن الشخصيات النسائية . وسار على طريقة أهل الحديث فى الإسناد ( حدثنى فلان عن فلان ). وتأثر باستاذه المؤرخ الواقدى.
2 ـ بمهارة شديدة نثر إبن سعد فى طبقاته الكبرى ما يدين الدولة العباسية ، حين يؤرخ لما كان عليه التقى والعفاف في عصر النبي وأصحابه والتابعين ، وذلك في حد ذاته وثيقة احتجاج هادئة . ولكن الأخطر انه يلعن بطريق غير مباشر الخلفاء العباسيين الذين آذوه ، وما شاع عنهم من ترف ومجون وسفك للدماء .
3 ـ الأخطر هو موضوع ( الباروكة ) أو الشعر المستعار . الرشيد والهادي أبناء الجارية السابقة الخيزران ، والخيزران جَدة المعتصم والأمين والمأمون أبناء الرشيد ، والرشيد ـ ابن الخيزران ـ هو والد كل الخلفاء العباسيين الآتيين بعده ، وحين يقال ان رسول الله عليه السلام قد لعن الواصلة والمستوصلة فإن اللعن يشمل أم الخلفاء العباسيين ــ الخيزران ـ التي احتاجت في اناقتها بعد الخمسين إلى ان ترتدي باروكة ، وقد شهد ابن سعد وابن حنبل مجدها في خلافة ابنها الرشيد إلى ان ماتت سنة 173هــ (27 جمادي الآخرة) وكانا أطفالا ، وعاشا على شهرتها طيلة حياتهما ، وسمعا عن هذه الشهرة مقترنة بما يشاع عن ترف المحظيات الأخريات من أمهات الخلفاء اللاحقين المأمون والمعتصم ..
4 ـ كان ابن سعد اول من ذكر الحديث الذي يلعن الواصلة والمستوصلة ، وأول من صاغ حديثا يذكر فيه هذا المصطلح في رواية تقول ان امرأة من الأنصار (لم يذكر اسمها) قالت لعائشة : ( إن ابنتي أصابها مرض شديد يسقط شعره ولا أستطيع ان أمشطها وهي عروس ، أفأصل في شعرها حتى امشطه ..؟ ) فقالت عائشة : ( لا ، قد لعن رسول الله الواصلة والمستوصلة ) ، وبهذه الرواية ضمن ابن سعد تصفية حساباته الشخصية مع الخليفة المأمون الذي قهره ، ومع الدولة كلها ، وقد مات ابن سعد في خلافة المعتصم الذي عذب صديقه ابن حنبل .
5 ـ ومع نفوذ الحنابلة من عهد المتوكل فقد راجت أحاديث الواصلة والمستوصلة حتى أصبحت من المعلوم من دينهم بالضرورة ، خصوصا مع تطرف العباسيين فى المجون والترف ونفوذ الجوارى فى قصورهم ، ومنهم من سيطرت على الدولة مثل ( قبيحة ) محظية الخليفة المتوكل وأم الخليفة المعتز ، و( شغب ) أم الخليفة المقتدر .
ثالثا : إبن حنبل و ( الباروكة ) وغيرها
1 ـ نرى أن المؤلف الحقيقى لكتب إبن حنبل ليس إبن حنبل ، بل إبنه عبد الله . ولكنه كان يعبر عن أبيه . ونتوقف مع ما رواه عبد الله عن أبيه احمد ابن حنبل في الزى والزين فى كتاب ( احكام النساء) .
2 ـ فليس عجيبا إذن ان يكون اول ما افتتح به ابن حنبل كتابه هو باب " ما يكره للنساء من وصال الشعر " وقد أفتى ابن حنبل بأن وصل شعر المرأة بالقزامل ــ أي الصوف ــ يعتبر مكروها ، وفي احد الروايات يقول ابن حنبل أن النبي لعن الواصلة والمستوصلة ، وتكرر هذا الحديث بروايات مختلفة يخرج منها القاريء باعتقاد صحتها ، وإن كان ذلك في رأينا دليلاً على تحمس الرواة في القرن الثالث لتأكيد صدق الحديث بكل الطرق الممكنة ..
3 ـ ويلاحظ ان بعض الأحاديث تسامحت في وصل الشعر بضفائر الصوف التي كانت معروفة حينئذ بالقزامل ، وهذا التناقض يدل على وجود خلاف فقهي في الموضوع ، فقد اتفقوا على تحريم وصل الشعر بالشعر الادمي ، ولكن اختلفوا في الشعر المستعار حين يكون ضفائر صوفية ..
4 ـ ونفس التناقض نراه في المروى عن ابن حنبل في حلق المرأة رأسها ، فهو يقول ان النبي نهى عنه ، وأنها "مثلة" أي مسخ وتشويه ، ثم يقول هو جائز للضرورة .
5 ـ وهواة التوفيق بين الأحاديث يمكنهم تجميع هذه الآراء وتبريرها بالطبع ، ولكن ماذا يستطيعون فيما يرويه ابن حنبل من الحديث القائل : ( لعن رسول الله المتنمصات ) وهو مصطلح جديد صنعه ابن حنبل ووضعه منسوبا للنبى محمد عليه السلام مرتبطا باللعن . وقد سئل عن مصطلح النامصة والمتنمصة ــ الذي استشرى وقتها ــ فقال هو ان يؤخذ الشعر بالمنقاش ، او التي تنتف شعرها ، وإذا كان نتف الشعر او حفّه ملعونا فكيف يفتى في نفس الوقت بأن حفّ الشعر للنساء ليس به بأس ، ثم يسأل عن مكسب الماشطة ، ومعروف ان عملها هو ما أسموه بالحفّ والنتف ، فيرى ان كسبها من هذه المهنة مكروه ، وأنه لا يجوز ان تحج بالمال الذي يأتيها عن هذا الطريق...
6 ـ والمهم أن ابن حنبل هو أول من ادخل مصطلح المتنمصة وجعله في حديث يلعن من تفعل هذا الفعل ، وجاء هذا الحديث في خلال فتاوى له متناقضة في الموضوع الواحد كشأن المطروح من الآراء حول قضية جديدة . ومن الطبعي بعدها ان ينتهى الخلاف وتتوحد الآراء طالما ان الجميع فرقة واحدة ، ولذلك فقد تم التجميع في حديث واحد ردده كبار المحدثين فى القرن الثالث ، ووجد هذا التجميع الجديد فرصته في التدوين في البخاري ومسلم ..
رابعا : البخارى ومسلم
1 ـ البخاري لم يسهب في ذكر احاديث النامصة والمتنمصة بقدر ما توسع فيها مسلم ، لأن البخاري توفى سنة 256هــ فلم يعش طويلاً مع شيوخ الحنابلة ، بينما مات بعده مسلم عام 261 ، وتأثر كثيرا بالحنابلة فى رواياته وموضوعاته .
2 ـ ولم يكن معروفا من قبل مصطلحات ( الواشمات والمتوشمات والمتنمصات والمتفلجات ) ولم ترد فى موطأ مالك ولا فى ( الأم ) للشافعى . وهى صناعة حنبلية بإمتياز . وقد اشترك البخاري ومسلم في إيراد الحديث الهام في الموضوع ، وهو كلمة أسندوها لعبد الله بن مسعود يقول فيها : ( لعن الله الواشمات والمتوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله ) ، ويقولون أن امرأة من بني أسد يقال لها ام يعقوب قد جاءت لابن مسعود تقول له : ( بلغني أنك لعنت كيت وكيت )، فقال لها : ( ومالي لا ألعن من لعنه رسول الله ومن هو في كتاب الله )، فقالت له المرأة : ( لقد قرات ما بين اللوحين ــ أي المصحف ــ فما وجدت فيه ما تقول )، فقال لها : ( أما قرات : وما اتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا .؟ قالت : بلي ، قال : فإنه قد نهى عنه ).
صياغة الحديث فيها أن ابن مسعود هو الذى يلعن ، وهو يلعن ما لعنه الرسول ، وأن هذا ـ وإن لم يوجد فى القرآن ـ فيكفى آية ( وما اتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) . هذه الصياغة مصنوعة للردّ مقدما على من يتشكك فى هذا الحديث ، وهو يستعير ممّا قاله الشافعى فى ( الرسالة ) أن الرسول هو الأحاديث المصنوعة .
3 ـ ونشرح المصطلحات :
3 / 1 : الواشمات ، من الوشم وهو وخز الجلد بإبرة ، ثم حشوه بالكحل حتى يخضر لونه والتي تقوم به بهذا العمل هي الواشمة ، اما التي يقع عليها الوشم فهي موتشمة .
3 / 2 : المتنمصات : جمع متنمصة ، وهي التي تطلب نتف وحفّ شعر الحاجبين لترفيعهما او تسويتهما .
3 / 3 : المتفلجات للحسن ، جمع متفلجة ، وهي التي تفرّق بين أسنانها بأن تحك الأسنان بمبرد لتسويتها او تلميعها لتكون ابتسامتها ساحرة .
4 ـ وذلك يعطينا فكرة عن مدى تقدم فن الماكياج في ذلك الوقت ، من الباروكة الى الماكياج ، ومن يتعمق في دراسة العصر العباسي ؛ تاريخه وحضارته ، يتوقع تقدم هذه (الصناعة) النسائية نظرا لوجود الجيوش الجرارة من أجمل الجواري اللائي جيء بهن من أواسط آسيا وأوروبا والهند وشمال افريقيا ، وازدحمت بهن قصور الخلافة والملأ من رجال الدولة ، في نفس الوقت الذي عرف فيه العوام الفقر أشكالاً وألوانا ، وقد حاول بعض العوام من أصحاب الحرف ان يسلكوا طريق العلم برواية الأحاديث ، فالتصق بهم لقب الحرفة مثل القواريري والمزين والدورقي والنسّاج وغيرهم ، فلم يزدادوا إلا فقراً ، وكان من الطبيعي ان يلعنوا هذه الحرفة النسائية المترفة الخاصة بفنون الماكياج...
5 ـ وبكل مهارة أسندوا الماشطة وزبائنها من الحسناوات إلى الصحابي عبد الله بن مسعود ، وكان اختيارهم موفقاً ، لأنه الصحابي الذي اجتمعت فيه عناصر هامة ، من الإقامة في العراق والمقدرة على القول بالرأي ، او الاجتهاد ، ونسبوا له حديثا يتفق مع هذه الفكرة الشائعة عنه ، وهي انه يلعن أولئك النسوة من واقع اجتهاده في القرآن ومن واقع صحبته للنبي عليه السلام ، ثم كان الدليل القاطع الذي يؤكد للحنابلة والحشوية صحة مذهبهم في كل ما يسندون للنبي من أحاديث ، وهذا الدليل القاطع الذي أجروه على لسان عبد الله بن مسعود هو قوله تعالى " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" وكأنهم بذلك ألقموا كل المعارضين حجراً بل احجاراً ، وبناءً على ذلك فكل ما ينسبونه للنبي لابد ان نأخذه عنهم ، ويتحقق لهم كل ما يريدون ، فإذا كان العباسيون وجواريهم وأتباعهم قد امتلكوا ( الدنيا ) ــ وهي فانية زائلة ــ فإن الحنابلة قد امتلكوا ( الدين ) يقولون ما يشاؤون وينسبونه للنبي ويحدّث به البخاري ومسلم وأبا داود والنسائي ... فينقلون عنهم ، وتسرى أحكامهم على ( المسلمين ) في كل زمان ومكان ، وإذا كان سلطان العباسيين قد انتهى فأن سلطان الدين السنى لا يزال حاكما فوق اعناق المسلمين والمسلمات ، حتى لو كانت لعنات تصب فوق رءوس النساء .! ...
6 ـ ولا بد من الرّدّ عليهم .
اجمالي القراءات 21924