ف 10 : رد الجاحظ على فقه النصف الأسفل

آحمد صبحي منصور في الأحد ٣١ - يوليو - ٢٠٢٢ ١٢:٠٠ صباحاً

ف 10 : رد الجاحظ على فقه النصف الأسفل
القسم الثانى من الباب الثانى عن تفاعل المرأة فى التراث والدين السُنّى
كتاب ( تشريعات المرأة بين الاسلام والدين السنى الذكورى)
ف 10 : رد الجاحظ على فقه النصف الأسفل
أولا :
1 ـ خلال معيشة نصف قرن من البحث فى التراث بكل نوعياته أقول : إن أحقر ما قرأت هو كتب الأديان الأرضية من سُنّة وتصوف وتشيع . وأن أروع ما قرأت هو ( مقدمة ابن خلدون ) ومنشور لنا بحث فى تحليلها ، أتى ابن خلدون فى مقدمته بإجتهاد جديد ، ولكن صاغه فى اسلوب معقد يستلزم ( ترجمته ) الى اسلوب مفهوم . وهذا ما فعلته فى القسم الأول من الكتاب المذكور . الأروع هو كتابات الجاحظ ، وقد كتبت مقالات استخلص فيها الحياة الاجتماعية العراقية من مؤلفات الجاحظ ، وخصوصا كتابه ( البخلاء ). ومن أسف أن هذه المقالات ضاعت ضمن مقالات أخرى .
2 ـ كانت القرون الوسطى عصر الظلام فى أوربا ، بينما نبغ العلم فى العالم فى الدولة العباسية . بالتالى فإن الجاحظ ـ وهو حقا أعظم مفكر وأديب فى العصر العباسى ـ يكون فى تقديرى أعظم مفكر وأديب فى القرون الوسطى على مستوى العالم . روعة الجاحظ فى عدد ما كتب من عشرات الكتب والرسائل الصغيرة ، وفى تنوع موضوعات كتابته من السياسة والأدب والتاريخ والأخلاق الى الحيوان والنبات والصناعة ، وفى تعامله مع الواقع بالاصلاح والنقد . ثم كتابتها باسلوب سهل بسيط يدل على تمكّن ، والأروع هو تلك اللمحات الساخرة والكوميدية بين السطور .
3 ـ من حيث كثرة المؤلفات هناك ــ أيضا ــ ابن الجوزى فى أواخر العصر العباسى ثم السيوطى فى أواخر العصر المملوكى ، ولكنهما ــ إتّفاقا مع دينهما السُّنّى ــ تواريا خلف أحاديث يصنعونها أو ينشرونها . ومن العجيب أن كليهما ألف كتابا فى الأحاديث الموضوعة ، بينما يتركز دينهم ومؤلفاتهم على الأحاديث وكلها مصنوعة وموضوعة . وبلغ بهم الكفر أرذله فى زعمهم رؤية الله جل وعلا والنبى محمد عليه السلام . لم يقم ابن الجوزى بانتحال مؤلفات الآخرين ، ولكن إرتكب السيوطى هذا فى مؤلفات كبيرة وفى عشرات الرسائل الصغيرة . مع هذه الحقارة ، يتمتع كلاهما بتقدير وتقديس عبر القرون ، لا يزال ساريا حتى عصرنا البائس ، بينما لا يعطى أحد الجاحظ حقه من التقدير .
4 ـ هذا يجعلنا نعقد مقارنة بين منهجي المعتزلة الذى كان يتبناه الجاحظ ومنهج السنة الذى كان عليه ابن برزدويه الأوزبكستانى المشهور بلقب ( البخارى ). هما عاشا نفس العصر . مات الجاحظ عام 255 ، وهلك البخارى عام 256 .
4 / 1 : الجاحظ والمعتزلة كانوا يطلقون وصف ( الحشوية )على أصحاب الحديث ( من مالك والشافعى وابن حنبل والبخارى ..الخ ). ( الحشوية ) تعنى الذين ( يحشون ) مؤلفاتهم باسانيد تجعل آراءهم صادرة عن النبى محمد ، فتكتسب صُدقة بين الناس ، وتصبح وحيا ودينا . أما الجاحظ والمعتزلة فهم ينسبون أراءهم الى أنفسهم . فبالتالى إذا كان رأى البخارى أن النبى كان يطوف على نسائه جميعا كل ليلة ويتابعه أصحابه يقولون إنه أوتى قوة ثلاثين رجلا فى الجماع فإن البخارى لا يقول ( أنا قلت كذا ) ولكن يصنع إسنادا يزعم أن فلانا أخبره عن فلان سابق عن فلان سابق عن فلان سابق ، وهكذا من عصر البخارى يمر فوق العصر العباسى الأول ثم العصر الأموى ثم عصر الصحابة الى النبى أنه قال أو فعل كذا . منهج كاذب وعقيم ، ولكن المغفلين الغافلين يؤمنون به ويدافعون عنه ، وحتى عصرنا الردىء . ومن ينقده أو يناقشه فهو مرتد عدو للرسول ، لأن الرسول عندهم هو ما صنعه البخارى وأمثاله ، وليس ما جاء عنه فى القرآن الكريم .
4 / 2 : ولأن ما إفتراه البخارى وغيره أصبح دينا فقد صار واجب الطاعة والايمان ، ومحصّنا من النقاش ، وأصبح أولئك الكفرة آلهة . أما الجاحظ الذى ينسب آراءه لنفسه كعلم بشرى فلا يستحق الاهتمام . لذا لا يقسم أحد بالجاحظ ، ولا يؤمن به أحد ، ولا يقدسه أحد ، مع عظمته البشرية فيما كتب وأبدع . أما الجهلاء الكاذبون فمهما قالوا فهو مقدس ودين واجب الإتّباع .
5 ـ هذه مقدمة لمجرد التنفيس بعد أن تجولنا فى مستودع الخراءة السنى ، و(الخراءة ) كلمة عربية فصيحة ، وأرها أصدق وصف لمؤلفات السنيين خصوصا فى موضوع المرأة . يبقى أن نعطى لمحة ضئيلة عن رأى الجاحظ .
أخيرا :
1 ـ نختار من كتابات الجاحظ الجاحظ رسالته " القيان" ، و (القيان ) لقب الجوارى المغنيات المطربات ، وكان لهن شأن فى العصر العباسى ، وإمتلأت بهن قصور الخلافة ورجال الدولة والمترفين والحانات والخانات . كانت تجارة ( النخاسة ) مزدهرة وقتها . يؤتى بالفتيات المخطوفات ( مغفلات بتعبيرهم وقتها )، فيشتريها التجار ، ويقوم أمثال إسحق الموصلى بشرائهن وصقلهن بتعليمهن العربية والأدب والفقه والغناء والرقص والاتيكيت لتجمع بين الجمال الحسّى والجمال العقلى . التى تنبغ منهن تُباع الى قصر الخلافة ، وقد تصبح مسيطرة على الخليفة والدولة ، مثل الخيزران أم هارون الرشيد والخلفاء العباسيين من عقبه . الأقل فيهن شأنها يكون مآلها الى الحانات والخانات تغنى وترقص وما يتبع هذا وذاك .
2 ـ سكت أئمة السُّنّة عن هذا لأنه لا يعنيهم ، واكتفوا بأحاديثهم وفتاويهم . وبعض هذه الأحاديث والفتاوى أباحت السبى ونسبت للنبى محمد عليه السلام أنه سبى النساء ، وأن صفية بنت حيى بن أخطب كانت من السبى ، وأصبحت من نصيب فلان من الصحابة فرآها النبى فأعجبته فأخذها منه . وأباح الفقهاء لمن يشترى جارية أن يتفحّص كل جسدها ليطمئن على ( البضاعة ). وهذا ما فعله المهدى العباسى حين جىء له بالخيزران لكى يشتريها . كانت الجارية يعاشرها سيدها بمجرد وقوعها بين يديه دون إعتبار لشرط ( العدّة ) ( وهذا ما إعتاده هارون الرشيد وغيره ). هذا مع أن الجارية قد تناوب عليها كثيرون من موطنها الأصلى وحتى العاصمة التى وصلتها . الغريب أن وافقهم الفقهاء فجعلوا عدة الجارية نصف عدة الحّرة . كما لو أن هناك نوعان من الحيض ، للحرة وللجارية .!
3 ـ عرض وتتبع كتابات الجاحظ فى ( فقه ) المرأة يطول ، وهو خارج عن موضوعنا .
ونكتفى بما عرض له فى رسالة ( القيان ) فى الردّ على من إنتقده في تعامله المتحرر مع النساء ، وعدم تمسكه بأقوال الفقهاء ( المتزمتين ) . وقد تعرض ـ مثلا ـ لموضوع الخلوة بالنساء فقال ان كل شيء لم يوجد محرما في كتاب الله وسنة رسوله فهو مباح مطلق ، ومعنى ذلك أن الجاحظ لم يعتبر ان من السنة كل تلك الأحاديث التى ذكرها ( الحشوية ) مالك والشافعى وابن حنبل و البخاري ومسلم وغيرهم .
ونتابع الجاحظ وهو يرد عليهم يؤكد انه لم يكن بين رجال العرب ونسائها حجاب ، وأنهم كانوا يجتمعون يتسامرون ، وأن بعضهم كان مولعا بزيارة النساء فيحمل لقب (الزير) ولكن كان ذلك بأعين الأولياء وحضور الأزواج وعفة النساء ، وظل الحال كذلك ، يتحدث الرجال مع النساء في الجاهلية والإسلام حتى ضرب الحجاب على نساء النبي خاصة ، ويقول إن النساء إلى اليوم (في القرن الثالث الهجري) من بنات الخلفاء وأمهاتهم ومن غيرهم يطفن بالبيت الحرام مكشوفات الوجه ، وذكر أن عمر بن الخطاب تزوج ابنة عمه عاتكة ، وكانت من قبل زوجة لعبدالله بن أبي بكر فمات عنها وقد اشترط عليها ألا تتزوج بعده وأنها بعد موته أقسمت ألا تتزوج ، فلما تزوجت من عمر وأقام في حفل العُرس وليمة ودعا لها المهاجرين والأنصار دخل (علىُّ) بن أبي طالب على العروس عاتكة وذكّرها بقسمها الذي آلت على نفسها فيه الا تتزوج بعد زوجها السابق ، فخجلت ، وكل ما هنالك أن عمر عاتب عليا . ويستشهد الجاحظ بهذه القصة (المذكورة في مصادر التاريخ الأخرى) على أن ذلك لو كان حراماً ما فعله على بن أبي طالب ، وذكر قصة أخرى عن الحسن بن علي ومصعب ابن الزبير والشعبي ومعاوية وعبد الملك بن مروان ، وتدخل جواري الخلافة العباسية في أمور المُلك وتعاملهن مع رجال السُّلطة : ليؤكد أن الخلوة ليست حراما إلا في مخيّلة الحنابلة الحشوية .. ( الجاحظ : أبو عثمان عمر بن بحر (ت255 هــ) رسالة القيان 54 : 63 المكتبة السلفية 1344هـــ).
اجمالي القراءات 2775