فلسفة القدر و حرية الإنسان
فلسفة القدر و حرية الإنسان

ياسين ديناربوس في الخميس ٣٠ - مارس - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

لازلت أتذكر أن أحد أهم المواضيع المتكررة التي كانت تتسبب في شروذي في فصل المدرسة هو قضية [علم الله الأزلي] و علاقته ب [القدر] و [حرية الإنسان] .. علي أنني حينها لم أكن قد بلغت من النضج الفكري ما يجعلني أفكك الإشكال إلي هذه المفاهيم الأساسية كخطوط عريضة بل كنت أتسائل مع نفسي و أجيبها خبط عشواء :

- هل الله تعالى علي علم مسبق بكل ما كان و ما يكون و ما سوف يكون كيف سيكون ؟

- نعم ! ولا شك في ذلك لأنه كامل المعرفة !

- هل حركة يدي التي أقوم بها في هذه الأثناء من اليمين إلي اليسار .. نابعة من إرادتي الحرة ؟

- هذا مؤكد ! فأنا أقرر و أحركها كما أقرر و أتركها ساكنة

- حسناً .. اذا كان الأمر كذلك هل كان الله تعالى علي علم بأنني سوف أقوم بهذه الحركة بالذات في هذه اللحظة بالذات .. هل علم ذلك حتي قبل أن يخلقني ؟

- أكيد يعلمه فهو الله الكامل المطلق !

- هذا يعني إذن أنني لست حرا في اختيار حركة مخالفة لما سبق من العلم الإلهي .. و إلا صار الله ناقص المعرفة و اختلف العلم السابق عن الفعل اللاحق !

- يا إلهي .. اذا لم أكن حرا في اختيار الكفر و الإيمان كيف سيحاسبني الله ؟ إن هذا يتضارب مع صفة العدل الإلهي المطلق التي أؤمن بها ...

 

كنت كلما وصلت لهذا الباب المسدود أسمع في نفسي صوتاً واعظا يقول :

الله عليم منذ الأزل بكل شيء و عادل لايظلم وكل عباده أحرار في اختياراتهم لهذا سيحاسبون .. اكتف بهذه المسلمات و لا تبحث عن رابط منطقي بينها و دعك من الخوض في هذه الأمور حتي لا يغرك الشيطان فتضل ضلالا مبيناً ..

 

تاريخيا، بدأ السجال الفكري و الفلسفي في إشكالية القضاء و القدر بسبب المشاحنات السياسية حول أحقية الخلافة بعد وفاة الرسول؛ خصوصاً بعد أن اغتصب معاوية حق الخلافة من علي و فرض نفسه خليفة علي علي المسلمين بقوة السلاح رغم أنهم لم يختاروه للحكم .. لم يجد معاوية و أنصاره حلا لتبرير ظلمهم إلا من خلال اعتناق [عقيدة الجبر]؛ فالإنسان أفعاله مقدرة من الله و كل ما يصيبه هو حكم الله و يجب الرضوخ له، وعلي هذا فإن حكم بني أمية مبرر شرعا و مقدر من الله .. وكان المعتزلة أول تصدي لعقيدة الجبر لأنهم رأوا أنها خطر علي جوهر الدين الإسلامي ؛ فالقول بالجبر يؤدي إلى نفي التكليف وهو ركن أساسي من أركان الإسلام .. فنتج عن ذلك صراع فكري عقدي أدي إلي هدر دماء الكثير من المسلمين هباء .. ورغم مضي قرون عديدة مازال المفهوم السائد عند المسلمين هو نفسه إلي يومنا هذا يقوم علي أساس الإستسلام لنفاذ القدر الأزلي، فتري الجهل و الفقر يكاد يكون صفة لازمة للمسلمين نتيجة الفهم الخاطئ للقدر و لمجال حرية الإنسان فيه؛ فالموت عندهم قدر و القتل قدر و الخطأ الطبي قدر و المرض قدر .. كل المآسي نسبوها للقدر و خضعوا واستسلموا لأشباح كل الشرور ...

 

إن فهم أي إشكالية فلسفية أو بحث علمي يتأسس علي الدقة في تحديد و تعريف العناصر المكونة لهذا البحث ! واستناداً لهذه القاعدة سنقوم في معرض بحثنا هذا بتحديد مفاهيم علم الله و حرية الإنسان و القدر، إضافة لعدة مصطلحات أخري مرتبطة لزوما بالموضوع. وستكون العمدة في تشكيل كل تعريف للعقل كأداة للمنطق الإستدلالي انطلاقا من الواقع الموضوعي و انسجاماً مع النص القرآني الذي سنستخلص منه مفهوم كل كلمة بالرتل في جميع الآيات التي ذكرت فيها اتزاما بالسياق و إلغاء للترادف مع كلمات أخري، إذ أن الترادف يجوز في صناعة الكلام البشرية للمراوحة في الأسلوب و طرد السآمة و الملل أو لنظم السجع و القافية و الترصيع بينما لا يجوز في كتاب الله بمقتضى الدقة و الكمال في التنزيل الحكيم حيث اختلاف الكلمات يفيد اختلاف معانيها بشكل حاسم و دقيق.

 

لطالما استعمل الناس في معرض حديثهم اليومي عبارات من قبيل [ إن شاء الله ] و [ بإذن الله ] أو حتي [ إذا أراد الله ] علي أنها عبارات مترادفة بنفس المعني، لكن كتاب الله يبين بوضوح أن لكل من الإرادة و الإذن و المشيئة الإلهية معناه المستقل و المختلف تماماً عن الآخر.

أما الإرادة الإلهية فتعني القصد و العزم و التحديد لشيء معين  مصداقا لقوله تعالي : 

{ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون ُ} [ يس : 82 ]

و إرادة الله متعلقة بفعله و ليس بفعل الإنسان وهي حتمية التفعيل ولا تحتمل إلا وجها واحداً هو التطبيق؛ بدلالة قوله تعالى :

{ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هُود : 107]

و قوله عز وجل :

{ .. وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ .. } [ الرعد : 11 ]

 

أما المشيئة الإلهية فوظيفتها الإختيار و الإصطفاء، أي أنها تتعلق بالإحتمالات ولا تحدد شيئاً بعينه - كما هو شأن الإرادة - فقوله تعالى :

{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ ..} [ يونس : 99 ]

يثبت وجود الإحتمالين معا - الكفر و الإيمان - كاختياريين ممكنين في المشيئة و لهذا نجد الكفر و الإيمان سنتين من سنن الوجود إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها .. ويتأكد هذا المعني في قوله عز من قائل :

{‏‏وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ ..َ}‏‏ ‏[ ‏التكوير ‏: ‏29‏ ]‏

بمعني أن احتمالات الإختيارات عند الإنسان لا تخرج عن الإحتمالات التي أوجدها له الله ولا يمكن أن يختار من خارجها ؛ ونقول : إن المشيئة الإنسانية اختيار احتمالي غير محدد مسبقاً و يتعين بالإرادة الواعية من داخل المشيئة الإلهية التي هي احتمالات الله، و احتمالاته تعالي هي قوانينه في الوجود التي لا يخرقها أبداً.

فلو قال [ وما تشاؤن إلا أن يريد الله ] لأبطل حرية الإختيار و لانتفي التكليف ليصير الإنسان مكرها وهمي المشيئة ينفذ فقط إرادة الله في الوجود !

غير أن قوله تعالى :

{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ۗ } [الأنعام:107]

يثبث العكس و يؤكد أن الشرك و التوحيد احتمالين قائمين قابلين الإختيار بإرادة الإنسان الحر و أنه مسؤول عن اختياره !

وعندما جمع رب العالمين بين الإرادة و المشيئة في آية واحدة قال :

{ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ .. } [الزمر:4]

ولا أحسب أن تفوت القاريء اللبيب ملاحظة الدقة في استعمال [الإرادة] و [المشيئة] في هذه الآية ؛ حيث الإرادة للإيجاد و الخلق و المشيئة للإصطفاء و الإختيار من بين المخلوقات.

و تبسيطا لما سبق ؛ إذا استقبلنا ضيفاً علي مائدة الطعام ، نقول له : كل ما تشاء ! وإذا توجه اختيار الضيف لطبق معين نقول : أنه أكل ما أراد.

 

أما بخصوص [ الإذن ] فقد جائت هذه الكلمة في كتاب الله بمعنيين ؛ الأول هو الموافقة و الإعلان ، كما جاء في قوله عز و جل :

{ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ  .. } [الحج:27]

بينما المعنى الثاني - وهو ما يهمنا في بحثنا هذا - جائت فيه كلمة [ الإذن ] كدلالة علي قانون مادي معين .. انظر قوله تعالى :

{ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ .. } [الأعراف: 58]

أي أنا نمو و تكاثر النباتات في الأرض لايكون إلا من خلال قانون موضوعي ؛ وهذا صحيح ! لأن هذه القوانين هي نفسها في الواقع محور دراسة علم البيولوجيا النباتية.

ويقول تعالى :

{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ .. } [آل عمران:145]

أي أن الموت كظاهرة طبيعية ، لا تحصل إلا من خلال قوانين موضوعية محددة بدقة و ليس بشكل اعتباطي .. و كمثال علي ذلك : إذا قطع رأس الإنسان يموت - فهذا قانون - و إذا بلغت درجة حرارة جسم الإنسان 44 يموت - وهذا أيضاً قانون - و كلما توفرت الشروط الموضوعية لأحد قوانين الموت يأذن الله تعالى بحصوله آنذاك . علي أن رب العالمين جعل هذه القوانين لا تحتمل إلا وجها واحداً هو النفاذ في حال تحقق شروطها ولا علاقة لها بكفر أو إيمان ، و هذا ما يؤكده قوله تعالى :

{ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ .. } [التغابن:11]

أي أن النفع و الضرر و المصائب لا تحصل إلا من خلال قوانين ؛ فغرق الإنسان في البحر مصيبة تصيبه كقانون حتمي اذا لم يكن يجيد السباحة ، ولن ينحيه منها إيمانه لأن انقطاع الأوكسجين عن جسمه لمدة معينة يعني تفعيل قانون الموت لا محالة !

و كذلك في قوله عز و جل :

{.. كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ..} [البقرة:149]

معني الآية هنا أن النصر الهزيمة ظاهرتان تخضعان لقوانين معينة و هذا ما يؤكده الواقع الموضوعي ؛ الصهاينة فئة قليلة غلبت فئة كبيرة لأنهم استعملوا قوانين النصر بينما حاربتهم الفئة الكبيرة بتغيير صور البروفايل في حسابات المواقع الإجتماعية ! و يوم نستخدم قوانين النصر سنهزمهم بإذن الله !

 

لتحديد تعريف دقيق لمفهوم [ علم الله ] يجب أن نتوقف أولاً عند ما نسميه الصفات الإلهية .. إذ أن الذات الإلهية قطعاً لهل صفات و لا يعقل وجودها إلاّ بصفات قائمة بها نحو صفة الأزلية مصداقا لقوله تعالي :

{ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } [الإخلاص:3]

إلي غيرها من الصفات التي لا خلاف عليها مثل العليم و الخبير و الحي و القيوم و الخالق .. و هي الصفات التي استلزمها الكمال الإلهي. وبما أن هذه الصفات لازمة للذات الإلهية فقد أخذت صفة الذات نفسها من حيث الأزلية وهذا ما يؤكده كتاب الله في قوله تعالى :

{ .. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [لقمان:28]

بمعنى أن الله تعالى سميع بذاته و بصير بذاته و أن صفتي السمع و البصر صفتان ذاتيتان أزليتان ليس لهما ليس لهما بداية، وهلم جرا علي باقي الصفات الإلهية. غير أننا نجد في مواضع كثيرة من كتاب الله، أن بعض الصفات الإلهية قد يكون لها بداية جانب فعلي تطبيقي متعلق بالخلق الحادث الذي له بداية محددة في محور الزمن ، إذ أنه لا وجود لوظيفة الصفة دون محل ظهورها خلافا للجانب الأزلي من الصفات نفسها و الذي يوجد خارج الإطار الزمني .. ولكي نفهم هذه الجزئية يجب أن نتأمل الآيات القرآنية التي جائت فيها أفعال الله بصيغتي الماضي و المضارع، من قبيل قوله عز و جل :

{ ..قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ .. } [يونس:34]

فهذه الآية تؤكد لنا أن صفة الخالق الأزلية لله لها جانبها الفعلي المتعلق بحادثة الخلق .. و التي لها ابتداء بداهة عندما توجهت إرادة الله للإيجاد و الخلق .. وليس أوضح علي وجود الجانب الأزلي و الجانب الفعلي في صفات الله من الآيات الكريمة التالية :

{ .. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [لقمان:28]

{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ ..} [المجادلة:1]

{ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ..} [التوبة:105]

فالآية 28 من سورة لقمان قررت صفتي السمع و البصر كصفتين أزليتين ، بينما الآية الأولي من سورة المجادلة تبين الجانب الفعلي من صفة السمع الأزلية و المتعلق بصوت المرأة التي تجادل حيث أن الصوت حادث له بداية بدأ معها الجانب الفعلي لصفة السمع كما هو الشأن بالنسبة لصفة البصر في الآية 105 من سورة التوبة حيث ارتبط جانبها الفعلي بتشكل أعمال العباد لتكون محلاً للرؤية الفعلية ..

 

و كنتيجة نخلص لكون صفات الله الذاتية أزلية ما دامت مجردة و غير متعلقة بالحوادث، و كلما وجدت محلاً لظهورها في الواقع انبثقت منها الصفات الفعلية؛ فلكي تتفعل صفات مثل السمع و البصر لابد من وجود أصوات و أشكال، وقبل وجود هذه الأصوات و الأشكال لا وجود لتلك الأفعال و إنما الوجود هو لله السميع البصير بذاته ولا شيء معه.

علي أن هذه الصفات الفعلية ليست صفات مكتسبة، فذلك يجوز في حق الإنسان الذي يحتاج لحواسه الخمس كأدوات يكتسب بها المعرفة، بينما لا يجوز في حق الله تعالى لأنه كامل الصفات و كامل المعرفة لا يكتسبها؛ يسمع و يري بدون أذن أو عين ! فالله عليم و الإنسان متعلم !

 

دراسة فلسفة العلم الإلهي تجرنا للحديث عن مفهوم عالم الشهادة و عالم الغيب، علي أنهما من المفاهيم المنسوبة للإنسان و ليس لله تعالى لأن عالم الشهادة هو الوجود الموضوعي المتكون من دائرة السمع و البصر الإنساني، بينما عالم الغيب هو كل ما لا يدخل في هذه الدائرة لكن له وجود موضوعي خارجها؛ فوجود كوكب ما في الفضاء الشاسع هو حقيقة موضوعية حتي ولو لم يرصدها منظار "هابل"، و تظل هذه الحقيقة غيبا بالنسبة لنا إلي أن نرصده بالعين المجردة فيتحول هذا الكوكب من عالم الغيب إلي عالم الشهادة، بينما بالنسبة لله عز وجل لا معني للغيب لأنه لا يخفي عنه شيء في الوجود كله. والغيب ليس المستقبل فقط، بل يتضمن كل ما غاب عنا إدراكه من معطيات و أحداث تحصل في الزمن الحاضر و الماضي المجهول أيضاً، فأحداث التاريخ الماضية كلها غيب بالنسبة لنا بينما هي معلومة بالنسبة لله تعالى، و لذلك قال بعد سرد قصة يوسف :

{ ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۖ..} [يوسف:102]

و عن الأحداث الحاصلة في الزمن الحاضر و الغائبة عن علمنا قال عز وجل :

{ ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ..} [يوسف:52]

لكنه تعالى قد يأذن للإنسان بالإطلاع علي الغيب بشكل جزئي، سواء من خلال الوحي للأنبياء : 

{ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا } [الجن :26]

أو عن طريق استقراء سنن و قوانين الطبيعة و كشف النتائج مسبقاً و مثال ذلك قدرة الإنسان اليوم علي التنبؤ بأحوال الطقس المستقبلية بدرجة عالية من الدقة و كذلك استقراء سجل الحفريات و المستحقات و الآثار لاكتشاف و فهم أحداث و حضارات غابرة.

أما الغيب بشكل مطلق فلا يعلمه إلا الله بشكل حصري :

{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام:59]

فالوجود الموضوعي كله خلقه الله بنظام خاضع لسنن و قوانين كونية جامعة بحيث لا توجد أية حركة إلا بقانون هو مفتاحها.

و لله المثل الأعلى؛ صانع الساعة يعرف بشكل علمي حركة عقاربها و تداخل تأثيرها علي بعضها البعض، و عندما يرن منبه الساعة لا يتفاجأ صانعها لأنه هو من برمجها علي هذا النحو.

 

لقد ميزنا في دراستنا للصفات الإلهية بين الصفات الذاتية و الصفات الفعلية، و هذا التباين بين الأزلية و الحوادث في الصفات يثبته كتاب الله في صفة العلم الإلهي أيضاً، حيث نجد [العليم] كصفة ذاتية أزلية من مقتضى الكمال المطلق لله تعالى :

{ .. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]

و قلنا أن الصفات الأزلية مجردة و غير مرتبطة بحوادث أو بشيء معين، و منه فإن علم الله الأزلي علم تجريدي سنني شامل لكل العلوم و وظيفته الإستخدام لإيجاد الخلق الذي يتعين بالإرادة الحادثة كنا في قوله تعالى :

{ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس:81]

أي أن علم الله الأزلي عبارة عن دالات بدون مدلولات ما دام لم يستخدم في للخلق، ومحل الدراسة في علم الله ليس هذا الجانب الأزلي المجرد، بل هو الجانب الفعلي من صفة العلم الإلهي و المتعلق بالحوادث .. و الحوادث هي مكونات عالم الغيب و عالم السعادة، ويقول عنها رب العالمين :

{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ } [آل عمران:5]

و يقول عز و جل :

{.. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير ٌ} [الحجرات:13]

هنا يجب أن نتوقف عند قاعدة قرآنية هامة جداً، وهي : أن كل شيء في هذا الوجود سواء في عالم الغيب أو الشهادة يعلمه الله حال حدوثه، و أن علم الله الفعلي لا يتعلق إلا ب [الشيء] و إلا فلا علم ! و هذا منطقي جداً، فالعالم يعلم شيء و الجاهل يجهل شيء ؛ و لا يصح أن نقول أن الله يعلم [اللاشيء] أو لا يعلم اللاشيء، لأن اللاشيء  هو لاشيء و لا يتعلق به علم أو نفي علم !

يقول رب العالمين :

{ .. وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا } [الجن:28]

{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ } [آل عمران:5]

دلالة علي أن كل شيء يحصل في الوجود الموضوعي يتم رصده ضمن دائرة السمع و البصر الإلهي و بالتالي ضمن علم الله الفعلي الذي عبرت عنه النصوص القرآنية بصيغة الماضي [ عَلِمَ ] و الحاضر المضارع [ يَعْلَمُ ].

ونلاحظ ارتباط الآيات القرآنية الدالة علي العلم الإلهي الفعلي بعنصرين أساسيين مكونين للوجود الموضوعي، وهما :

 

1) ظواهر الطبيعة

2) السلوك الإنساني الواعي

 

بالنسبة لظواهر الطبيعة، جاء ذلك في آيات عديدة نذكر منها قوله تعالى :

{ .. يَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام:59]

{ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ۖوَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } [الرعد:8]

أي أن كل ما يحصل من أحداث في ظواهر الطبيعة من الذرة إلي المجرة هي أشياء يرصدها و يعلمها الله عز و جل حال حدوثها بشكل إحصائي شامل.

 

أما عن السلوك الإنساني، يقول تعالى :

{ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ..} [التوبة:105]

{ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } [غافر:19]

{ .. َيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [التغابن:4]

و نفهم أن السلوك الإنساني إذا ما تشيء يتم تسجيله أيضاً في العلم الفعلي، لأنه يقع ضمن مجال السمع و البصر الإلهي؛ و إذا أخفي الإنسان شيئاً في نفسه فهو مخفي في دائرة الوجود المعلومة لله، و إذا لم يكن في نفسه شيء فليس هناك ما يتعلق به علم أو جهل، بل الله يعلم أن لا شيء في نفسه، انظر قوله تعالى :

{ إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } [الأحزاب:54]

 

إلي هنا يحق لنا أن نتسائل : إذا كان علم الله الفعلي يرصد كل أحداث الطبيعة و السلوك الإنساني الماضية و الحاضرة فماذا عن المستقبلية  التي لم تتشيء بعد ؟

قبل الجواب عن هذا السؤال، يجب أن لا نغفل عن حقيقة كون الماضي و الحاضر مفاهيم تنسب للإنسان و ليس لله عز و علا، لأنه غني و منزه عن ذلك و لا معني للزمن و الماضي و المستقبل بالنسبة له.

قلنا أن الأحداث المستقبلية لا يتعلق بها علم أو جهل لأنها لم تتشيء بعد، غير أن هناك جانب استقرائي للسلوك الإنساني في العلم الفعلي باستخدام كل ما تم رصده من أحداث ماضية و حاضرة للكشف عن أحداث اجتماعية خاضعة لقوانين سننية معينة، و هذا الإستقراء هو ما عبر عنه تعالي في قوله :

{ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ ۖ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ } [الأنفال:23]

{ غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ ..} [الروم:4:3:2]

علي أن الإستقراء الإنساني احتمالي و ظني قد يخطيء و يصيب، بينما الإستقراء الإلهي قطعي و مؤكد و لا يحتمل إلا النفاذ؛ فعندما استخدمت الروم قانون النصر أذن الله أنهم سيغلبون لأنها النتيجة الحتمية لاستخدام ذلك القانون. أما السنن الكونية فلا يوجد استقراء لها لأنها تسير كما برمجها رب العالمين مسبقاً و لا تحيد عن مسارها قيد أنملة، و مثال ذلك حركة النجوم و الكواكب :

{ .. كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [الأنبياء:33]

 

الحديث عن السلوك الإنساني لا يمر دون الحديث عن نتائجه، ونحن نعلم أن مصير الناس في الآخرة يحدده سلوكهم في الدنيا و قلنا أن هذا السلوك يتم تسجيله حال وقوعه في علم الرصد الإلهي - الفعلي و ليس الأزلي! - وهذه نتيجة تضرب عرض الحائط بمسلمة علم الله الأزلي بمصير الناس قبل خلقهم، و التي تعتبر من المسلمات التي لا تقبل النقاش عند كثير من المسلمين، و إذا اعترضنا السؤال المتهافت :

ألا يعلم الله مصير الناس منذ الأزل ؟

نجيب : أن السؤال تمت صياغته بشكل خاطئ ! و الصواب أن نسأل : هل يدخل مصير الناس في دائرة العلم الإلهي ؟

و الجواب بكل طمأنينة : قطا لا !

و هو جواب لا يصعب فهمه علي من فهم ما سبق من السطور ؛ فقد قلنا أن العلم الأزلي عبارة عن دالات بدون مدلولات و أنه علم ذاتي تجريدي يستخدم في إيجاد و خلق أشكال غير متناهية، تتعين و تتشيء في الوجود بالإرادة الحادثة - إذ لا يوجد في العلم الأزلي "نيوتن" و "أينشتاين" من الناس و إنما كيف يمكن خلق "نيوتن" و "أينشتاين" - فلا وجود للنماذج و الأشكال في العلم الأزلي لأن ذلك يجعل صفة ووظيفة العلم و الإرادة شيء واحد ( وهذا باطل ) لأن ذلك يفرض كون أن الله في حالة تصور أزلي للخلق .. وهذا يعني أن الله عالم بما يعلم .. وهذا هراء و سفسطة لا معني لها !

إن مربط الفرس هنا يكمن في كون مصير الناس [شيء] و كلمة شيء لا تطلق إلا علي الموجود، و مصير الناس قبل الخلق لم يكن له وجود مما يدل علي أنه ليس شيئاً، و قد أثبتنا فيما سبق أن [اللاشيء] لا يتعلق به جهل ولا علم ! لهذا فإن العلم لا يتعلق بمصر الناس إلا حين أن يتحدد سلوكهم الواعي الحر في عالم الشهادة الذي لا يخفي علي الله منه شيء.

و لله المثل الأعلي : المهندس المعماري يستخدم علمه بالقواعد الرياضية الهندسية المجردة لصنع ناطحة سحاب، و لا يتعلق علمه بالبناية فعليا و تشخيصيا إلا بعد بنائها و رؤيتها في عالم الشهادة .. و سقوط شخص ما من أعلي البناية يعني أن سلوكه استخدم أحد قوانين الموت، فيأذن الله بموته لا محالة، و يتم تسجيل هذا الحدث حال وقوعه و يرصد في علم الله الفعلي.

الآن .. السؤال الذي يطرح نفسه بشدة هو :

هل تتعارض هذه النتائج مع المسلمة القائلة بأن الله قدر علي هذا الشخص أن يموت بتلك الطريقة بالذات، ساعة كذا و دقيقة كذا .. ؟؟!!

الجواب يستلزم وقوفنا علي مفاهيم : [القضاء] و [القدر] و [المكتوب] و [حرية الإنسان] ..

في الإطار المرجعي عند معظم المسلمين هناك ارتباط وثيق بين القدر و بين مفهوم الكتابة أو ما يسميه أغلب الناس [المكتوب]، و معناه أن الله تعالى قدر بالكتابة و كتب علي الناس مصيرهم منذ الأزل ؛ أي أن "أبا لهب" كتب عليه الكفر و النار .. و "عمر" كتب عليه الإيمان و الجنة .. قبل خلقهما، فأصحاب النار إلي النار و أصحاب الجنة إلي الجنة لا يزيدون و لا ينقصون و كل شيء مكتوب علي الإنسان سلفاً عمره و رزقه .. إلخ

هذا في العرف الشعبوي عند العامة، أما عند المتخصصين في اللغة فكلمة [كتب] تعني أساساً : جمع شيء إلي شيء أو إلي أشياء لإخراج ظاهرة موضوعية معينة و محددة بدقة، و أي فعل تحقق به هذا المعني يسمي [كتابة] ؛ فالعرب إذا أرادو أن يجتمع الناس يقولون لهم [اكتتبوا]، و [الكاتب] هو من يجمع الكلمات مع بعضها البعض، و تسمي المجموعة من العساكر [كتيبة]، كما أن علماء الفقه يسمون مجموع الأحكام الفقهية المتعلقة بموضوع واحد [كتاب]، فنجد في مجلداتهم : كتاب الصوم و كتاب الزكاة و كتاب الصلاة .. إلخ

أما الكتابة بالقلم فهي من المعاني الجزئية لفعل كتب، و الدارس لكتاب الله يجب أن يتحرر من سلطان هذا المعنى و إلا استلزم قوله تعالى :

{.. إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ ..} [التوبة:51]

أن يكون لله جل و علا قرطاسا يكتب فيه خطا و هذا  مستحيل لأن الله مستغن و منزه عن ذلك.

إذا أعدنا فهم الآيات التي ورد فيها فعل [كتب] بالمعني الأساسي الذي هو الجمع، سنجد أن قوله عز و جل :

{ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا } [النبأ:29]

يعني أن كل شيء في الطبيعة له كتابه الذي هو مجموع الشروط الموضوعية التي اذا اجتمعت خرجت منها ظاهرة ما، مثلاً : جمع عناصر الطهارة و الوضوء و السجود و القيام و الركوع يعطينا [كتاب الصلاة]، ومنه نفهم قوله تعالى :

{قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ .. } [التوبة:51]

بمعنى لن يصيبنا من المصائب إلا المكتوب، و المكتوب هنا هو مجموع القوانين التي إذا تعرض لها الإنسان تصيبه بشكل حتمي ولا مفر منه؛ فكتاب المرض في الطبيعة يحتوي علي مجموع الأمراض التي يمكن أن تصيب الإنسان، و عندما يمرض لا يعتل إلا بأحد الأمراض الموجودة في هذا الكتاب ولا يعقل أن يصيبه مرض خارجه. وليثبت رب العالمين هنا أن كتاب المصائب عام و ليس مخصص للأفراد قال : [لن يصيبنا] بالجمع و ليس المفرد ! و لو قال [لن يصيبك] للزم من ذلك أن الله قدر مسبقا علي كل شخص علي حدة كل الأمراض التي ستصيبه في حياته، وهو ما أثبتنا بطلانه عندما بينا أن مصير الناس غير مقدر أزلا ..

 

[القدر] من المقادير، بما فيها الكم و الكيف .. يقول رب العالمين :

{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [القمر:49]

فقد خلق الله المادة محكومة بسنن و قوانين لا تتبدل أبداً، لهذا قال تعالى :

{ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } [الأحزاب:62]

و للتبسيط، نقول: أن قدر الله هو سمات الشيء و خصائصه .. مثلاً: قدر الماء هو التبخر عند 100 درجة حرارية و التجمد عند درجة الصفر.

أما [القضاء] فقد جاء فعل [قضي] في كتاب الله بعدة معاني .. لكن فيما يخص [قضاء الله]، نجده تارة بمعني الأمر بالتقوى و الموعظة وهو ما يخضع للطاعة و المعصية الإنسانية، كما في قوله تعالي :

{ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ..} [الإسراء:23]

و تارة بمعنى الأمر الشرطي النافذ كما حصل مع أقوام هود و صالح و نوح، الذين حق عليهم القول فتم إهلاكهم بالطوفان الصيحة و الفيضان .. و الملاحظ أن القضاء لا ينفذ إلا من خلال المقدورات من الأشياء باحترام قوانينها في الطبيعة - لأن العبثية لا مكان لها في الوجود الموضوعي، و ما نسميه حظاً أو صدفة هو في الواقع كل ظاهرة نعجز عن فهمها و تفسيرها علمياً - علي أن القضاء النافذ غير أزلي؛ فالله سبحانه وتعالى لم يأمر بإهلاك تلك الأقوام منذ الأزل، و إلا لما قال :

{ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [نوح:1]

قضاء الله إذن هو أفعاله التي تؤثر في سير الأحداث في عالم الشهادة .. و سنعود لنوضح و نبين كيف أن قضاء الله قابل للتغيير ...

 

لنعرج الآن علي [القضاء الإنساني]، و هو فعل الإنسان و حركته و سلوكه الذي لم يتشيء بعد؛ فالقاضي يقضي، بمعني يعطي حكماً بين نفي و إثبات .. و لكي يحكم تلزمه إرادة حرة و معرفة بالقضية كمعطيات موضوعية في الوجود، و إلا فليس هناك ما يقضي فيه !

الملاحظ أن هناك علاقة جدلية بين قضاء الإنسان و بين حريته و معرفته و علمه بالمقدورات و قوانينها، حيث أن سلوك الإنسان يستلزم حريته أولاً، و الحرية لا تحتاج برهانا فهي شعور فطري إنساني، لذلك نجد أن كتاب الله بكل ما فيه من أوامر و نواهي موجه لكائن عاقل حر ! و رب العالمين خلق الإنسان بإرادة حرة ليقرر سلوكه بنفسه و ليكون مسؤولاً عنه و مستحقا للعقاب و الثواب .. حتي إذا انتفت الحرية عن الإنسان انعدمت إنسانيته و حل محلها الإكراه و البهيمية .. هذه الحرية لا تمارس إلا من خلال الحركة بين الأضداد في الطبيعة التي خلقها الله بنظام ثنائي يقبل النفي و الإثبات بين [الإيمان و الكفر] و [الحلال و الحرام] و [الخير و الشر] .. إلي غيرها من العناصر المكونة لجدلية الأضداد في الوجود الموضوعي .. و لولا جدلية الأضداد هذه لما كان هناك معني أو إمكانية للحرية، لأن هذه الأخيرة ليست في حقيقتها إلا اختيار واع بين نقيضين علي الأقل ...

غير أن الإختيار لا يكون إلا بعلم و معرفة، فالجاهل مقيد بجهله و لا يعرف معني الحرية، وكلما توسعت دائرة علم الإنسان توسعت دائرة حريته اضطرادا؛ فعندما اكتشف الإنسان قوانين الطيران استطاع صنع الطائرة و زادت حريته في الحركة و التنقل إلي أن طالت الفضاء الخارجي، و كلما زاد جهل الإنسان بالمقدورات زاد شعوره بالجبرية و حدت حركته؛ لهذا لم يكن يملك المصابون بالطاعون في القرون الوسطى خيارا سوي انتظار الموت المحتم، فقد كان يقتلهم جهلهم و اعتقادهم بأن الطاعون لعنة الشيطان .. لكن عندما اكتشف العلماء "البكتيريا اليرسينية" المسببة لهذا الوباء تمكنوا من تحديد علاجها ...

الواقع الموضوعي يؤكد ذلك أيضاً، حيث نجد أن نسبة الوفيات بسبب الأمراض - بشكل عام - في القرون الماضية أكثر مما هي عليه اليوم، لأن الإنسان كان يجهل قوانين المرض و الصحة و التطبيب .. و عندما زادت معرفتنا بعلوم البيولوجيا زادت حريتنا في إجراء التدخلات و العمليات الطبية، فزادت حركة القضاء الإنساني هرباً من قدر الموت إلي قدر الحياة ...

إن خليفة الله في الأرض هو الإنسان الذي استطاع السيطرة علي الموجودات و المقدرات من خلال معرفته بقوانين الطبيعة و تسخيرها لخدمته .. قال تعالى :

{ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [الجاثية:13]

نستطيع إذن تلخيص جدلية علاقة القضاء الإنساني بالقدر كما يلي :

قضاء الإنسان هو سلوكه و حركته التي تتولد بإرادته الحرة من خلال علمه و معرفته، ليختار بين نفي و إثبات في ظواهر الوجود و المقدورات.

انطلاقاً من هذا التعريف يمكننا القول : أن [الموت قدر] و [القتل قضاء]، لأن الله قدر الموت كقانون كوني في الوجود :

{ .. كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ .. } [القصص:88]

لكنه لم يقدر القتل ! بل هو قضاء إنساني و فعل بإرادة حرة واعية، لذلك سيحاسب كل القتلة و المجرمون حسابا عسيرا :

{ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ } [إبراهيم:42]

و كذلك قدر الله [الجوع] لكنه لم يقدر [المجاعة] في الصومال ! بل هي ظاهرة تخرج للوجود نتيجة سنن اجتماعية يحركها القضاء الإنساني القادر علي سد رمق الجوعي بسلوكه و إرادته الحرة؛ لذلك ربط الله تعالى في كتابه العزيز حرية الإنسان بوصايا منظومة القيم الأخلاقية :

{ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ } [المدثر:44:43:42]

 

بشيء من العمق في التحليل سنكتشف أن قضاء الإنسان في الواقع هو أفعاله و أعماله، علي أن [الفعل] ليس هو [العمل] ! و الفرق بينهما هو أن الأعمال تحددها الأفعال .. فلو قلنا : ( أحمد يعمل ) تكون جملتنا غير مفيدة لأننا لم نعرف ماذا يعمل .. و إذا سأل سائل : ( ماذا يعمل أحمد ؟ ) .. نجيب : ( يزرع ) ، ( يحصد ) ، ( يحرث ) .. فنفهم مما [يفعل] أو من مجموع [الأفعال] المنسوبة ل"أحمد" أنه [يعمل] فلاحا !

وقبل أن نحدد أفعال "أحمد" بدقة كان عمله احتمالي، فقد يكون مهندسا أو حدادا أو ربما فلاحا كما عرفنا ذلك من خلال أفعاله .. و بالتالي نخلص لكون الفعل عبارة عن حركة واعية متعلقة بسلوك معرف و محدد، بينما العمل سلوك احتمالي لم يتحدد بعد ! ولهذا قال رب العالمين :

{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا } [الكهف:107]

و وضعها علي وجه العموم الإحتمالي الغير محدد؛ لأن الصالحات متغيرة عبر الزمن و ليست جامدة - كما يعتقد من جمدت عقولهم - و لو قال : [ و فعلوا الصالحات ] لوجب تعريفها و لوضع لائحة بقائمة هذه الصالحات، حتي لا نتسائل ( ماهي هذه الأفعال الصالحة بالظبط ؟ )

و عندما ذكر رب العالمين الفعل و العمل في آية واحدة، قال :

{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [البقرة:234]

و هنا جاء الفعل بصيغة [فيما فعلن ...] بدلالة الإختيار المحدد، و هو الإلتزام بعدة الأرملة ! .. في المقابل جاء العمل بصيغة [ .. والله بما تعملون خبير] دون تحديد للسلوك - لأنه احتمالي يخضع لاختيار و إرادة الإنسان - مع إثبات علم الله بالأعمال الممكنة ! لأن الأعمال الممكنة لا تتشكل إلاّ من خلال الأفعال الممكنة في الطبيعة، علي أن كل الأفعال الممكنة في الوجود معلومة عند الله لأنه هو من خلقها و برمجها كإمكانيات متاحة للإنسان، و علم الله عز و جل بجميع الأفعال يعني علمه بداهة بجميع الأعمال الممكنة المنبثقة منها ...

من هنا نخلص للعلاقة بين علم الله و سلوك الإنسان الحر، حيث أن سلوك الإنسان المستقبلي لا يخرج عن علم الله الإحاطي الكلي بجميع احتمالات الإختيار المتاحة.

قد يظن البعض أن هذه النتيجة تجعل الله عز و جل ناقص المعرفة ! لكن هذا خطأ كبير في الفهم؛ لأن العلم بملايين الإحتمالات أكبر من العلم بالإحتمال الواحد - كما هو الشأن في عقيدة الجبر - .. زد علي ذلك أن علمه تعالي بالإحتمالات لا يحتوي علي عنصر المفاجأة أبداً، لأن اختيار الإنسان يستحيل أن يخرج عن الإحتمالات المعلومة مسبقاً .. و لله المثل الأعلى : 

إذا قام مخترع بصناعة إنسان آلي و برمجه بحيث يستطيع القيام عشوائيا بتلاث حركات معينة فقط لا غير ( حركةA و حركةB و حركةC ) .. فإن أي حركة يقوم بها الإنسان الآلي لا و لن تخرج أبداً عن الإمكانيات الثلاث التي برمجها فيه المخترع، وهذا الأخير لا يتفاجأ أبداً بأي حركة من الحركات التي تتخذها الآلة مستقبلاً، لأنها لا تخرج عن الإحتمالات المبرمجة مسبقاً.

المفهوم التراثي لعلم الله المسبق بسلوك الإنسان يضع في علمه تعالي احتمالا واحداً فقط ! وهذا يعني الإكراه و ينفي حرية الإختيار عن الإنسان، لأن الحرية لا تكون إلا بإمكانية الحركة بين احتمالين علي الأقل .. و كدليل علي أن أعمال الإنسان غير مقدرة سلفاً و تخضع للإحتمالات، يقول رب العالمين :

{ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الحجر:93:92]

أي أننا سنحاسب علي أعمالنا التي اخترناها بمحض إرادتنا الحرة و التي ستتحول من احتمال ممكن إلي حقيقة ناجزة و قدر مفعول بعد القضاء الإنساني علي أرض الواقع .. لذلك قال تعالي :

{ .. إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَ .. } [يس:12]

و لعل أوضح الآيات علي حرية الإنسان في إختيار أفعاله و صناعة سلوكه و أعماله نحدها في قوله تعالى :

{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا } [الأحزاب:36]

و قد تناسب نزول هذه الآية الكريمة مع رفض "زينب بنت جحش" الزواج من "زيد ابن حارثة" .. و هي آية تقطع الشك باليقين في كون زواج "زيد" ب "زينب" ليس مقدرا أو مكتوباً منذ الأزل ! بل يخصع للإحتمالات الإختيار عند "زينب" ! 

فليس هناك أبداً ما يسمى في العرف التقليدي ( الزواج قسمة و نصيب ) لأن الزواج اختيار إنساني حر و الله لم يقسم و يقدر اختيارات الإنسان ...

 

التطبيق العملي لحرية الإنسان و مجال قضائه في القدر ربما يكون صادما لكل من يعتقد أن أعمار الناس محددة و مكتوبة منذ الأزل و أن "زيد" من الناس يوم ولد كتب علي جبينه أنه سيعيش 86 سنة و 5 شهور و 14 ساعة و 45 دقيقة .. و هذا هراء ! فلو كان الأمر كذلك، فلا منطقية لعقوبة الإعدام، لأن القاتل لم يكن ينفذ سوي قدر الله المحسوم، و الذي لا خيار له فيه أبداً .. و هذا مخالف لما أثبتناه من كون أعمال الإنسان و أفعاله اختيار حر واع يخضع للإحتمال و يوضع علي ميزان الحساب؛ فالموت قدر لكن القتل قضاء.. و منه تصبح عقوبة الإعدام منطقية و ذات معني، حيث أنها تقصر عمر القاتل لأنه قصر عمر المقتول.

و لإثبات ديناميكية عمر الإنسان بين الزياده و النقصان، قال تعالى :

{ .. وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [فاطر:11]

و الواقع الموضوعي يؤكد أن عمر الإنسان غير محدد سلفاً، بل ينقص و يزيد !

أما الزيادة، فكل من يلقي نظرة علي معدل أعمار البشر سيجد أنه في تزايد مستمر عبر التاريخ، و هو تزايد يتوافق اضطرادا مع تزايد مستوى علوم الطب خصوصا، حيث أن الطبيب يقضي في جسد المريض بعمليات جراحية تنقذه من الموت، فيؤجله، لكنه لا يلغيه .. لذلك قال عز و جل :

{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا .. } [آل عمران:145]

و نفهم أن [كتاب الموت] مؤجل حتى تتحقق شروطه الموضوعية، لهذا نجد أن المجتمعات التي تعرف تقدماً علمياً طبياً و التزاما حرفياً بقواعد السلامة في الحياة العامة، هي في الواقع مجتمعات يرتفع فيها متوسط الأعمار و العكس صحيح.

و نقول، أن المقدر و المقرر هو مدي الحياة الأقصى؛ وهو العمر الإفتراضي و ليس العمر الواقعي الذي يتأثر بالأحداث و الوقائع من حوله.. و هذا التقدير العام النظري لمدي الحياة يشمل كل الأشياء في الوجود بما فيها الإنسان.

 

في نفس الإطار بخصوص حرية حركة القضاء و مجال السلوك الإنساني داخل المقدرات .. و بالتوازي مع كون الأعمار غير مقدرة، فإن الأرزاق أيضاً غير مقدرة ! ولو كانت كذلك فلا معني للثواب علي الصدقات؛ لأن الإنسان يتصدق من ماله علي الفقراء انطلاقاً من إرادته الحرة، فلو كانت الصدقات رزقا مقدرا علي المحتاجين لكان المتصدقين مجرد منفذين لقدر الله و لصارت حسناتهم ضرباً من الكوميديا .. لهذا نجد في كتاب الله تعالى أن الرزق المقدر رزق مطلق جمعي، و مصدره محدد علي وجه العموم، بخلاف الرزق الفردي الإحتمالي الغير محدد و الغير مقدر البتة !

و قد حدد رب العالمين منبع الرزق علي وجه العموم في مصدرين اثنين لا تالث لهما؛ و هما :

1) خيرات الطبيعة

2) عمل الإنسان

لذلك قال عز و جل :

{ .. وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ..} [الجاثية:5]

لأن كل خيرات الطبيعة تعتمد أساساً علي الماء !

و قال تعالى :

{ لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ } [يس:35]

تأكيداً علي أن ثاني مصدر لكسب الإنسان للرزق هو عمله و جهده الجسماني.

و لو تأملنا في مختلف بلاد العالم، لوجدنا أن أرزاق الناس فيها لا تتشكل إلا من خيرات الطبيعة الخاصة بكل بلد، أو من عمل الإنسان المتوفر فيه، أو منهما معا .. و لإثبات إحتمالية الرزق الجمعي قال :

{ .. يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ } [الشوري:49]

و قد أثبتنا فيما سبق أن [المشيئة] احتمالية و ليست حتمية !

أما القول بأن الرزق الفردي مقدر و مقسوم سلفاً و أن "عمر" من الناس سيكون دخله و ربحه المادي في كل حياته قدر معين من المال لا ينقص و لا يزيد درهماً، فهذا ضرب من العبث ! لأن الفقر و الغني ظاهرتين متحركتين بالسلوك الإنساني و ليستا ثابتتين .. و أحد أبواب الغني - مثلا - هو الغش و السرقة و السلب و النهب .. و طبعاً كل ما يكسبه الإنسان من هذا الباب هو مال حرام ! فهل قدر الله علي الناس أكل الحرام ؟؟!!

من جهة أخرى، الغني الحلال له بابه أيضاً، أو لنقل كتابه الذي هو مجموع الشروط الموضوعية التي يجب الإلتزام بها للكسب و ربح المال الحلال؛ كالعمل علي جودة البضائع المعروضة للبيع و تحسين الخدمات لإرضاء الزبائن .. إلي غيرها من طرق الرفع من الدخل القانونية و الحلال. 

يبقي أن نشير إلي أن من يلتزم شروط التقوي يسهل الله له في رزقه، مصداقا لقوله تعالى :

{ .. وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } [الطلاق:3:2] 

كنتيجة لاحترامه لقوانين الرزق و الأخذ بأسبابه؛ فسكان "الإسكيمو" لا يسترزقون ببيع الملابس الصيفية !

هنا نصل ل [مناط الدعاء]، و هو ما أجلنا الحديث عنه عندما قلنا أن [القضاء الإلهي] قابل للتغيير بتفاعله مع الظروف والمعطيات المتغيرة، فإذا أراد رب العالمين أن يرزق إنساناً ما يجعل الظروف الموضوعية التي يعيشها هذا الإنسان تعمل لصالحه، فيتدخل عز و جل من خلال تفعيل سنن جالبة لتوقيف سنن مانعة للرزق .. مثلاً : العقم عند المرأة يوقفه بسنة الإنجاب، لكن ذلك لا يتم بمعجزات بل بالأخذ بالأسباب، كتدخل طبي جراحي لإصلاح الرحم - علي سبيل المثال لا الحصر - .. و يجذر التنويه أن الدعاء لا يجب أن يكون فيه عدوان علي الناس - كل الناس و ليس فقط المسلمين لأن الله رب العالمين أجمعين - و أن يكون الدعاء دائماً منطقيا و ممكناً في إطار السنن و القوانين الكونية و أن لا يكون خارقا لها، لأن القضاء لا يتحرك إلا داخل القدر : فالله لا يستجيب لمن يدعوه قائلاً : [ اللهم اجعلني أغوص تحت سطح البحر كالسمكة دون أن أموت! ]، لأن هذا طلب مخالف لقدر الإنسان و سماته التي خلق بها .. لكن استجابة الله لدعاء كهذا تكون حتمية لمن اكتشف قوانين التنفس و غاص في أعماق البحار مستخدماً قنينة أوكسجين !

 

ختاماً نؤكد أن عقيدة الجبر هي السبب الرئيسي في انحطاط أمة المسلمين علي جميع المستويات، و أن الفهم السطحي و الأعوج لفلسفة علم الله دون التمييز بين الفعلي و الأزلي و علاقته بمفاهيم حرية الإنسان و القضاء و القدر، صنع شماعة المكتوب التي نعلق عليها فشلنا دائماً ...

كل خيبات أملنا بسبب تهاوننا في العمل بالمنهج العلمي تجد في الإيمان بالجبرية ملاذاً يعفينا من المحاسبة و المسؤولية و تكون النتيجة الحتمية هي الخنوع و الخضوع لكل الشرور تحت غطاء وهمي أسميناه القضاء و القدر .. فليس لهذه الأمة خلاص إلا بإعادة فهم المسلمات التي برمجها فيها الموروث الفقهي بعيداً عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم !

إن المفهوم التراثي لعلاقة الإنسان بالقدر يصوره كممثل في فيلم سينمائي تتم مشاهدته علي الشاشة بحيث لا يكون الممثل سوي عنصر في مقاطع تم تصويرها من قبل و يستحيل أن يختلف العرض عما تم تسجيله سلفاً ... 

بينما الإنسان الذي اكتشفناه في كتاب الله عكس ذلك تماماً؛ فكأنه ممثل مسرحي حر الحركة فوق الخشبة التي هي قدره بحيث لا يخرج عن مجاله و حدوده .. و هو وسط مسرح القدر يقوم بدوره بكل حرية مع امكانية الإرتجال في النص و الحركات ...

لقد آن الأوان لكي نفهم أن الجهل يحد من حركة الإنسان بين أقدار الخير و أقدار الشر و أن العلم و المعرفة هي محرك الحرية لاستخدام قوانين الخير و تجنب الشرور .. فالإنسان قادر بالمفهوم القرآني للقضاء و القدر أن يتحرك بقضائه بين الأقدار و يفر من قدر الله إلي قدر الله؛ و هنا نستحظر توجيه رب العالمين لنوح عليه السلام عندما أمره بصنع الفلك فيهرب من قدر الموت غرقاً بسبب الفيضان إلي قدر الحياة باستخدام قوانين الملاحة علي سطح البحر ... هكذا هو الإنسان الذي يحقق خلافة الله في الأرض .. الإنسان الذي يفرض سيطرته علي عالمه بسلطان العلم ما استطاع إلي ذلك سبيلا كفاعل و متفاعل قادر علي التصدي للجوع و الجهل و الفقر و الظلم .. خليفة قادر علي إنشاء حضارة إنسانية ملؤها العدالة و الخير و السلام ...

 

إن أصبت فبتوفيق من الله سبحانه وتعالى و إن أخطأت فمن نفسي.

 

هذه وجهة نظري و ليس ملزم بها كل من قرأ المقالي.

 

#مقالات_ياسين_ديناربوس

اجمالي القراءات 35909