أوسلو في 6 ابريل 2007
أيها المواطنون،
لم أعد أتحمل طاعة ظهوركم وهي تنحني أمام سوطي، فقد جرت العادةُ أن يتمرد العبيد، وأن يرفعوا رؤوسَهم بين الحين والآخر ، وأن يخرج من بينهم سبارتاكوس لبعض الوقت.
أريد أن أشعر بقوتي لا بضعفكم، وأن أفتل عضلاتي لا أن تُرخوا عضلاتكم.
كنت أعلم أنَّ اثنين بالمئة فقط سيتوجهون إلى صناديق الاستفتاء على تعديل الدستور، لكن صدّقوني فلو جلستم في بيوتكم تبكون أمام زوجاتكم وأمهاتكم وبناتكم فلن يؤثرهذا قيTHORN;يد شعرة في قراري، فالصناديق جاهزة لاستبدل بالفارغة أخرى، ولو صرختْ كل منظمات حقوق الانسان، ولطمَتْ وجوهَها فما كان ذلك إلا كطنين ذبابة عابرة أمام أذني.
انسحبت المعارضة من البرلمان كما انسحب منافسو الرئيس عبد العزيز بوتفليقة فكانت هديتهم الثمينة له .. كرسي الحكم.
وعقدتم مؤتمرات، واستمعتم لجرائم يقشعر لها الجماد، وتنصهر من هولها الصخور، ومع ذلك فلا زالت اللامبالاة والبلادة والخوف تسيطر على الروح الفئرانية التي لا يمكن أن تكون لكائنات حيّة نفخ الله فيها من روحه.
قاطعتم الاستفتاء بملايينكم، أيّ أنَّ لكم موقفاً مناهضا لحكمي، لكنكم تغمضون عيونكم عن اغتصاب وطن، ونهب خيراته، وتحويله لسجن، وترفضون الدعوةَ لمظاهرة في ميدان التحرير .. في قلب مدينة الأربعة عشر مليونا.
أعطيت توجيهاتي في العام الماضي أن يقوم رجال حمايتي بضرب أحد قضاتكم بالجزمة لتصل الرسالة للمعتصمين منهم داخل ناديهم، وإلى عشرين ألف قاض يمثلون العدالة والسلطة القضائية ورسالة السماء لأهل الأرض، وملاذ الأمن والرحمة والحماية، فما كان منهم إلا أن ابتلعوا كرامتهم وكرامة الوطن كله .. واختفوا!
عندما يستوقف ضابط شرطة قاضيا أو مستشارا يخجل الأخير من الإتيان على ذكر مهنته المقدسة، فقد وضعتها أنا في التراب!
لحظة صمت، من فضلكم، فبعد قليل ستسمعون صراخ أحد أبنائكم أو آبائكم أو اخوانكم أو أحبابكم وقد أمر ضابط أمني وحمايتي المرشدين والمخبرين في قسم الشرطة أن ينزعوا عنه ملابسه، وأن يُدخلوا العصا في موضع العفة منه، فتلك لعمري هي رسالتي لكم منذ ربع قرن ، ولكنكم لا تأبهون لها، وتغضون الطرف عنها كأنها حالة خاصة رغم أن اشاراتي كلها تؤكد لكم أنها حالة عامة، ورسالة إلى كل من شرب من ماء النيل الخالد.
تضحكون على أنفسكم، وتستحمرون شرف الضمير والشهامة ونجدة الملهوف وكل تلك القيم الجاهلية النبيلة باتهام رجالي أنهم وراء جرائم الأمة، لكن الحقيقة أنها أوامري أنا، وتوجيهاتي المباشرة، حتى المواطن المصري الذي صب ضابط الأمن كيروسيناً على جسده المنهك الضعيف وهو نائم في التخشيبة، ثم أشعل فيه النار كانت من وحي توجيهاتي المباشرة أو الضمنية الخارجة من القصر.
هل يتخيل أحدكم تفاصيل كل دقيقة في الحياة اليومية الجحيمية لرجل بريء ظل لأكثر من خمس عشرة سنة في زنزانة تحت الأرض؟
إنه ليس بمفرده، لكنهم آلاف من الذين يبكون، ويصرخون، ويدعون اللهَ أن يرسل إليهم أبناء وطنهم بعد أن يلهمهم الروح الانسانية والشهامة والشجاعة والحق والعدل، لكنكم لا تكترثون لأوجاعهم، ولا تعيرون عذابات أهلهم أدنى اهتمام.
هل تعرفون أن بعض الدول بدأت تستدعي المصريين العاملين لديها للتأكد من أنهم لا يحملون فيروسات الكبد الوبائي استعدادا لطردهم؟
هل تعرفون أنني في ربع قرن دمرت الشخصية المصرية، وتسللت خلسة لأضع فيها ثقافة الفهلوة والاحتيال والجبن والمذلة والخنوع لكي أعِدَّ لابني في ربع قرنه القادم أغناما يرعاها، ويضرب مؤخراتها بعصاه إن تباطئت أو لم تطعه وخرجت عن القطيع؟
هل تعرفون أنني مريض في نهايات أيام حياتي، وليس في مصر نائب للرئيس أو واحد من الثمانين مليونا يستحق أن يقف على يميني، ففرضت عليكم ابني، ونزعت من تاريخكم المقبل أي فرصة لمحاكمة جرائم عهدي، وأن أموال قناة السويس والبترول والسياحة وتحويلات المصريين في الخارج والدعم المالي كلها ذهبت في بطون رجالي وأولادي، لكنكم تنظرون ببلاهة منقطعة النظير وأنا أنزع اللقمة من أفواه فلذات أكبادكم؟
أعرف أنكم منشغلون في أشياء أهم، فأنتم تتحدثون في الدين صبحاً ومساءً، وتتابعون نشرات الأخبار والمسلسلات، وتتحدثون عن الحجاب في وسائل المواصلات، وتنشغلون عن اغتصابي إياكم بالحديث عن الطب النبوي والأعشاب والحور العين وعدم تهنئة الكفار في أعيادهم وما يحدث خارج أرض مصر.
ومرت التعديلات الدستورية رغم أنف أكبركم وهو أصغر من أدنى رجالي مرتبة، وترفضون توريث الحكم وهو واقع أمام أعينكم، وتخافون بملايينكم من الاقتراب من عدة مئات لو بصقتم بصقة واحدة لوَلّوا منكم فرارا ورعبا.
أريد مرة واحدة أن أشعر بقيمتي وقوتي وجبروتي وسطوتي في مواجهة غضبكم العارم ولو لبعض الساعة ولأي سبب حتى لو كان المتظاهرون من العاطلين عن العمل، ومن مرضى فيروسات طعامي الملوث لكم، ومن الفقراء وسكان عشش الصفيح والمقابر، ومن المثقفين والاعلاميين وصناع الرأي، ومن القضاة والمحامين، ومن الأكاديميين وأساتذة الجامعات والعلماء، ومن الأزهر والكنيسة والمؤمنين بالله من مسلميكم ومسيحييكم، ومن أهالي ثلاثين ألف معتقل حرمتهم أوامري أن يحتضنوا أبناءهم وآباءهم فألقيتهم في غيابات السجن لسنين عددا، ومن الذين لا مستقبل لهم، ومن الذين يُصرّون أمام حريمهم أنهم رجال يفتلون شواربهم في الشارع ثم يتسللون إلى غرفهم يبللون فراشهم بدموع الخوف والفزع والرعب والجبن ورعشة فأر لم يقترب منه قِطٌ .. قَطّ!
أريد أن أقول لزملائي الطغاة بأنني قوي أمام عشرين ألفا أو ثلاثين ألفا من ثمانين مليونا، لكن المفاجأة كانت دائما تعقد لساني وتلجمه، فلو أحرقتكم جميعا في مسرح، أو وضعتكم في قطارات الصعيد وأشعلت فيها النار، أو حشرتكم في بواخر تلقيكم لأسماك القرش لكان اهتمام الأحياء منكم وأهليكم على حضور مباراة كرة القدم أهم وأكثر اثارة.
مئات الآلاف منكم يقرأون ( الدستور ) و ( الفجر ) و ( المصري اليوم ) و ( العربي الناصرية ) و( الوفد ) و ( الغد ) وآلاف المواقع على النت .. وغيرها، ويسمعون، ويشاهدون، ويعرفون تفاصيل التفاصيل لجرائم يحسدني عليها طغاة آخرون، ولكن الكلمة أصبحت عبثا، والحقيقة المُرّة لا تحرك ساكنا، والوقوف أمام الخالق، عز وجل، لا يلمس موضع الايمان بالانسان وحريته وكرامته ونفخة الروح المقدسة فيه.
حدثت ابني جمال وسألته عن امكانية حفر مقبرة جماعية تسع عدة ملايين لتسهيل عملنا، فقال بأنه سيتولى هذا الأمر بعد تسلمه العرش رسميا، ثم ابتسم لي قائلا: ما رأيك، أبي العزيز، في مقبرة أضع فيها ثمانين مليونا دون أن يرفع أكثر من مئة منهم أصواتهم بالاحتجاج؟
قلت له بفخر: تلك هي مصر التي أتركها لك.. ولك أن تحمد اللهَ أنك لا تحكم أوكرانيا أو لبنان أو توجو أو فنزويلا أو الصومال أو موريتانيا، فأنت تضرب بالجزمة أشرف القضاة فيختبيء زملاؤه في طول مصر وعرضها، والرئيس الباكستاني يعزل قاضيا فيخرج الحفاة العراة مدافعين عن كرامة عدالتهم.
هل تعلمون أنه في غضون عقدين من الزمان سيكون ثلثا المصريين مرضى وبائيين لا يعيشون الحياة ولا يتمتعون بصمت الموت؟
هل تعلمون أن الدين محرر الانسان، وكلمة الله إلى عباده، ورسالة السماء لتعليم الناس مباديء الكرامة والشجاعة والحق قد جعلته أنا في ربع قرن مُسَكِناً للآلام، ومُخَدّرا للنفوس، ومُكَبراً للصغائر من الهموم، ومُنوما للمهانين، ولذة للعبيد والسوط يهوي فوق ظهورهم وهم يركعون ويسجدون لله الواحد القهار؟
هل تعلمون أن صلواتكم باطلة، وصومكم غير مقبول، وكل الخير الذي تقدمون لا يساوي جناح بعوضة، وأنكم، مسلمين ومسيحيين، لن تدخلوا الجنة أو تشموا ريحها ما لم تدافعوا عن كرامتكم وشرفكم وأهلكم وبناتكم وبلدكم وأرضكم والقيم الروحية التي جعلتموها في خدمتي بدلا من أن تحيلونها إلى حبل مشنقة غليظ يلتف حول عنقي بعدد أيام البؤس التي عشتموها تحت حذائي؟
أحلم أحيانا أن أكون زعيما على مملكة من الحشرات، تغضب بين ألفينة والأخرى، وتلتف حول بعضها في حنان وحب ودفاع عن الحياة، فلعلها تمنحني الاحساس بأنني لا أحكم موتى، ولا أتزعم أناسا غادروا الحياة الدنيا منذ زمن سحيق.
أيها المصريون،
لماذا لا تغلقون المساجد والكنائس والمدارس والجامعات ومراكز البحث والمكتبات والمطابع والصحف والدوريات والفصليات ومعاهد الفنون والآداب، فكل هذه الأشياء تقف عاجزة عن تحريك النفس المصرية ناحية الخير والتمرد والغضب ورفض الكرباج ومناهضة سجّانها وتنظيف روحها التي لم تعد لها صلة بالسماء أو بخالق السماء والأرض؟
بعد دقائق قليلة سيزيح كل منكم هذه الورقة جانبا، وربما يسب ويلعن في كاتبها متناسيا أنني أنا الذي أبصق في وجوهكم صباح كل يوم حزين على مصركم في ربع قرن وأقول : يا ولاد الكلب!
إنني غاضب وحزين لأن أقفيتكم ترهق كفي الغليظة، وقد جعلت بلدَكم في آخر ذيل الأمم المتخلفة، وسرق الآخرون منها كل أدوارها الأدبية والفنية والاعلامية والوطنية والقومية والانسانية والدولية، ومع ذلك فلم تحرك المصريين قيمةٌ دينية أو روحية أو انسانية أو مصرية أو عربية ليعلم الآخرون أنكم مازلتم على قيد الحياة، ولو كانت موتاً في صورة حية.
العصيان المدني هو ثورة الشرفاء على طاغيتهم، لكنكم ومعكم كل القيادات الفكرية والثقافية والاعلامية والأكاديمية والطلابية والعمالية ترفضونه لأنه سيحرركم مني، وأنتم تستعذبون مهانة الذل في عهدي وعهد ابني.
بحثت عن أبطال العبور، ورجال مصر الشجعان، ولواءات المخابرات والجيش وأمن الدولة، وعن الذين يعرفون تفاصيل جرائمي في ربع قرن والتي يشيب لها شعر الجنين، ولا يزال البحث جاريا عن بطل منكم يرفض لسعة الكرباج.
أيها المصريون،
لو علمتم ما سيفعله ابني بكم في عقود قادمة لاخترتم الموت انتحارا أو غرقا أو حرقا، فترقبوا ألسنة الجحيم التي يُعِدّها لكم زعيمكم الشاب القادم.
الآن يمكنكم أن تدافعوا عن كرامتكم ضد كاتب هذه الرسالة، وتقولوا له بأن السيد الرئيس لم يتلفظ بكلمة .. يا ولاد الكلب، ولكنكم كاذبون فقد سمعتموها مني آلاف المرات حتى لو لم تخرج من بين شفتي علانية. إنها ليست كلمة، لكنها دستور قمت بتعديله أمام أعينكم فبعدما كان عنوانه: يا ولاد الكلب، أصبح الآن .. يا ولاد ستين ألف كلب.!
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو