حجة الله العظيم.
*ومن أحسنُ دينا ممن بلغ تلك القمة القيّمة*؟

يحي فوزي نشاشبي في الأربعاء ١٨ - يناير - ٢٠٢٣ ١٢:٠٠ صباحاً

بسم الله الرحمن الرحيم.
****
*ومن أحسنُ دينا ممن بلغ تلك القمة القيّمة*؟
***********
كنتُ منهمكا في قراءة ما تيسر من القرآن العظيم، وبكل ما أوتيت من جهد، للتركيز حتى لا تسافر بي الأفكار في كل الدنيا، ولا أخفي أن ذلك وقع فعلا بين توفيق وإخفاق. وصدفة، ولعل الأصح هو ومن حسن الحظ لفت انتباهي سؤال، وكأني لم ألتق به ولم أسمع به إلا في هذه المرة ؟ مفاده: ( من أحسن دينا ؟ ) ، فتوقفت وكررت النظر والقراءة والتأمل مليا في الآية، نعم جاء السؤال واضحا "من أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله" ؟ فتبادر إلى ذهني أنه لا يوجد هناك من هو أحسن ممن بلغ تلك القمة العليا في الدين والتدين، وشعرتُ في الحين بشئ من الاهتمام أو بشئ من هالة غريبة تحيط بتلك الآية التي جاءت بمثابة تساؤل أو الفهم بأن الدين درجات، وأحسنها وأعلاها هي في: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ) سورة النساء. وكأنّ الآية تكتسي سرا عظيما أراد الله تعالى أن يلمح إليه لعباده؟ وذلك في سورة النساء، من خلال الآية العظيمة الملفتة المذكورة ؟
ويظهر أنّ هذه الآية تحمل عدة إشارات أو مواصفات أو شروط ، وعندما تتوفر تنطلق بالمرء - لا محالة - لترقى به وتبلغ به تلك القمة، قمة الدين القيم والتدين، وما أدراك ما هي، حيث لا قمة بعدها. وكأنّي بإحساس ما، أو بشئ ما، يهتف من بعيد قائلا: "حبذا لو أحيطت هذه الآية الكريمة بمزيد من اهتمام وتأمل وتدبروإثراء بكثير من ملاحظات ونقد، وتعليقات، لأن الآية الكريمة تبدو وكأنها نصيحة غالية ربانية مختصرة لكل المراحل، أو كأنها ترمي إلى أن تجعل حدا فاصلا ونهائيا لكل ما يسبح فيه المسلمون في ذلك البحر ذي الأمواج المتلاطمة من أفكار وآراء ومفاهيم متفرقة ومتقاطعة ومتناقضة .
كما أن الظاهر يشير إلى أن السر مكنون في: "ملة إبراهيم حنيفا"؟ أما عن السر الأعظم فكأنه مكنون في : "واتخذ الله إبراهيم خليلا" ؟ نعم، إن هناك إشارات شتى لا سيما من خلال ما يلي:
01)-(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ سورة البقرة.
02)-(وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَـــلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين) سورة البقرة.
03)-قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. سورة آل عمران.
04)- قل إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ سورة الأنعام.
05)-يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ .سورة آلُ عِمران
06)- وعندما استفسرتُ عن صفة الحنيف، جاء الردّ، أنّ الحنيفَ هو المنحرف قصدا عن الشرك إلى التوحيد، ولهذا قال: (ولم يكن من المشركين) و (شاكرا لأنعمه) أي قائما بشكر نعمة ربه عليه. فكان نتيجة هذه الخصال الفاضلة أن (اجتباه) ربه واختصه بخلته وجعله من صفوة خلقه وخيار عباده المقربين.
وما يزيد ويقوّي التلميح إلى أن ذلك السرّ الأعظم المكنون، المنقذ، المصيري، يكمن في : "ملة إبراهيم حنيفا" وفي: واتخذ الله إبراهيم خليلا"، هو ذلك الأمر الذي وجهه الله سبحانه وتعالى إلى محمد عبده ورسوله بــأن اتبع ملة إبراهيم حنيفا، وذلك في الآية رقم 132 بسورة النحل: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
(يتبع)
وأما ما يفهم من وراء هذه الآية، أي آمرة الرسول محمد بأن يتبع ملة إبراهيم حنيفا، فما علينا نحن إلا أن نسلم بذلك تسليما ونحرص على اتباعه عليه الصلاة والتسليم اتباعا كاملا وبثقة مطلقة، وهنا تتبادر إلى الذهن بعض تصرفــات أو ممــارسات يبـــدو أنها في حاجـــة إلى التوضيح والتبييــن وبل التطهير، ومنها تلك الظاهرة المنتشرة وكأنها منتشرة بإسراف مفرط ومُخلّ بما هو أساسي ومصيري، ألا وهي غفلتنا التامة عن الحديث الصحيح المنزل من لدنه سبحانه وتعالى، ذلك الحديث الوارد في سورة آل عمران الآية رقم 31: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم). وأما عن فاضح غفلتنا وعدم فهمنا وهضمنا الأمر المنزل، فهو أننا عوض أن نطمح إلى بلوغ تلك الدرجة العليا ليشملنا حُبُّ الله تعالى، فإننا عوضا عن ذلك وجّهنا كل نوايانا وعزائمنا وتصريحاتنا، وولجنا ميادين التنافس الرامي إلى عرض (عضلاتنا) وبكل ما في المهارات من معان، في التعبير عن حبنا المطلق "الهيستيري" لشخص محمد الرسول عليه الصلاة والتسليم، وزهدنا وبكل بساطة في الحقيقة الكبرى التي مفادها أن الإتباع للرسول (المأمور هو الآخر باتباع إبراهيم الحنيف) والحبّ لله الودود الرحمن الرحيم، والطموح كل الطموح في أن يشملنا الله بحبه. ولرسم صورة تقديرية أو حتى لضبط رسم بياني لمدى حجم وهول ثقل غفلتنا فما علينا إلا أن نلقي نظرة ولو سريعة على تلك الآلاف المؤلفة من المقالات أو القصائد التي ألفت ونظمت لغــرض مدحه عليه الصلاة والتسليم، ووصفه بأوصاف مجردة إياه من إنسانيته ومفرقة بين رسل الله وغارقة حتى الذقن، في الشرك الخفي والصريح والوقح.

الجزء الثالث والأخير لمقال:
*ومن أحسنُ دينا ممن بلغ تلك القمة القيمة*؟

وكأنّ للآية رقم 124 في سورة النساء سرا آخر يجذب المرء لمزيد من تأملها ؟ فلقد همست الآية هذه المرة من بين همساتها أنّ هناك أمنا يوفره لنفسه ذلك الشخص المسلم المؤمن الحنيف عندما يعتنق ملة إبراهيم الحنيف، ذلك الذي يقودنا إلى آيات أخرى في سورة الأنعام من رقم : 80 إلى رقم : 83 ( وحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).
وإنّ هذه الآيات يمكن أن تعطينا صورة نموذجية للشخصية التي يمتاز بها الفتى إبراهيم، الشجاع، صاحب تلك الحجة الدامغة التي كافأه بها الخالق سبحانه وتعالى وقواه بها وأيده، وهي التي تضمن له ولمن اتخذه أسوة كل الأمن، وتجعلهم ضمن الفريق الذي يكون أحق بالأمن، وهم أولئك الذين لم يلبسوا إيمانهم بأدنى ظلم.
ومن يدري؟ لعل ما آل إليه المسلمون في الوقت الراهن، وقبل الراهن، ومنذ قــرون؟ لعله نتيجة عدم اهتمامهم بالتسلح بتلك الحجة الدامغة، وعدم تقديرها، ومع ذلك فهي حجة من الله العظيم لكل من أسلم وجهه لله وهو محسن ولمن اتبع ملة إبراهيم حنيفا، ذلك الذي اتخذه الله خليلا ؟.
بل إنّ هناك أمرا آخر، منزّلا من لدنه سبحانه وتعالى، ومع ذلك فقد واجه نفس الغفلة ولقي نفس المصير، وهو ذلك، الوارد في سورة الأحزاب، الآية 52: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ). وقد لا يختلف اثنان في أن الأمر المنزل لم يحظ بفهم كامل شامل مصيب، ولا أدل على ذلك من أن الغالبية العظمى ما زالت، وبعد 14 قرنا من الانتظار، ما زالت لم تع حق الوعي ولم تتوصل إلى الــردّ الصائب لأمر الله، والشئ الملفت وقد يتحول إلى "مضحك" هو أن المصلين، مما ألفوه واعتادوا عليه وهم يستمعون إلى خطيب الجمعة مثلا أو غير الجمعة، وهو يتلو عليهم تلك الآية العظيمة الآمرة : ( يأيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) فإذا بالخطيب لا يستجيب للأمر، بل لا يتحرج بأن يردّ ذلك الأمر إلى الآمر نفسه سبحانه وتعالى (باللهم صل عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا)، وهكذا ومن الراجح أن المصلين يخرجون من صلاتهم ومن مسجدهم وهم في حالة ذهول والكل يشعر بأن ما قاله الخطيب لم (يسمنه ولم يغنـه من أي جوع) في هذا الموضوع، ولسان حال كل مصل يتساءل مع نفسه قائلا: ونحن؟ متى يا ترى نتمكن من أن نستجيب لله ونصلّي على النبي ونسلم تسليما، أو ونسلم سلاما ؟ علما أن الظاهر يقول إن السواد الأعظم من المسلمين متفرقون في فهمهم : هل نسلم تسليما ؟ وبماذا يكون هذا التسليم : وبين نسلم سلاما ؟ والكل يلهج لسانه الداخلي بــ: لمَ كلّ هذا الفرار والتهرب ؟
وفي الأخير أكرّر القول بــ: يا حبذا لو أحيط هذا الموضوع الخطير المصيري بمزيد من نقد وملاحظات وتصحيحات، وحتى بإثراء من ذوي الاختصاص،لأننا أولا وأخيرا مطالبون باتباع رسول الله واطمئناننا الاطمئنان المطلق بأنه عليه الصلاة والتسليم لم يحد قيد أنملة في تنفيذ الأمر، وهو اتباع ملة إبراهيم حنيفا والتمسك بكل جدية وحرص بحجة الله التي آتاها سبحانه وتعالى إبراهيم على قومه.
اجمالي القراءات 1620