مفهوم الأرحام بين التراث والقرءان – أولي الأرحام والوصل والقطع
في البحث عن الإسلام – مفهوم الأرحام بين التراث والقرءان – أولي الأرحام والوصل والقطع – الجزء الثاني

غالب غنيم في الأحد ٢٧ - مايو - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

في البحث عن الإسلام – مفردات – مفهوم الأرحام بين التراث والقرءان– أولي الأرحام والوصل والقطع – الجزء الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد والشكر لله رب العالمين

( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
) الزمر - 36

وأكرر ما قاله تعالى – يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

وبعد،
______________

أولي الأرحام :

مفردة " أولي – أولو " تدل على امتلاك صفة معينة أو شيء محدد، فأولي العلم هم من يمتلكون العلم في فرع من العلوم، وأولو القربى من لهم أقرباء، وأقرب آية تفصّل مفهوم " أولو " في قوله تعالى :
(
قَالُواْ نَحۡنُ أُوْلُواْ قُوَّةٖ وَأُوْلُواْ بَأۡسٖ شَدِيدٖ وَٱلۡأَمۡرُ إِلَيۡكِ فَٱنظُرِي مَاذَا تَأۡمُرِينَ ) النمل – 33

 حيث من الواضح أنهم يمتلكون قوةً وبأس شديد، أي قدرة على الصمود والثبات، وكذلك نرى في قوله تعالى تفرقة بين أولي الأرحام وأولي القربى كفئات مختلفة كما في قوله تعالى
(
وَإِذَا حَضَرَ ٱلۡقِسۡمَةَ أُوْلُواْ ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينُ فَٱرۡزُقُوهُم مِّنۡهُ وَقُولُواْ لَهُمۡ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا ) النساء – 8

فأولو القربى شاملة لكل من لك معهم قرابة بعيدة كانت أو قريبة، ضعيفة كانت أو قوية، وهذا نستشفه من قول النبي لمن حوله من قومه (
ذَٰلِكَ ٱلَّذِي يُبَشِّرُ ٱللَّهُ عِبَادَهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِۗ قُل لَّآ أَسۡ‍َٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًا إِلَّا ٱلۡمَوَدَّةَ فِي ٱلۡقُرۡبَىٰۗ وَمَن يَقۡتَرِفۡ حَسَنَةٗ نَّزِدۡ لَهُۥ فِيهَا حُسۡنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ شَكُورٌ ) الشورى – 23

ومنه "أولي"تشير الى امتلاك رابط بين الشخص وصفة أو شيء محدد بغض النظر عن حجم وقوة هذه الصفة، فأولي العلم ليس شرطا أن يحيطوا بكل العلوم، بل بجزئية يتخصص فيها، ولهذا أَتْبع قوم سبأ امتلاكهم القوة بالبأس، أي حتى لو ضعفت قوتهم فبأسهم سيستمر.

ومما سبق في البحث الأول عن الرّحِمِ يكون من اليسير علينا أن نفقه مدلول " أولو الأرحام " هنا، وهم من عندهم علاقة مباشرة – وأشدد على مباشرة- بِرَحِمِ أنثى ! وهذا سنثبته ونبينه أكثر أدناه، فالعلاقة هنا ارتبطت بالرّحِمِ ولم ترتبط بالقربى، وإلا لسمّاهم أول القربى بديلا عن أولي الأرحام، ولا ترادف كما نعلم، فأولي الأرحام ليسوا الذين لهم اقرباء مهما قربت العلاقة أو ضعفت كما في أولي القربى، بل هم من ارتبطوا برَحِمِ أنثى واحدة، وهي عادة ما تكون الأم، ولهذا نرى في قوله تعالى عن نساء النبي أمرا بكونهن أمهات المؤمنين آنذاك، أي جعلهن من الأرحام لكل المؤمنين في قوله تعالى :
(
مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ * ٱدۡعُوهُمۡ لِأٓبَآئِهِمۡ هُوَ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِۚ فَإِن لَّمۡ تَعۡلَمُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمۡۚ وَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٞ فِيمَآ أَخۡطَأۡتُم بِهِۦ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتۡ قُلُوبُكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا * ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَأَزۡوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمۡۗ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ إِلَّآ أَن تَفۡعَلُوٓاْ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِكُم مَّعۡرُوفٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا ) الأحزاب – 4:6

ويجب أن نرتل هذه الآيات جيدا لنفقهها ولا نعجل في الحكم، ففي بدايتها ينفي الله تعالى أن تكون الزوجة في مقام الأم بتاتا، ظهارا كان أو غيره، فزوجتك هي زوجتك، ولا سبيل الا الطلاق للتفريق بينكما، وهذا هو قول الحق، وليس كلاما مفترى، وحين نجعل منهن كأمهاتنا، يقول تعالى أن ذلك قولنا بأفواهنا – أي افتريناه عليه – وبعد ذلك يتحدث عن أزواج النبي بكونهن أمهات للمؤمنين، وهنا إقرار إلهيّ لا شأن لنا به إلا أن نأخذ به، وله أسباب عامة تم تفصيلها في سور أخرى لن نتطرق لها هنا، وأسباب خاصّة سنأتي عليها هنا، فالمهم أنهن أصبحن أمهات للمؤمنين، أي من ضمن نطاق أرحامهم كما أمهاتهم اللاتي ولدنهم.

ولكن لو توقفنا قليلا هنا، وتدبرنا بعمق أكبر، في الهدف الرئسيّ من فرض هذه العلاقة بين أزواج النبي ومن حوله من المهاجرين والأنصار، لفقهنا الغاية من هذا الأمر الإلهيّ بيسر، فهنا مهاجرين من قوم النبي ممن آمن معه، وهناك من استقبلوهم ونصروهم، وهما قومين مختلفين، والحكمة هي التأليف بين قلوبهم، كما قال تعالى (
وَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡۚ لَوۡ أَنفَقۡتَ مَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا مَّآ أَلَّفۡتَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيۡنَهُمۡۚ إِنَّهُۥ عَزِيزٌ حَكِيمٞ * يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَسۡبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ) الأنفال – 63:64
فحين أعلن لهم جميعا من أنصار ومهاجرين أن أزواج النبيّ أمهاتهم، أصبحوا جميعا يدخلون في دائرة واحدة من " أولو الأرحام "، ولهذا يُنهي حديثه تعالى بالقرار النهائيّ وهو (
وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ )، بكونهم جميعا ارتبطوا برحِمِ أمٍّ توحّدهم وتجمعهم.

ويقول تعال
ى : ( وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ مَعَكُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ مِنكُمۡۚ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ ) الأنفال – 75

من هذه الآية نرى الإقرار الإلهيّ بأن الذين هاجروا من بعد ذلك هم منهم – أي من المهاجرين والأنصار معا، ولهذا استخدم مفردة " منكم " ثم اتبعها بنسبتهم لأولو الأرحام، حيث أنهم عاصروا النبيّ وأزواجه فهم كانوا ولا بدّ منهم في تلك الدائرة.

أخيرا وليس بآخرا، يتبين لنا من كل ما رتلناه وبحثا فيه حتى هذه اللحظة أن أولي الأرحام ارتبطت بالرّحِمِ مباشرة الى درجة جمعت قومين مع بعضهما البعض تأليفا بين قلوبهم بأمر من الله تعالى، ولهذا قلت أعلاه أن أولي الأرحام ارتبطت مباشرة بالرّحِمِ وليس بالقربى !
والخلاصة السابقة لأوانها، والتي سنثبتها في البحث اللاحق، أن أولي الأرحام ارتبطت مباشرة بالأم أو الوالدين.!


______________

الوصل والقطع :

حقيقة، أنني كنت قد بحثت في هاتين المفردتين قديما، في أول بحث لي عن الصلوة، ولهذا ارتأيت أن آتي بما بحثته هناك لنرى مصداقيته، فأقرب ما يفصل لنا هذه الكلمة من كتاب الله تعالى العزيز هي قوله تعالى
 (فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ ) هود – 70 ، والتي بكل بيان نفهم منها أن الوصل هو أن يتم القرب من الشيء، او الإقتراب منه، أو أن يتم تقريبه الى أحد ما كما قال تعالى (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) القصص – 51

فالله تعالى وصَّلَ لهم القول، اي تم تبليغهم به بأن سمعوه أو رأوه مكتوبا، من التقريب للشيء، والقول إن اقترب من الإنسان فهو يسمعه أو يقرأه ويراه مكتوبا، وليس مثل ضيوف إبراهيم، الذين لم تقترب أيديهم من الطعام بالرغم من قدرتهم الوصول إليه وقربه منهم.

فالوصل بأن تقترب من الموصول، وهو من الصلة، أن تصل الشيء، بأن لا تقطعه!

والهجر ليس عكس الوصل كما قيل في المعاجم!
 فالهجر من المقاطعة والبعد اكثر منه من عدم الوصل، أي هو ليس بقطع بل مقاطعة الشيء أي الإبتعاد الكامل عنه، فالقطع هو مرحليّ، بُعدٌ جزئيّ وليس ابتعاد، بينما المقاطعة تكون مستمرة، كما بيّن تعالى في إبراهيم حين هجر قومه ولم يعد إليهم أبدا!
فالهجر فيه ابتعاد كامل، ولهذا امر الله تعالى ان نهجر النساء في المضاجع كحل من الحلول للمشاكل العائلية، اي الابتعاد عنهن كاملا مكانا وجسدا، في غرفة أخرى منفصلة على سبيل المثال أو بيت آخر، بعكس امره تعالى في المحيض، حيث لم يأمر بهجرهن اي الأبتعاد مكانا، بل بعدم القرب منهن جنسيا بسبب الدم، واعتزالهن  بالمدلول الجنسي، وذلك نستشفه من إتباع الأمر بإتيانهن إن تطهّرن من الأذى - الدم!

فالهجرهو الإبتعاد الكامل زمانا ومكانا عن الشيء، وعدم العودة له، إلا إن كان مشروطا كما في المضاجع
أما القطع فهو عدم وصل الشيء، أي البُعد عنه، أي عدم القرب منه، وقد يكون مرحليّا


فوصل الشيء عكسه قطعه، فقطع الطريق هو منع المارّة من المرور بسلام فيه فيبتعدوا عنه ولا يقربوه، وقطع اليد عن الطعام اي منعها من الوصول للطعام، وقطع يد السارق عن السرقة أي منعه عن السرقة فلا يعود يقترب من السرقة، وليس بتر يده. ومنه، نرى كم كلمة "القرب" من الشيء تدل على مفردة الوصل، ومفردة البُعد تدل على القطع، حيث يصلون ما امر الله به ان يوصل بالقرب والتقرب منه ولا يقطعونه! وهذا ما وجدناه في الجزء الأول من هذا البحث عن مفردة "رُحْما" وارتباطها بمفردة " أقرب" ..!

إنتهى.

والله المستعان

ملاحظة: لا حقوق في الطبع والنشر لهذه الدراسة، وإن كنت لم أصل إلى مراد الله تعالى الذي نطمح كلنا إليه – فهو سبب تدبرنا – فعسى أن تصححوا خطاي وأكون لكم من الشاكرين.

مراجع :
* المرجع الرئيسي الأساسي الحق – كتاب الله تعالى – القرءان الكريم

اجمالي القراءات 5444