يمر رمضان كل عام ويثار نفس السؤال عن معنى آية.."وعلى الذين يطيقونه فدية"..فاختلف الشيوخ حول المعنى لكن اتفقوا في المبدأ..قالوا أن مبدأ الآية هو التخفيف المؤقت والمحدود..ثم تغير حاله بالنسخ أو بالتخصيص، أما اختلافهم في معنى يطيقونه سيظل أبديا حين شرعوا في تفسير الآية وفقا لأحاديث البخاري وفتاوى الأئمة، بينما لم يعرضوا الكلمة على لغة الشارع بأمانة ، بحيث تلاعب بعضهم باللغة العربية وكيّفوا اللفظ على معنى محدد سلفا بما يتفق مع الفتاوى والروايات.
يهمنا من أمر المختلفين هم الصنف الأخير الذي تلاعب باللغة، وقالوا أن يطيقونه بمعنى لا يطيقونه، وللتشويش قالوا الطاقة بتحمل ومشقة، بدليل أن جذر يطيقونه من أطاق، ويطوقونه من طاق، وأطاق بها همزة تعدي قلبت المعنى للعكس وبالتالي أصبح معني.."وعلى الذين يطيقونه فدية"..يعني الذين لا يطيقونه فدية أو تحملوه بمشقة..والرد على ذلك في ثلاثة عشرة نقطة:
أولا: همزة التعدي ليست في الكلمة ولكن في الجذر المذكور، وهو مختلف عليه، قال ابن جني أحد علماء اللغة " أما عين الطاقة فواو كقولهم: لا طاقة لي به ولا طوق لي به وعليه قراءة (يطوقونه) فهو يفعلونه"..(تفسير الرازي 5/ 247) والفعل من القدرة وليس من العجز، بينما قال الثعلبي في تفسيره .." وروى ابن الأنباري عن ابن عبّاس يَطَّيَّقُونَهُ بفتح الياء الأوّل وتشديد الطّاء والياء الثانية وفتحهما بمعنى يطيقونه. يقال: طاق وأطاق وأطيق بمعنى واحد"..(تفسير الثعلبي 2/64)
هنا ابن عباس لا يفرق بين طاق وأطاق..بالتالي لا فرق بين يطيقونه ويطوقونه، والناتج المترتب على ذلك أن الرجل يتهم المفرقين بين تلك المعاني بالتلاعب..!
بل أن الواحدي نفى ذلك أيضا بطريق آخر.." قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أي: يطيقون الصيام، يقال: أطاق يطيق إطاقة وطاقة، كما يقال: أطاع يطيع إطاعة وطاعة.
والطاقة والطاعة: اسمان يوضعان موضع المصدر.
وقوله: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} هذه قراءة أهل المدينة والشام، والمعنى: وعلى الذين يطيقونه فأفطروا فدية طعام.
والفدية: البدل"..(تفسير الوسيط للواحدي 1/ 274) مثله في (الوجيز للواحدي صـ 150)
ومجمل كلام الواحدي أن طاق وأطاق بمعنى واحد كلاهما من الجذر (طاقة) بالقياس على (طاعة) وهي مقاربة لغوية لا تهتم بحال وألسنة القبائل التي ربما تعطي معانٍ مغايرة لتلك الألفاظ زمكانيا، والأسلم كما رآه التفسير حسب قواعد اللغة بمحاكمتها لنظائرها وليس بإسقاط البعض لها فكلام الله لم ينزل بلسان قبيلة بل بلسان فهمته كل القبائل العربية، وفي تقديري أن المخالفين الذين فرقوا بين تلك المصطلحات قدّموا القبيلة على اللسان..
أضيف أن القول بجذر الإطاقة ليطيقونه وحمله على المشقة هو من التفاسير الحديثة كتفسير المنار لرشيد رضا والظلال لسيد قطب عن محمد عبده ، أما التفاسير القديمة فقالت أن يطيقونه بمعنى "القدرة" كمقاتل بن سليمان والجامع لابن وهب القرشي والطبري وأبي حاتم والماتوريدي والسمرقندي والثعلبي والمعاني للزجاج والهداية لأبي محمد القرطبي والوسيط والوجيز للواحدي والماوردي نسبة لابن عمر وعكرمة والشعبي والضحاك...فكيف فات على كل هؤلاء ما جزم به سيد قطب وصاحب المنار؟..ومن الأعلم باللغة ..السابقون أم اللاحقون؟
ثانيا: قرأ ابن عباس الآية "وعلى الذين يطوقونه" وعلى تلك القراءة –حسب قولهم- فمصدر الفعل طاق أي استطاع الصيام ولم يُرِد فعليه الفدية..وهذا غير صحيح ، فيطوقونه هنا تعني عدم القدرة في محل التكليف كما في قوله تعالى.." سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"..[آل عمران : 180] والمعنى كما قال الفخر الرازي " أي يؤمرون بأداء ما منعوا حين لا يمكنهم الإتيان به، فيكون ذلك توبيخا على معنى: هلا فعلتم ذلك حين كان ممكنا"..(التفسير الكبير 9/444)..وكما قال القنوجي في تفسيره.." وروي عن بعض أهل العلم أنها لم تنسخ، وأنها رخصة للشيوخ والعجائز خاصة إذا كانوا لا يطيقون الصيام إلا بمشقة، وهذا يناسب قراءة التشديد، وهو يطوقونه أي يكلفونه"..(فتح البيان في مقاصد القرآن 1/ 364) وكذلك الثعلبي بقوله.." وأمّا الذين قرءوا يطوقونه: فتأولوا بهم الشيخ الكبير والمرأة العجوز والمريض الذي لا يرجى برؤه فهم يكلفون الصّوم ولا يطيقونه فلهم أن يفطروا ويطعموا مكان كل يوم أفطروا مسكينا"..(تفسير الثعلبي 2/65)
وهنا وقع المفسرون في مأزق، إما قالوا يطوقونه بقراءة ابن عباس فيلزموا الجذر الذي ادعوه ويثبتوا الرخصة، وإما قالوا يطيقونه بجذر آخر يبحثوا عنه في مغارات اللغة اللامتناهية، وفي كلتا الحالتين الرخصة ثابتة والرد جاهز فورا، سأختار قراءة أخرى.
ثالثا: فقهاء المسلمين قديما فطنوا معنى الكلمة اللغوي الذي يعني (القدرة على الصيام) فقالوا أنها منسوخة بقوله تعالى" فمن شهد منكم الشهر فليصمه" ولو كانت محسومة لغويا ما تحوّجوا للنسخ.
رابعا: سبب حرص الفقهاء على نفي رخصة الفدية حديث البخاري عن ابن عمر، وتفاسير مالك والشافعي وأبي حنيفة لكلمة "يطيقونه" بأنها تعني (القدرة بمشقة) وورد عن مالك أنه حين عجز كان يفطر ويطعم كل يوم مسكينا ونفس الفتوى وردت عن الحسن البصري والنخعي وابن عباس وغيرهم..وعليه فمالك والشافعي وابن عباس لا يرون الآية منسوخة..فمن أين جاء النسخ؟
خامسا: روي أن أبي حنيفة قال بأن الرخصة للقضاء وليست للإفطار إلا على العجائز، يعني تفطر وتقضي دون إطعام سوى الشيوخ..والجواب: أن الضعف ليس للعجائز فحسب ، هناك حوامل ومرضعات ورجال ونساء ضعفاء لا يتحملون الصيام..كذلك أزمنة الصيام الطويلة التي تصل ل 16 و 20 ساعة، والأمكنة شديدة الحرارة..والوظائف الشاقة كالحدادة والفعالة.
سادسا: يستحيل أن تكون الطاقة بمعنى المشقة وقد ختم الله الآية بقوله "وإن تصوموا خير لكم"..فهذا اختيار القادر وليس المُتعَب الضعيف، وإلا فهي رمي النفس في التهلكة من أجل الصيام، هل يجوز مثلا القول.."أحل لكم شرب الخمر والسجائر والحشيش وإن تمنعوه خير لكم"...ونقول أن الحِلّ بمعنى المنع؟..فلماذا منعت في الآخر إذن والحِلّ عُرِف أنه للقادر والراغب.
سابعا: قوله تعالى في نفس الآية " فمن تطوع خيرا فهو خير له" يعني أن يطيقونه تعني القدرة، فلا تطوع للضعفاء بل للقادرين..وهذا أحدث مشكلة لأنصار نفي الرخصة وحملها على المشقة، وهي أنهم جعلوا التطوع منسوب للصائم القادر بمشقة..وهذا لا يستقيم، فالتطوع من حال الطاعة والاستطاعة، وليس من الضعف والعجز.
ثامنا: كلمة يطيقونه موجودة في كتب التراث بمعنى "القدرة" في تفسير عدة آيات منها الآية 12 سورة المجادلة "ياأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا من بين يدي نجواكم صدقة" بحديث مرفوع جاء رجل فيه إلى النبي يسأله مقدار الصدقة قال له : دينار، قال (لا يطيقونه) فقال: نصف، قال (لا يطيقونه) فخفف الرسول عنه إلى شعيرة من ذهب..أي بمقدار رخيص جدا يصل لجزء من 72 جزء من الدينار، فلو كان معنى يطيقونه القدرة بمشقة فلماذا نزل الرسول من دينار إلى الشعرة؟
تاسعا: القائلون بالنسخ لم يراعوا تيسير القرآن في الصيام بقوله " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر".. [البقرة: 185] فعلامَ النسخ في محل التيسير وهو يلغي الرخص الثلاث، ليست فقط الفدية، فاليُسر الذي أراده الله هنا ملحقا بتقرير الرخص وهو أليق.
عاشرا: بعض الفقهاء حمل كلمة "يطيقونه" للمريض والمسافر، أي أن قوله تعالى.."فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين "..[البقرة : 184] أي الذين يطيقونه من المرضى والمسافرين، وهذا غلط، فالفدية معطوفة على المريض والمسافر، والعطف يعني المغايرة، ولو كانا واحدة فالآية تصبح كالتالي.." .."فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه (منهم) فدية طعام مسكين "..فالإشارة جاءت في محل التعميم والشمول لا التخصيص والإفراد..
حادي عشر: القول بالنسخ وتخصيص الفدية للمريض والمسافر صدر من فقهاء يعلمون جيدا أن معنى "يطيقونه" أي "يقدرون عليه" وكلمة المشقة أضيفت بتحكم لغوي لكي يتناسب ذلك مع روايات البخاري والمأثور من تفاسير بعض السلف، أي صرف معنى الطاقة لنفيها هو عبث باللغة لمآرب مذهبية.
ثاني عشر: لهمزة التعدي نوعين عام وخاص، فالعام ما هو متعدى بذاته كفعل أعطى وأهدى وأفلس..إلخ ، والخاص هو ما يوجه المعنى بدون نفي الأصل، كمضى أمضي ، وصرف أصرف، ووجد أوجد..هنا تعدي لم ينف الأصل لكن يغير المعنى حسب السياق ورغبة المتكلم في التعبير عن نفسه، اي لا وجود في النص لهمزة تعدي قلبت المعني للعكس، فلا وجاهة إذن بالقياس على مصطلحات أخرى كمقسط وقاسط..
ثالث عشر وأخير: يطيقونه من فعل طاق، كما يطيفونه من فعل طاف، ويطيعونه من طاع، ويهدئونه من هدأ ، هذا فعل ثلاثي أسمائهم كالتالي (طائقون- طائفون – طائعون- هادئون) لاحظ توحد الأسماء والأفعال، فلو أضفنا همزة التعدي للفعل لن يتغير المعنى (أطاق - أطاف – أطاع -أهدأ) ومثلها جالسون، (جلس –أجلس – يجلسونه)..وهذا التطابق يثبت أن بعض اللغويين تلاعبوا بمعنى كلمة "يطيقونه" لإخراجها من ذلك السياق إلى معنى آخر أراده الفقهاء.
وهذا التلاعب أيضا ثابت في ردهم على استدلال خصومهم بقوله تعالى "ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به" في سياق إثبات أن الطاقة بمعنى القدرة، فقال المتلاعبون أن الطاقة ليست بمعنى القدرة بل "التحمل بمشقة" خشية تعارضها مع تفسيرهم السابق لآية الصيام..وبالتالي حسب كلامهم فالآية تقول " ربنا لا تحملنا ما (يصعب علينا تحمله)" وفرقوها عن القدرة..بينما هذا عبث باللغة، فلو لم تقدر على شئ يصعب عليك تحمله، ولو صعب عليك تحمل السير لن تقدر عليه، ولو لم تقدر على حمل الأوزان يصعب عليك تحملها، ولو صعب عليك تحمل الطعام الردئ لن تقدر عليه، ولو لم تقدر على ضرب فلان يصعب عليك تحمله....وهكذا..المعنى واحد بلفظ مختلف
واضح التلاعب الذي أحدثه الفقهاء لأغراض مذهبية وتقليدية، وقد وقع ضحية ذلك التلاعب بعض أذكياء العصر الذين صدقوا المتلاعبين دون استقصاء سليم ومجرد من مصادر اللغة الأصلية، ومختصر القول أن الله لو أراد الرخصة لغير القادرين لقال "لا يطيقونه" أو حمل القدرة للمريض والمسافر، لكن هذا لم يحدث، فكلمة يطيقونه ليست منفية، وفرق الله بين كفارة القضاء والفدية فاللمريض والمسافر قضاء، وللقادر فديه، والحكمة في عدم تكليف المرضى والمسافرين بالإنفاق أعلى من جهدهم، بينما القادر يكفل الناس برغبته في الفطور..وإن تطوع خيرا فهو خير له، وإذا صام فهو خير له ...