دعوة الى اصلاح التعليم الديني في العالم العربي

مولود مدي في الأحد ٠٢ - سبتمبر - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

عندما يقتصر تدريس الدين في الدول العربية مثلا من وجهة نظر سنّية فقط أو شيعية, مع الاستبعاد التام لوجهات نظر شرائح الشعب الأخرى, بل واعتبارها ثقافات كافرة غريبة عن الهوية الوطنية, كما يحدث مع أقباط مصر على سبيل المثال لا الحصر, سيصبح هذا التدريس هو نوع من فرض عقائد وأراء وتصورات للدين على حساب تصوّرات أخرى, فضلا عن أنه يصبح تدريس دين معيّن واهمال الأديان الأخرى لا يختلف عن جعل تدريس الدين كالبرمجة و استخدام التدريس وسيلة تعبئة ايديولوجية تصنع من الطالب في المستقبل اداة مسلوبة الارادة سيستخدمها الايديولوجية من أجل مصالحها وخاصة ان لم يتعلّم الطالب أسلوب المناقشة والجدل ليكون عبارة عن جهاز استقبال.

ليس فقط معالجة اشكالية الإرهاب التي دفعتني الى انجاز هذا البحث, ان منهج تدريس الوقائع الدينية الإسلامية عامل مهم وحاسم حتى في العالم الغربي, اذ طرق تعليم هذه الوقائع هي التي تحدد ان كان المسلمون في أوروبا أو أمريكا على استعداد للإندماج مع المجتمعات التي يعيشون فيها, فمنذ عقدين من الزمن نجد أن ما يفعله المسلمون بدينهم شبيه بما فعله سابقا اليهود بعد السبي على يد نبوخذ نصر البابلي, وبسبب ذلك الاضطهاد تحولّت اليهودية الى هوية وليس مجرد دين هدفه توثيق الصلة مع الله, يعني حدث انحراف في علاقة الدين بالفرد, والمسلم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي أصبح يرى أيضا دينه كهوية عصبية تعادي الاخر وتثير المشاكل أينما حلّ و ارتحل, وهذا ما أعاق اندماجه مع مجتمعه غير الإسلامي وأصبح موضع اتّهام عند كل حادثة ارهابية. 

أرى بأن الحل الذي قد يتبادر على ذهن القارئ "السماح لمجموعة معيّنة بعدم حضورها للدروس الدينية المقدّمة" ليس بحلّ على الإطلاق, فلا فرق بينه وبين الدعوة الى الفصل بين التلاميذ لمجرد الاختلاف الديني والطائفي, لأنه سيغذّي الشعور التمييزي بين التلاميذ لمجرد الاختلاف في القناعات الدينية والطائفية,وهو ظلم بحدّ ذاته, فلماذا يحق للمسلم دعوة المسيحي الى عدم حضوره لدروسه الدينية, ولا يحق للمسيحي أن يفعل نفس الشيء مع المسلم؟. فاذا كان الجواب هو ان بلداننا ذات اغلبية مسلمة, او المعيار هو الأغلبية العددية, لماذا تطالب الأقليات الإسلامية في الغرب بادراج تدريس مبادئ الاسلام واللغة العربية في المناهج التعليمية الغربية؟, ودون ان ننسى بأن دعوات الى عدم حضور دروس الدين الإسلامي هو تشجيع غير مباشر للتسرّب المدرسي واللامبالاة ويصبح الطالب يختلق اعذار مختلفة لعدم حضوره لدروس الفلسفة والتاريخ, حتى ان الدول الغربية كبلجيكا أصبحت لا تدعم مثل هذه الحلول وهي اكثر دولة لاقت صعوبات في حل مشكلة التعارض بين علمانية الدولة وبين طريقة تعليم الوقائع الدينية. 

أنا أعتقد بأن أمثال هذه الحلول تبيّن بأن هناك خلل كبير في فهم دور المؤسسة التعليمية ودور المناهج الدينية في مجتمعاتنا, فهل دور المناهج الدينية هو الدعوة الى التسامح والتعايش والاحترام وكافة القيم النبيلة التي تبني مجتمعا حرّا وصحّيا؟ فاذا كان كذلك فلماذا اذن ندعوا المختلف دينيا الى عدم حضور الدروس الدينية التي تخالف قناعاته ان كان الهدف هو ترسيخ قيم انسانية تشترك فيها جميع الديانات؟ واذا لم يكن هذا هو دور المناهج الدينية؟ فماذا تفعل اذن هذه المناهج في المؤسسات التعليمية المدنية التي هي نتاج علماني خالص والتي وجدت لغرض التعليم الذي هو حق كل البشر من دون تمييز؟. 

لا يمنع أبدا الفصل بين الدين والدولة, من أن يكون الدين حاضرًا في المدرسة, وبما أن مفهوم الدولة يعني مؤسسات لا تتبنى أي ديانة ولا أي مذهب, يجب ايجاد صيغ لتدريس الدين في مجتمعاتنا بديلة عن المناهج الحالية التي تهدم مفهوم الدولة نفسها, وتهدم قيم المواطنة والتعدّدية, والتي تحرّض على الطائفية بين أبناء الوطن الواحد, والتي تسلب استقلالية الانسان العربي وحقّه في الاختيار, بل وأصبحت طريقة تدريس الدين عندنا سبب في صناعة أفراد مستعدّين على معاداة النظريات العلمية التي يعترف بها اعترافا واضحا في الأوساط العلمية... وفي أسوء الاحوال تصبح مدارسنا مفارخ للإرهاب بتلقين تعاليم لفقهاء لا تمت للإنسانية وجوهر الدين قبل ان تكون لا علاقة لها بالمنطق ولا بالتفكير العقلاني. 

تعليم الوقائع الدينية يجب أن يستند على خطوطٍ عريضة واضحة لا تقبل التأويل ومنها؛ الحياد التام والصارم للدولة والسلطة العمومية, واستقلال مؤسسات الدولة بالنظر الى السلطات الدينية, واستقلال الأديان بالنظر الى الدولة. والاعتراف بالحرية الدينية, والحرية اللادينية, بالإضافة الى احترام استقلالية الوعي الفردي سواء كان الفرد رجلاً أو امرأةً بالنظر الى السلطات الدينية والفلسفية, وبما أن غاية التدريس هي صنع فرد واعي ونقدي يجب فتح المجال لممارسة النقد المطبّق على جميع الأديان, و البحث الحر في أفكارها وفسح المجال أمام المناظرات بين كافة المتخالفين. 

هذا يعني الخطوة الأولى لإصلاح مناهج تدريس الدين, هو الخروج من الإهتمام شبه المقصور على التبشير التقليدي أو المهمة الدعوية الى الانفتاح الواضح على مجموع التجربة الدينية الإنسانية والحياد تجاه الأفكار الدينية المختلفة, وحتى على الرؤى غير الدينية, يجب أن يصبح التعليم الديني يفهم تبعا للمهمة التربوية للمدرسة أكثر مما يفهم تبعًا للمهمة الدعوية للمساجد, يعني يجب ان تكون المناهج متوافقة مع المهمة الأصلية للمدرسة بينما التبشير يجب تركه للمؤسسة الدينية, لأن التبشير بالإسلام السنّي او الشيعي او اي دين كان بالعموم هو ليس من مهمة المدرسة ولا الدولة.

بريطانيا هو أحسن مثال لما اقترحته, فعلى الرغم من ضغوطات اليمين الديني هناك, لكن شهدنا هناك تطوّرًا لتربية متعددة الأديان, مع الاعتراف الرسمي في البرامج الوطنية بستة تقاليد دينية على الأقل, وهي المسيحية, الاسلام, الهندوسية, اليهودية, البوذية, والسيخية. هناك نجاح في اقامة التعليم الديني على التعددية الدينية الفعلية دون اغفال المكون الديني والثقافي للهوية الوطنية, لأن الهدف كان المساهمة في تحسين التواصل بين الجماعات التي تشكّل المجتمع التعددي والسماح بوجود فهم أفضل للدين, والسماح للتلاميذ بأن يشكّلوا بأنفسهم رؤيتهم الخاصة للعالم بعد تعرّفهم على أديان العالم على اختلافها.. وهكذا خلقت بريطانيا مجتمعا متعددا ساند مسلمًا لكي يصل الى حكم احد اهم المدن في العالم وهي "لندن" من دون النظر الى خلفيته الدينية.
وحتى أوضح اكثر النموذج البريطاني, تم صياغة الأسس التي تقوم عليها المناهج الدينية على خمس مبادئ ذكرت في كتاب " الحياة معا " وهذا الكتاب صِيغ للمعلم البريطاني أي كدليل للمعلّم, وتلك الأسس هي:

- الخاصية الوصفية: أي الوصف والتلاقي الحي مع المواقف الدينية وغير الدينية, من حيث هي وقائع تاريخية وثقافية.
- الخاصية الموضوعية: اي انتاج فهم, وليس التشجيع على اتخاذ شكل من أشكال الالتزام.
- الخاصية النقدية: التوعية بوجود عدد من وجهات النظر.
- الخاصية التجريبية: ربط تدريس الأديان بالاهتمامات اليومية للتلاميذ.
- الخاصية الأخلاقية: القائمة على الاحترام اذ تدريس موقف ديني أو غير ديني لا يجب ان يربك من يوجد في القسم من أتباع.

بطبيعة الحال ليس النموذج البريطاني الوحيد الذي يمكن الإستفادة منه, هناك النموذج الدانماركي المثير للإهتمام أيضا, الدانمارك بلد مسيحي لوثري بنسبة تسعين بالمئة, ومع ذلك لو نطّلع على مناهج تدريس الدين هناك, نجد أنه يخصص للأديان البدائية من 10 الى 15 درس وللدين المسيحي ودينين غير مسيحيين 25 درس و 25 درس للتصورات الدينية الأخرى واللادينية, هذا يسمح للطالب الدانماركي بتشكيل نظرة شاملة عن كل أديان العالم, وفرص أكبر للتعرف على الأخر والتعايش معه مهما كان دينه, وكما قلت, هناك نماذج اخرى يمكن الإستفادة منها كالنموذج اليوناني مثلا الذي رخّص عام 2002 لمعلّمين غير ارثوذوكسيين (بروتستانتيين أو كاثوليك) لإعطاء دروس دينية في المسيحية الأرثوذوكسية التي تشكّل المذهب الغالب في اليونان. 

أما مسألة ابعاد الدين تماما عن المدرسة واحالة موضوع تدريسه للمساجد, فهذه معالجة سطحية وخطيرة في نفس الوقت, لأن الدين يشكّل احد اطراف وعي الإنسان وهو مكوّن أساسي لهوية الشعوب العربية, ثم ان استقلال المساجد بموضوع تدريس الدين سيتسبب بتأزيم المشكلة على طريقة المثل " جاء يكحّلها عماها " لأننا نعلم ان المعابد الدينية عندنا هي من اكبر مراكز لتجمّع الدوغما والتعصّب على اي حال, وستصبح عملية مراقبة ما يتم تدريسه هناك من تعاليم شبه مستحيلة.. ان الدين يؤثر في كل دوائر النشاطات والتعبيرات, والتاريخ بيّن أن الدين شارك حتى في صنع الحداثة الغربية, فلماذا لا نشارك في صنع حداثتنا نحن أيضا ومن موروثنا الزاخر بالأنساق الرمزية والعقلانية؟.

وفي الختام, أكرر أن ليس فقط من أجل مكافحة الإرهاب أو لمعالجة مشكلة الاندماج في المجتمعات الغربية يجب اعادة النظر في طرق تعليم الوقائع الدينية الإسلامية, بل الهدف أعم وأشمل, وهو احترام حرية ووعي التلاميذ وعائلاتهم, واحترام لحرية الفكر والتربية على الفحص الحر, وتنمية الحس النقدي, واليوم نحن في عالم معاصر تثار فيه المئات من القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية و الاقتصادية التي تحتاج الى دراسة عملية محايدة لا يكون الدين فيها مصدرا للاضطراب والتقسيم والتشتّت.

اجمالي القراءات 4124