زينة المرأة وزيّها في الدين السُّنّى : ( 1 ) الظروف التاريخية

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ٢٤ - يناير - ٢٠٢٣ ١٢:٠٠ صباحاً

زينة المرأة وزيّها في الدين السُّنّى : ( 1 ) الظروف التاريخية
القسم الثانى من الباب الثالث : التشريعات الاجتماعية
كتاب ( تشريعات المرأة بين الاسلام والدين السنى الذكورى)
زينة المرأة وزيّها في الدين السُّنّى : ( 1 ) الظروف التاريخية
مقدمة
1 ـ بسبب الطرْح العاتي للتيار الوهابى الحنبلى المتشدد في قضية الزي والزينة للمرأة فإن اختصار آراء التراث وتحليلها والرد على وجهات النظر المتعارضة قد يستحق مجلداً كاملاً ، على أن المنهج الذي نلتزم به وهو وضع مؤلفات التراث في سياقها التاريخي يساعدنا على الإيجاز والتوضيح معاً ...
2 ـ وزي المرأة وزينتها من الأمور المتغيرة بطبيعتها ، او بتعيير عصرنا " موضة " تتغير حسب الفصول والأهواء ، كان ذلك في الماضي كما هو الآن في الحاضر ، ولكن الماضي اختلف في الكمّ والكيف ، وفي النوع والحجم ، إذ ان حركة التغيير في زي النساء وزينتهن لم تكن بهذه السرعة التي في عصرنا ، بالإضافة إلى ان عصرنا ــ في الجزء العلماني منه ــ نظر للزي على أنه قضية شخصية اجتماعية وفصل بينها وبين الدين ، أما في العصور الوسطى فقد كان التدين السائد يقف رقيبا وحكما على كل " موضة " جديدة ، يحاربها بالفتاوى والأحاديث إذا أمكن .. ولهذا فإن السياق التاريخي هنا هام جداً في فهم الآراء التراثية ، ولكننا لن نعرض له إلا بالقدر الذى يسمح به منهج هذا الكتاب الذي يقارن بين تشريعات الاسلام وتشريعات الدين السُّنّى عن المرأة ..
3 ـ الملاحظ أن الزي النسائي (والرجالي) ظل في أغلبه على وتيرة واحدة حين كان العرب المسلمون في شبه الجزيرة العربية ، فلما توطدت أقدامهم في ( الدنيا الجديدة ) التي فتحوها انغمسوا في حركة اجتماعية متغيرة بطبيعتها ، ثم أصبحت هذه الدنيا الجديدة مركز العالم المتحضر ، يؤتي إليها بخيرات العالم وجواريه وكل جديد فيه ، وطبيعي أن يتأثر ( المسلمون) بكل وافد ، وأن تختلف مواقفهم من هذه المتغيرات الاجتماعية ، ينغمس فيها المترفون ويحتج عليها الفقهاء الناقمون ، ويأخذ احتجاجهم عليها الصورة المثلى لديهم ، وهي إصدار الفتاوى وحياكة الأحاديث وإفترائها لتصبح أهواؤهم دينا منسوبا للرسول عليه السلام وحيا بزعمهم .
4 ـ إزدهر الاتصال الحضارى بين العرب والأمم الأخرى فى العصر العباسى ، وإزدهر فيه العلم وتدوينه . وفي هذا العصر استحوذ الخلفاء العباسيون على الثروة والسلطة والجاه والدنيا ( يملكونها )، فلم يعد أمام الفقهاء السنيين إلا الدين الذى ( يملكونه) ليضعوا عليه كل إحساساتهم واحباطاتهم وآراءهم وامنياتهم ، وأحيانا نقمتهم . والفقهاء الذين نقصدهم بالتحديد هم الحشوية او الحنابلة.
ونعطى بعض التفصيل :
أولا : العباسيون وإفتراء الأحاديث لغرض سياسى
1ـ العباسيون قبل قيام دولتهم استخدموا إفتراء الأحاديث فى دعايتهم السياسية ، وكان لهم جهاز دعائى من مخترعى الأحاديث منهم الأعمش والأوزاعي وابن شبرمة وابن ابي ليلي. هم الذين إخترعوا ( دينا عباسيا ) حتى قبل قيام دولتهم ، والتى بدأت الدعوة للرضى من ( آل محمد ) ونشر أحاديث تبشر بالمهدى المنتظر . هم الذين أضافوا لابن عباس ما لم يكن معروفا من قبل من الأحاديث المصنوعة التي تتحدث عن ملك بني العباس وخلافتهم التي ستظل في أيديهم إلى يوم القيامة ، بل تتحدث عن الخلفاء العباسيين بالاسم واللقب. وظلت هذه الأحاديث تحظى بالتصديق حتى لقد عقد السيوطي فى اواخر العصر المملوكى في كتابه " تاريخ الخلفاء" فصلا بعنوان ( فصل في الأحاديث المبشرة بخلافة بني العباس ) وقد تمت نسبتها لصحابة ماتوا دون أن يعرفوا شيئا عن الدولة العباسية وخلفائها ، منها : أحاديث يرويها أبو هريرة أن النبي قال للعباس: " فيكم النبوة والملك " . وحديث آخر نسبوه لأبي هريرة أن النبي قال للعباس إن الله افتتح بي هذا الأمر وبذريتك يختمه " وحديث آخر " يكون من ولد العباس ملوك تكون أمراء أمتي" . ثم حديث ابن عباس يروي فيه أن أمه كانت حاملا فيه وقد أمرها النبي أن تأتي به إليه إذا ولدت ــ هذا مع أن ابن عباس ولد بمكة ولم يكن بمقدور النبي ـــ أن يدخلها ـــ وتمضي الرواية فتقول إن الأم جاءت بابنها عبد الله فأعطاه النبي الاسم وباركه وقال إنه سيكون أب الخلفاء حتى يكون منهم السفاح وحتى يكون منه المهدي ويكون منهم من يصلي بعيسى بن مريم .. وهذه بشرى بأنهم سيظلون في الحكم إلى أن تقوم الساعة .
2 ـ وكان ابو جعفر المنصور اشهر مخترعى تلك الأحاديث ، وهناك حديث يرويه يقول : حدثني أبي عن جدي عن ابن عباس أن النبي قال للعباس إذا سكن بنوك السواد لم يزل الأمر لهم حتى يدفعوه إلى عيسى بن مريم . وحديث آخر " الخلافة في ولد عمي أخو أبي حتى يسلموها إلى المسيح "، وحديث فيه مدح الخليفة المهدي ــ إبن أبى جعفر المنصورــ يقول إن النبي دعا ثلاثا تقول اللهم انصر العباس ، ثم قال ياعم أما شعرت أن المهدي من ولدك سيكون موفقا مرضيا ." . ووضعوا في السفاح أول الخلفاء العباسيين حديثاً يقول : "يخرج رجل من العباسيين بعد انقطاع من الزمان وظهور الفتن يقال له السفاح ..." . وقالوا إن ابن عباس روى عن النبي حديث "منا السفاح ومنا المنصور ومنا المهدى.." أي يفخر النبي بأولئك الخلفاء. وهناك أحاديث كثيرة عن الخليفة المهدى منها " المهدى من ولد العباس عمى " و "المهدى يواطىء اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبى ".
وأبو جعفر المنصور هو الذى قتل أباحنيفة عام 150 بسبب موقفه من تلك الأحاديث وإستقلاليته فى الرأى الفقهى . كان أبو حنيفة من المناضلين ضد الدولة الأموية وتعرض للسجن فى عهدهم حتى لقد هرب وإختفى ، فلما تأسست الدولة العباسية عرفت قدره . ولكن خاف أبو جعفر المنصور من أن يؤثر على القادة العسكريين فضربه وسجنه وقتله . وتعلم تلميذاه الدرس فدخلا فى خدمة العباسيين بكل خنوع ، وهما أبو الحسن الشيبانى وأبو يوسف .
ثانيا : العصر العباسى الأول والاتجاه العلمى التجريبى
1 ـ من ناحية أخرى يتميز العصر العباسى بأنه قدّم للحضارة الانسانية نماذج فريدة فى التطور العلمى والفلسفى والطبى فى العصور الوسطى ، منهم الكندى ( 185 : 256 ) والحسن بن الهيثم ( 354 : 430 ) والطبيب الرازى أعظم أطباء العصور الوسطى ( 250 : 311 ) وابن سينا ( 370 : 427 ) وجابر بن حيان والفارابى و البيرونى ..الخ .
2 ـ ووقع فى غرام هذا الاتجاه العقلى العلمى الخليفة المأمون ت 218 . وهو الذى أنشأ ( بيت الحكمة ) واستقدم لادارته الخوارزمى ( ت 232 ) الذى أصبح من مشاهير العلماء فى العصور الوسطى ، وعهد إليه المأمون برسم خارطة للأرض عمل فيها أكثر من 70 جغرافيا.
3 ـ ووقع فى نفس الغرام بهذا الاتجاه العلمى والعقلى الخليفة هارون الواثق ( ت 237 ) . ويقول المسعودى ( ت 346 ) فى تاريخه ( مروج الذهب ) إن الخليفة الواثق سلك مسلك أبيه المعتصم وعمه المأمون ( من القول بالعدل ) أى مذهب المعتزلة ( العدل والتوحيد ). ( مروج الذهب : 2 / 375 ) . وتحت عنوان ( مجلس الواثق فى الفلسفة والطب ) ذكر المسعودى مجلس علم عقده الواثق وحضره علماء وأطباء . قال المسعودى عنه : ( وكان الواثق بالله محبا للنظر (أى الاتجاه العقلى ) مُكرما لأهله ، مبغضا للتقليد وأهله (أى الفقهاء وأهل الحديث ) ، محبا للإشراف على علوم الناس وآرائهم ممن تقدم وتأخر من الفلاسفة وغيرهم من الشرعيين ) . وفى هذا المجلس سألهم الواثق عن مصدر المعرفة بعلم الطب ، هل بالحسّ ام بالقياس أم بالسّنّة كما يذهب اليه جماعة من اهل الشريعة. وحضر المجلس ابن بختيشوع وابن ماسويه وحنين وسلمويه . وقد قالوا ( إن الطريق الذى يُدرك به الطب هو التجربة فقط ) ، ونقل المسعودى خمس صفحات من النقاش الذى دار فى هذا المجلس ( مروج الذهب : 2 / 375 ، 384 : 388 ). جدير بالذكر ان المؤرخ المسعودى كان قريبا من عصر الواثق ، ولم يصطنع الاسناد فى رواية تاريخه ، أى لم يقل ( أخبرنى فلان عن فلان ) كما كان يفعل المؤرخون من أصحاب الحديث كالطبرى وابن الجوزى .
ثالثا : الصدام بين المعتزلة و ( الحشوية ) فى موضوع ( خلق القرآن )
1 ـ صار للمعتزلة شأن كبير وقتها ، وهم يمثلون نهجا عقليا تخصص فى اللاهوت ، فبحثوا فى قضايا يضيق عنها أُفُق واضعى الأحاديث ، وهم الذين يسترون جهلهم بنسبة آرائهم الى الرسول ظلما وعدوانا . ولأنهم يحشون عقولهم بتلك الافتراءات فقد أطلق عليهم المعتزلة لقب ( الحشوية ) قبل أن يحملوا لقب ( أهل السُّنّة ) فى العصر العباسى الثانى . إقتنع الخليفة المأمون برأي المعتزلة فى أن القرآن مخلوق ، واضطهد ( الحشوية ) . واستمر أضطهادهم فى عصر الخليفة المعتصم ثم الواثق . الى أن تولى المتوكل الخلافة فأعلن الحشوية دينا تحت مسمى ( السُنّة ).
2 ـ أعلن المأمون رأيه فى ( خلق القرآن ) فى عام 212 ، فرفضه الحشوية ، واستمر رفضهم ستة أعوام . فأمر بإعتقال الرافضين ، فخافوا ووافقوا عدا : ( أحمد ابن حنبل وسجادة ومحمد ابن نوح والقواريري)، ثم تراجع إثنان وبقى ابن حنبل وابن نوح ، فبعثوهما الى السجن ، وهما فى الطريق مات المأمون وتولى المعتصم الخلافة ، فأمر برد ابن حنبل وابن نوح الى سجن بغداد ، وفى طريق العودة مات محمد بن نوح عام 218 ، وظل ابن حنبل فى السجن وحده . وأمر المعتصم بضرب ابن حنيل 80 سوطا ، ثم أطلق سراحه .
3 ـ إشتهر إبن حنيل شأن بسبب سجنه وضربه ، فظهرت حركة أحمد بن نصر الخزاعى الثائر على العباسيين تحت شعار الأمر بالمعروف وتغيير المنكر باليد ، وإخترعوا حديث ( من رأى منكم منكرا ) . وأنتهى أمر ابن نصر الخزاعى بأن قتله الخليفة الواثق بيده ، وصلب جثته فى بغداد عام 231 . وجاءت التفاصيل فى تاريخ الطبرى ( 9 / 135 : 139 ) وتاريخ بغداد ( 5 / 173 : 180 ) ، ثم نقل عنهما ابن الجوزى فى المنتظم .( 11 / 165 : 170 ).

رابعا :
1 ـ تركز النفوذ فى خلافة الواثق فى الوزير المعتزلى محمد بن الزيات الذى أوعز للواثق ان يعزل أخاه المتوكل ويولى إبنه مكانه . وراقت الفكرة للواثق ، وأمر الوزير إبن الزيات بتحقير ولى العهد لتسقط هيبته فى البلاط ولدى الحاشية ، فاجتهد ابن الزيات فى تحقيره . ومات الواثق فجأة بمؤامرة ، وتولى المتوكل ، فبادر بالإنتقام من غريمه ابن الزيات ، إعتقله فى 7 صفر 232 وأمر بتعذيبه حتى الموت:( الطبرى 9 / 156 : 161 ) .
2 ـ وكيدا فى المعتزلة جعل المتوكل رأى الحشوية دينا تحت إسم السُنّة ، وأرسل أئمتهم الى الآفاق يبشرون بالأحاديث وينشرونها . يقول ابن الجوزى فى المنتظم فى احداث عام 234 : ( وفي هذه السنة‏ أظهر المتوكل السنة ونشر الحديث ..) ( وفيها‏:‏ أشخص المتوكل الفقهاء والمحدثين . وكان فيهم مصعب الزبيري وإسحاق بن أبي إسرائيل وإبراهيم بن عبد الله الهروي وعبد الله وعثمان ابنا محمد بن أبي شيبة وكانا من حفاظ الناس ، فقسمت بينهم الجوائز وأجريت عليهم الأرزاق، وأمرهم المتوكل أن يجلسوا للناس،وأن يحدثوا بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة والجهمية وأن يحدثوا بالأحاديث في الرؤية ، ( أى رؤية الله فى يوم القيامة خلافا لرأى المعتزلة ) . فجلس عثمان بن أبي شيبة في مدينة المنصور ، ووضع له منبر ، فاجتمع عليه نحوا من ثلاثين ألفًا ‏.‏ وجلس أبو بكر بن أبي شيبة فى مجلس الرصافة فاجتمع عليه نحوا من ثلاثين ألفا .) ويقول ابن الجوزى أيضا : ( في سنة أربع وثلاثين ومائتين نهى المتوكل عن الكلام في القرآن ، وأشخص الفقهاء والمحدثين إلى سامراء منهم‏:‏ محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، وابنا أبي شيبة ، ومصعب الزبيري . وأمرهم أن يحدثوا . ووصلهم ‏.‏ ) أى أعطاهم الأموال .
وسادت الحنبلية ، وسيطرت على الشارع العباسى والخلافة العباسية عدة قرون ، وإستأصلت المعتزلة قتلا .
خامسا :
فى عصر المتوكل وما بعده ظهر فجأة أئمة الحديث ، وكلهم من الفرس . وهذا يستدعى وقفة سريعة :
1 ـ أبو مسلم الخراسانى ( الفارسى ) هو المؤسس الحقيقى للدولة العباسية ، وكان صاحب أكبر نفوذ فيها ، فقتله أبوجعفر المنصور سنة 137 هجرية ، فقام الفرس فى شرق الدولة بثورة على العباسيين ، وتزعمهم سيناذ وقد استولى على خزائن أبي مسلم وورثه في أتباعه ، واستطاع العباسيون هزيمته وقتلوا ستين ألفاً من أتباعه،وكان سيناذ مجوسياً كما يذكر الطبري ( تاريخ الطبري 7/ 495. المقدسي : البدء والتاريخ 6/ 82 ، 83 ). وظهرت حركة " الأبو مسلمية" وأعلنوا ألوهية أبي مسلم الخرساني ثم ألوهية ابنته فاطمة ( المقدسي : البدء والتاريخ 6/ 95.). ثم ثورة أخرى بقيادة (استاذيس) المجوسي المزدكي الذي ادعى النبوة ـ وبعث إليه الخليفة المنصور العباسي بجيش فقتله(تاريخ اليعقوبي 3/ 104 ،115.)، ثم ثورة المقنع الخرساني الذي ادعى الألوهية وأباح جميع النساء والأموال ، وأتعب الدولة العباسية حتى قضت عليه، ثم قام الفرس بثورات أخرى في عهد هارون الرشيد وأولاده ، وكانت أقوى ثوراتهم في خلافة المعتصم بقيادة بابك الخرمي الذي كاد أن يقضي على الدولة العباسية ، واستمرت الحرب عشرين عاماً ، حتى قضى عليه الأفشين قائد المعتصم سنة 220هـ ، وكان الأفشين نفسه مزدكياً فقتله المعتصم .
2 ـ لم تنجح ثورات الفرس الحربية فاتجه أئمة المزدكية الفارسية الى التخفى فى ( الحنبلية ) فظهر ـ فجأة ـ ما يُعرفون باسم ( أئمة السنة ). وكلهم انتحل إسما عربيا مثل ( البخارى / ابن برزدويه ) ومسلم وأبو داود والترمذى وابن ماجه ، وكبيرهم إبن حنبل .
أخيرا :
فى هذا الدين السُنى ـ المصنوع سياسيا ـ تأثرت تشريعات المرأة في الزي .
اجمالي القراءات 1875