خرافة حصار قريش للهاشميين فى شعب أبى طالب ( 2 ) مناقشة روايات السيرة

آحمد صبحي منصور في الخميس ٢٦ - مايو - ٢٠٢٢ ١٢:٠٠ صباحاً


أولا : عن إبن إسحاق وسيرته المليئة كذبا
1 ـ عادة أن يبدأ التاريخ للقادة الدينيين بعد موتهم ، ويحمل هذا التأريخ بصمات العصر الذى كُتب فيه هذا التاريخ . كما لا يلبث أن يتحول هذا التأريخ الى دين ، بل يصبح أسفارا مقدسة ، مع إنه مجرد ( سيرة . ينطبق هذا فى الدين المسيحى على الأناجيل التى كتبها ( متى / مرقس / لوقا / يوحنا ) كما ينطبق على السيرة ( النبوية ) التى كتبها محمد بن إسحاق فى العصر العباسى . الفارق أن السيرة التى كتبها ابن اسحاق لم تصبح ( قرآنات ) مثلما فعل المسيحيون مع سيرة المسيح التى تحولت الى أناجيل مقدسة .
2 ـ وُلد محمد بن اسحاق بن يسار فى المدينة ونشأ بها . كان جدُّه يسار رقيقا من السبى ، جىء به من ( عين التمر ) وعاش فى المدينة ضمن ( الموالى ) ، وأنجب إسحاق ، وأنجب إسحاق ( محمد ). كان العرب ينظرون الى ( الموالى ) نظرة إحتقار ، وساد هذا فى العصر الأموى ، حيث تعصّب الأمويون للعرب ضدّ الأجناس الأخرى . دفع هذا الفرس الى المشاركة فى إسقاط الدولة الأموية ، وتأسيس الدولة العباسية ، والتى أصبح فيها الفرس ( الموالى السابقون ) يتصدرون المشهد .
3 ـ حاول الموالى فى العصر الأموى إثبات مكانتهم عن طريق العلم ، فتميزوا فيه على العرب . وفى المدينة حدث تنافس بين ابن اسحاق الفارسى ومالك بن أنس الأنصارى . وحاز الشهرة مالك بن أنس بسبب العصبية العربية . لذا فعندما سقطت الدولة الأموية أسرع إبن إسحاق بالالتحاق بالعراق فى خدمة العباسيين ، وتنقل معهم من عاصمتهم الأولى ( الكوفة ) الى ( بغداد ) العاصمة التى أنشأها أبوجعفر المنصور . ظل ابن إسحاق فى خدمة العباسيين الى أن مات عام 152 ، وقيل 151 . ودُفن فى مقبرة كبار القوم .
4 ـ الخليفة أبو جعفر المنصور هو المؤسس الحقيقى للدولة العباسية ، والذى أدرك مبكرا أهمية صناعة الروايات لخدمة دولته ، وقد كان فى شبابه من مؤلفى الأحاديث التى ( تبشّر ) بالدولة العباسية ، بل إنه حرص على تسمية ابنه ولى عهده ب :( المهدى )، طبقا للأحاديث الى صنعوها تبشر بالمهدى الذى يملأ الأرض عدلا ، بعد أن ملأها الأمويون جورا . إلتصق ابن إسحاق بولى العهد ( المهدى ) وألّف له ( السيرة ) ، أول كتابة تاريخية عن النبى محمد عليه السلام . وفيها رسم شخصية للنبى محمد عليه السلام تناقض القرآن ، وتجعله أشبه بأبى جعفر المنصور .
5 ـ ومن مكر ابن أسحاق فى سيرته أنه ( رصّع ) رواياته الى صنعها باشعار ، حتى يُخيّل للقارىء أنها لم تكن أحداثا تاريخية بل مبارات شعرية . وابن كثير فى بداية العصر المملوكى عبّر عن شكوكه فى بعض هذه الأشعار . لكنها ـ فى نظرنا ـ أكبر دليل على مكر ابن إسحاق . كان الشعر وقتها أكبر مجال للتسلية ، وبالتالى فلا بد للمهدى أن يستهويه هذا الشعر ، ثم إن هذا الشعر سيشغل القارىء عن التحقق من صدق الروايات .
6 ـ إبن إسحاق لم ينقل سيرته من كتاب ، بل من الذاكرة ، أو بتعبير أصح كتب السيرة من دماغه . عاش ابن إسحاق ومالك بن أنس فى عهد الرواية الشفهية للأحاديث وفيها أحداث من سيرة النبى محمد عليه السلام . وكما أن سيرة ابن إسحاق هى الأولى غير المسبوقة فى التأريخ للنبى محمد عليه السلام فإن ( موطأ مالك ) هو أول كتاب فى الأحاديث . واللافت للنظر شيئان :
6 / 1 : إنهما ـ مع الخصومة بينهما قد زعما أنهما سمعا من محمد بن شهاب الزهرى ، وقد حققنا هذا الموضوع وأثبتنا أنهما لم يريا إبن شهاب الزهرى على الاطلاق ، أى إن أول كتاب فى الحديث وأول كتاب فى السيرة مبنيان على كذبة كبرى . ولكن أكثر الناس لا يفقهون .
6 / 2 : كلاهما لم يكتب كتابه بنفسه ، بل أملاه من الذاكرة على من قام بالتدوين .
7 ـ لدينا الآن كتاب فى الحديث ( موطأ مالك ) وآخر فى السيرة ( سيرة ابن إسحاق )، تم تأليفهما فى العصر العباسى ، وهما ينسبان أقوالا وأحداثا للنبى محمد عليه السلام ، وهذا بعد موته بأكثر من قرن من الزمان . أى مرّت عصور أبى بكر وعمر وعثمان وعلى ، ومرّت الخلافة الأموية ، ولم يكن هناك شىء من ذلك على الإطلاق .
8 ـ منهجنا فى بحث سيرة ابن اسحاق وغيره هو الاحتكام فيها للقرآن الكريم . القصص القرآنى الخاص بالنبى محمد عليه السلام وعصره جاء فى لقطات متفرقة لم تؤرخ من البداية الى النهاية ، أى هناك فجوات تاريخية ليست مذكورة فى القرأن الكريم . بالنسبة للسيرة ـ حين نعرضها على القرآن الكريم ، ستجد أحداثا مذكورة فى القرآن ولم يذكرها إبن إسحاق ، وستجد أحداثا ذكرها ابن إسحاق وليست فى القرآن الكريم . وعموما فروايات السيرة الاسحاقية منها ما يخالف القرآن الكريم ، ومنه هذا الموضوع عن حصار قريش لبنى هاشم ، ومنها ما يتفق مع القرآن الكريم ، ثم منها ما لا يتفق وما لا يختلف ، وهنا يكون منهج البحث التاريخى فى فحصها . وهذا مجال تخصصنا .
ثانيا : موجز الأكذوبة الاسحاقية عن حصار قريش لبنى هاشم
قال الذى روى عن إبن إسحق :
1 ـ ( حدثنا أحمد: حدثنا يونس عن ابن اسحق قال: فلما مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذي بعث به، وقامت بنو هاشم، وبنو المطلب دونه، وأبوا أن يسلموه، وهم من خلافه على مثل ما قومهم عليه، إلا أنهم أنفوا أن يستذلوا، ويسلموا أخاهم لمن فارقه من قومه، فلما فعلت ذلك بنو هاشم، وبنو المطلب، وعرفت قريش أنه لا سبيل إلى محمد صلى الله عليه وسلم معهم، اجتمعوا على أن يكتبوا فيما بينهم على بني هاشم وبني المطلب ألا يناكحوهم ولا ينكحوا إليهم، ولا يبايعونهم ولا يبتاعون منهم، فكتبوا صحيفة في ذلك، وكتب في الصحيفة عكرمة بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وعلقوها بالكعبة ... ثم عمد أبو طالب فأدخل الشعب إبن أخيه وبني أبيه ومن اتبعهم من بين مؤمن، دخل لنصرة الله، ونصره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بين مشرك يحمي، فدخلوا شعبهم، وهو شعب في ناحية من مكة ... وحصروهم في شعبهم وقطعوا عنهم المادة من الأسواق، فلم يدعوا أحداً من الناس يدخل عليهم طعاماً ولا شيئاً مما يرفق بهم.. ففعلوا ذلك ثلاث سنين حتى بلغ القوم الجهد الشديد، وحتى سمعوا أصوات صبيانهم يتضاغون من وراء الشعب، وكان المشركون يكرهون ما فيه بنو هاشم من البلاء، حتى كره عامة قريش ما أصاب بني هاشم، وأظهروا لكراهيتهم لصحيفتهم القاطعة الظالمة الذي تعاهدوا فيها على محمد صلى الله عليه وسلم ورهطه، وحتى أراد رجال منهم أن يبرءوا منها، ) .
تعليق : الراوى هنا هو ( أحمد ) وهو سمع شفويا من ( يونس )، و( يونس ) سمع شفويا من إبن إسحاق . وتخيل أن إبن إسحاق يروى كل هذه الأحداث باسنادها من ذاكرته ، ثم ينقلها عنه يونس ، ثم ينقل أحمد عن يونس .
2 ـ ( حدثنا أحمد: حدثنا يونس عن إبن إسحق: فأقامت قريش على ذلك من أمرهم في بني هاشم وبني المطلب سنتين أو ثلاثاً، حتى جهد القوم جهداً شديداً لا يصل إليهم شيء إلا سراً، أو مستخفياً ممن أراد صلتهم من قريش . )
3 ـ ( حدثنا أحمد: حدثنا يونس عن ابن اسحق قال: ثم إن الله عز وجل برحمته أرسل على صحيفة قريش التي كتبوا فيها تظاهرهم على بني هاشم، الأرضه، فلم تدع فيها اسم هو لله عز وجل إلا أكلته ... فأخبر الله عز وجل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبر أبا طالب، فقال أبو طالب: يا ابن أخي من حدثك هذا، وليس يدخل إلينا أحد ولا تخرج أنت إلى أحد، ولست في نفسي من أهل الكذب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني ربي هذا، فقال له عمه: إن ربك لحق، وأنا أشهد أنك صادق.. ) وتمضى الرواية فتجعل أبا طالب يذهب للقوم ويخبرهم بما حدث لصحيفتهم . فكشفوا عنها فتبين لهم أن حشرة ( الأرضة ) أكلتها . وانتهى أمر الحصار .
تعليق : إبن إسحاق يقحم الوحى الالهى فى هذه الأكذوبة ، أى يفترى كذبا على رب العزة جل وعلا .
ثالثا : مصدر هذه الأكذوبة
أعلن عبد الله بن الزبير نفسه خليفة ودار الصراع بينه وبين عبد الملك بن مروان . كان بنوهاشم يعيشون فى مكة مع ابن الزبير، وقد رفضوا أن يبايعوا لابن الزبير، فكان على وشك إحراقهم فى شعب أبى طالب ، ولأنه لا توجد أشجار فقد جمع الخشب واستعد لإشعال النار . أنقذتهم حملة أرسلها المختار بن عبيده المسيطر وقتها على العراق . من المحتمل ـ جدا ـ أن يكون اين اسحق قد تأثر بهذه الحادثة فى صناعته لخرافة حصر بنى هاشم فى شعب أبى طالب .
رابعا : نقل المؤرخين اللاحقين عن إبن إسحق
1 ـ أول من فعل هذا إبن هشام فى سيرته وهو متوفى عام 218 ، ثم الطبرى فى تاريخه وقد توفى عام 310 ، ثم إبن الجوزى فى تاريخه ( المنتظم ) وقد توفى عام 597 ، ثم أبن الأثير فى تاريخه ( الكامل ) وقد توفى عام 630 ، ثم إبن كثير فى تاريخه ( البداية والنهاية ) وقد توفى عام 774 .
2 ـ أى إنه عبر القرون تناقل الناس هذه الأكذوبة فأصبحت من المعلوم من دينهم الأرضى بالضرورة .
أخيرا
لم يرد فى الروايات أنهم ( أكلوا ورق الشجر ) . هذا من مخترعات طبيب الأبالسة .
اجمالي القراءات 2715