لمحة عن دين التصوف من بدايته الى سيادته تحت مسمى التصوف السُّنّى

آحمد صبحي منصور في الجمعة ٠٣ - مارس - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

لمحة عن دين التصوف من بدايته الى سيادته تحت مسمى التصوف السُّنّى

كتاب : نشأة  وتطور أديان المسلمين الأرضية

الباب الأول : الأرضية التاريخية  لنشأة وتطور أديان المحمديين الأرضية

الفصل الرابع: تطور أديان المسلمين الأرضية فى العصر العباسى ( 132 ـ 658 هجرية ) (750-1258م )

لمحة عن دين التصوف من بدايته الى سيادته تحت مسمى التصوف السُّنّى

مقدمة :

1 ـ دين السُّنّة ظهر وتبلور فى ركاب الخلفاء القرشيين يعبّر عن التسلّط والهيمنة والسيطرة والحكم . وظهر وتبلور الدين الشيعى معبرا عن الثقافة الفارسية الشعوبية وحقدها على خلفاء الفتوحات أبى بكر وعمر وعثمان والأمويين ومن إنحاز اليهم ، ومن عادى عليا بن أبى طالب . ثم ظهر ونشأ وتطور دين التصوف يعبر عن عقائد العوام ، من أبناء أهل الكتاب الذين دخلوا فى الاسلام وقد ترسّخ لديهم تقديس البشر والحجر وإسباغ الصفات الالهية عليهم من علم الغيب والتصرّف فى العالم بالمعجزات والكرامات والشفاعة يوم الدين . ولكى يقدس الصوفية أولياءهم من العوام فقد جعلوا كبار الآلهة عندهم هم أبرز الآلهة فى دينى السُّنّة والتشيع ، أى تقديس آل البيت بالمفهوم الشيعى والخلفاء الراشدين وكل الصحابة بالمفهوم السُّنى ، ثم إلحاق أولياء التصوف العوام عن طريق انتحال النسب العلوى ( الأشراف ) .

2 ـ وسبق لنا هنا نشر موسوعة التصوف المملوكى .ونوجز منها إشارات عن التصوف وتطوه.

 أولا : تناقض التصوف مع الاسلام  

1ـ  بداية الاختلاف فى أساس التشريع

 فى الإسلام: أساس التشريع لله جل وعلا وحده، والقرآن الكريم يحكم على النبى والمسلمين.   أما التصوففالشيخ الصوفى هو المشرع لأتباعه حسبما يوجهه هواه أو ذوقه أو حاله ، وهم يضفونعلى ذلك التشريع البشرى سمة الشرعية بدعوى أن الصوفى أوتى الكشف أو العلماللدنى من الله أو الوحى الألهى، مع أنه لا وحى فى الدين بعد اكتمال نزول القرآن .

وأضفاء الوحى وعلم الغيب والمعجزات والشفاعة إلى الشيخ الصوفى معناه تأليهه وعبادته وطلب المدد أو العون منه . وهذا كله لا يكون إلا لله تعالى وحده ، دون النبى محمد نفسه.

2 ـ الاختلاف الرئيس : تأليه الشيخ الصوفى

 فى الاسلام يكون لله وحده علم الغيب والشفاعة والتصريف فى الدنيا والآخرة ، إلا أننا لانجد صوفيا إلا وادعى لنفسه أو لشيخه لوازم التصوف من الولاية والكرامات والعلماللدنى ودعا الآخرين للاعتقاد فيه ، مع أن الاعتقاد لا يكون الا فى الله وحده إلها ووليا مقدسا لا شريك له، نطلب منه وحده جل وعلا المدد والعون .

3 ــ العقيدة هى ذروة الاختلاف بين الإسلام والتصوف

  عقيدة الإسلام لا إله إلا الله ، والله الاله الواحد، لا يشبه أحدا من خلقه ، ولا يشبهه احد من خلقه ( ليس كمثله شىء)  (الشورى 11 )  وصفات الله لايوصف بها غيره ، فالله واحد فى ذاته ، واحد فى صفاته ، إذا هو أحد متفرد عن باقى خلقه( قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد).

أما عقيدة التصوفالحقيقية فهى (لا موجود إلا الله )  أو ما يعرف بوحدة الوجود والتى تعنى أن العالم جزء من الله، أو أنه هو عين الله ، أو أنّه لا فارق بين الخالق والمخلوق ، وأن الخلق امتداد وفيض من الخالق ، وأن علاقة الخالق والمخلوق  كمثل البحر وأمواجه ، وأن الصوفى الحق هو الذى يدرك ذلك ويهتكالحجاب ويعلن اتحاده بالله أوحلول الله فيه . وبالقطع فهذ العقيدة تناقض عقيدة القرآن .

التصوف والقرآن الكريم ودين السُّنة

1ـ  لفظ التصوف لم يرد فى القرأن الكريم ، اللهم إلا إشارة للرهبنة(57 /27)، وهى  ليست فى صالح المتصوفة الذين يحاولون ربط التصوف بالرهبنة والزهد.

2 ـ ولم يجرؤ مؤلفو الأحاديث المزيفة على كتابة حديثواحدينسبونه للنبى محمد عليه السلام فيه لفظ التصوف  لعلمهم أن كلمة التصوف لم يعرفها عصر النبى محمد ،فاكتفوا بوضع أحاديث فيها لفظ الفقر والفقراء، حيث كان الفقر من مصطلحات التصوف ويدل عرفا على الصوفية وقتئذ، مع دلالة الفقر على الاحتياج للمال فى كل عصر.

3 ــ وقد ورد لفظ التصوف لأول مرة فى تراث المسلمين فى كتاب الجاحظ( البيانوالتبيين). وقد توفى الجاحظ عام 255 هجرية .

4 ــ وقد كان ابن خلدون أقرب للصواب حين قال عن التصوف فى ( المقدمة ) (أنه من العلومالحادثة فى الملة )، وخطأ ابن خلدون فى أنه اعتبر التصوف علما ، وليس التصوفعلما حيث لا عقل فيه ولا منهج ، وإنما هو ذوق وهوى، ودين جديد  يخالف الإسلام ، وقدظهر بعده بقرنين .

نوعا التصوف

1- والتصوف نوعان : دينى و فلسفى ، وإذا كان التصوف الدينى يناقض دين الإسلام الذى لا مجال فيه لتقديس غير الله ، فإنالتصوف الفلسفى مرفوض أيضا، لأن الفلسفة الدينية للتصوف  تعزز بالجدل عقائد وحدة الوجود ومقولات التصوف الدينى.

2 ـ  ولأنه دين جديد فقد أدخل التصوف مصطلحات دينية مستحدثة فى الحياة الدينيةللمسلمين لم تكن معروفة من قبل .ومن المصطلحات الدينية الجديدة التى استحدثها دين التصوف : الكرامة ، المريد، المقام ،الوقت  الحال ، القبض ، الصحو والسكر ، الذوق  الشرب ، المحو والإثبات ، الستر والتجلي،المحاضرة والمكاشفة ، الحقيقة والطريقة ، الوارد، الشاهد، السر، المجاهدة ، الخلوة ، الزهد،الولاية ، .. إلخ ، ولكل منها مدلول  فى دين التصوف ، وسطرت فى ذلك الكتب ،وبالطبع هم مختلفون فى معناها وعددها.

وبعض هذ الألفاظ كان مستعملا فى الإسلام بغير ما يقصده الصوفية ، إلا أنهمأولوها وأستحدثوا لها مدلولات جديدة تخرج عن الإسلام مثل (الولى والولاية ).

3 ــ وموضوعات التصوف الدينى والفلسفى  تتمثل فى الشطحات ،وأحوال الفناء والحلولوالاتحاد والتحقق بالحق ، والاشراق ، وهى تخرج عن نطاق الإسلام .

4 ـ عقائد التصوف ثابتة،ولكن التعبير عنها يتراوح بين صراحة بعض الصوفية ،أو نفاق بعضهم ، لذا هناك من أعلن دينه الصوفى معلنابالصريح تأليه نفسه أو أنه جزء من الله أو أنه هو الله أو أن الله تعالى قد حلّ فيه، وهناك من ألمح وقال بالاشارة والرمز، يستوى فى ذلك إذا كان التصوف فى بدايته أو فى أثناء قوته وسطوته.

ثانيا : كيف ظهر دين (التصوف السنى ) وكيف ساد وانتشر ؟

 1 ـ فى فترة حكم المتوكل ومن خلفه حيث تحكم القواد الأتراك ( 232 ـ 334 ) زاد نفوذ الحنابلة ـ وهم أشد السنيين تعصبا ـ وسيطروا علي الشارع ، واضطهدوا المعتزلة وكل من يخالفهم فى الرأى . فى نفس الوقت تكاثر أئمة الكذب على الله تعالى ورسوله ، وتتابعت كتبهم تؤطر للدين السنى بزعم ان ما تكتبه هو وحى سماوى تنسبه للنبى محمد عليه السلام بعد موته بأكثر من قرنين. هذا ما ارتكبه ابن حنبل ت 241 والبخارى 256 ومسلم 261 وأبو داود  275 والترمذى 178 والنسائى 303 وابن ماجه 275 . وقد أصبحوا فى العصور اللاحقة وحتى اليوم آلهة معصومة من الخطأ فى الدين السّنى ، لا يجوز الاقتراب منهم الا بالمدح والتبجيل ، ومصير من ينتقدهم أو يناقشهم هو الاتهام بالكفر بالدين السّنى أو ( انكار السّنة ). ابن حنبل فلم يكن فقيها وانما كان من أصحاب الحديث وكانت مؤلفاته فى الحديث فقط ، وحتى لم يرتبها ترتيبا فقهيا مثلما فعل البخارى ومسلم وغيرهما. ولكن نفوذ الحنابلة جعله اماما فى الفقه واسس له مدرسة فقهية لا تزال سارية، ومنها نبعت الوهابية فى العصر الحديث.

2 ـ وكان التصوف وقتها يخطو خطواته الاولي ،ولكن لاحقت الدولة العباسية اربابه بالمحاكمات ،واشهرها محاكمة سمنون الذي اعتقل فيها كل ارباب التصوف فأظهروا التقية ،الا ان الدولة العباسية قتلت الحلاج سنة309 بسبب صراحته في اعلان عقيدته والشكوك السياسية التي احاطت به ،حيث اتهم بالتشيع والعمل مع القرامطة الثائرين على الدولة العباسية .وكان ذلك في خلافة المقتدر العباسي (295-320)(908 - 932)[ المنتظم13/201].

ظهر التصوف من جيب الساحر الشيعى ، حيث كان معروف الكرخى مسيحيا ثم أسلم وصار شيعيا من أتباع العلويين ثم بدأ يتكلم فى التصوف مبكرا. جاء المتوكل فاضطهد آباء التصوف الأوائل الآتين بعد معروف الكرخى ، وفى ( فتنة سمنون ) اعتقل المتوكل كل أئمة التصوف من مصر ( ذو النون المصرى ) والعراق ( الجنيد ) وغيرهم. وفى أثناء ثورات القرامطة اعتقلت السلطات العباسية الحلاج سنة 301.وبعد جدل سياسى أعدموه سنة 309 .

هذه الهجمة العنيفة على دين التصوف الوليد جعل الجنيد ( سيد الطائفة ) يختفى ويتستر بتدريس الفقه السنى وينهى أتباعه عن مطالعة كتب ( التوحيد الخاص  ـ يعنى التصوف ـ إلا بين المؤمنين به، ). ويقول فى دروسه العلنية( مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة ) ( ومن لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به  فى هذا الأمر) أى لا يصبح شيخا صوفيا. إلا أنه ـ وحسبما ذكر الشعرانى فى ترجمته فى الطبقات الكبرى  كان لا يتكلم فى التصوف الا بين من يثق فيهم من تلامذته وبعد أن يغلق أبواب داره ويضع المفاتيح تحت وركه ويقول : أتحبون أن يكذّب الناس أولياء الله تعالى وخاصّته ويرمونهم بالكفر والزندقة ؟.

 فى نفس الوقت هدم العباسيون ضريح الحسين فى كربلاء واضطهدوا الشيعة وألزموا النصارى واليهود بزى معين للتحقير.هذا هو كشف حساب الدين السنى فى عصر المتوكل وخلفائه.

3 ـ ودفعت الدولة العباسية الثمن سريعا اذ سيطر عليها بنو بويه الشيعة وأذاقوا الخلفاء العباسيين النكال مع انهم كانوا يحكمون باسمهم.

 فى فترة بنى بويه ( 334 ـ 447 ) الكارهين للدين السنى  لم يظهر أئمة فى الدين السنى يتفوقون على أساتذتهم البخارى ومسلم وغيرهم، بل على العكس تشجع الشيعة فى شمال أفريقيا ففتحوا مصرسنة 358  وتحولت الى مركز للدعوة الشيعية. ولم يجد الفاطميون صعوبات كبيرة فى نشر دينهم فى الشام وضمه اليهم ـ وقد كان تابعا للعباسيين ـ اذ كان بنو بويه فى بغداد  لا يمانعون. أى حوصر الدين السّنى بين بنى بويه فى بغداد والفاطميين فى مصر والشام وأجزاء من العراق نفسه. واستفاد التصوف من محنة الدين السنى وغلبة الدين الشيعى فانتشر ونما على المستوى النظرى الفلسفى والمستوى الشعبى الميدانى.

4 ـ ثم تغير الحال لصالح دين السنة بمجىء الأتراك السلاجقة المتعصبين للدين السنى. ولكن فى فترة حكمهم ( 329 ـ 552 ) كان التصوف قد نما و لم يعد بالوسع القضاء عليه. فلم يعد من طريق أمام السنيين الا بالتصالح معه واحتوائه.

5 ـ فى هذه الفترة عاش القشيرى ( 376 ـ 465 ) مهندس ما يسمى بالتصوف المعتدل الذى سار على منوال الجنيد فى التقية. وقد كتب القشيرى رسالته المشهورة فى الدفاع عن التصوف وقام بالهجوم على رعاع الصوفية المنتشرين فى عهده ليسحب البساط من تحت أقدام الحنابلة المتشددين وليقنعهم بمقولة التصوف الملتزم بدين السّنة وفق ما قاله الجنيد من قبل.

وفى مقدمة رسالته هاجم القشيرى جماعات الصوفية فى عهده ورماهم باعتناق عقائد الحلول بالله تعالى و زعمهم اتحادهم به ، واسقاط الفرائض الاسلامية والوقوع فى الزنا والشذوذ على أنها مما يقربهم الى الله زلفى!!. والغريب أنه فى باقى الكتاب يقرر نفس العقائد والسلوكيات بصورة غير مباشرة ومدافعا عن شيوخ التصوف السابقين الذين قالوا نفس الشىء.

وصارت طريقة مرعية لمدعى الاعتدال من الصوفية بعد القشيرى أن يهاجموا المعاصرين من شيوخ التصوف وان يدافعوا عن الشيوخ السابقين وأن يقرروا نفس العقائد والسلوكيات الصوفية فى سطور جانبية أو مؤلفات جانبية يقولون أنها فى علم المكاشفات لا يفهمها الا الواصلون من ( أرباب الحقائق ).

ومن يراجع تاريخ المنتظم لابن الجوزي الفقيه الحنبلى يجد نفوذ الحنابلة نافذا من عهد المتوكل الي أن تقهقر تدريجيا حيث عاش ابن الجوزى نفسه فى القرن السادس الهجرى ليشهد تغير الاحوال واشتداد عود التصوف في مواجهة الحنابلة ،وبعد ان كان الحنابلة يضطهدون التصوف نرى ابن الجوزي يكتب (تلبيس ابليس) يهاجم الصوفية في اكثر ابوابه ويتحسر كيف اصبح فقهاء الحنابلة يدخلون مؤسسات التصوف وكيف اصطلح الذئب الحنبلي علي الغنم الصوفي (تلبيس ابليس :164،166،167.القاهرة ـ بدون تاريخ).

وكان هذا ارهاصا ببداية عهد نفوذ التصوف وولادة ( التصوف السُّنّى )

6 ــ ولادة التصوف السُّنى الفكرية كانت ثمرة لجهد الغزالى ت  505 ، وكان اكبر فقيه وأكبر صوفى فى العصر العباسى السلجوقى. وفى كتابه المشهور(احياء علوم الدين)مزج فيه الفقه ( المعبر عن الدين السنى ) بالتصوف ، وبعثر عقائد التصوف بين سطور الاحياء ، ثم أفرد لها كتابه ( مشكاة الأنوار ) الذى أكد فيه عقائد الحلول والاتحاد ووحدة الوجود. وعلى نفس الطريق سار آخرون كان آخرهم فى القرن التاسع الهجرى ـــ السادس عشر الميلادى ــ عبد الوهاب الشعرانى الذى عاصر نهاية العصر المملوكى وصدرا من العصر العثمانى ( 898 ـ 973 ) وظلت مؤلفاته الكثيرة مهيمنة على عقلية الأزهر طيلة العصر العثمانى.

 نعود للعصر السلجوقى السنى وقد كان أبو حامد الغزالى فيه زعيم الفقهاء والصوفية معا، مع انحيازه للتصوف على حساب الفقه. كان الغزالى مؤمنا بفلسفة الاشراق الاغريقية والتى تعنى فيض العلم اللدنى الالهى على العارف أو الولى الصوفى عن طريق الرياضات الروحية. وهذه الفلسفة الأفلوطينية الحديثة كانت فى صراع مع الفلسفة العقلية لأرسطو. وورث الغزالى عداء الفلسفة الأرسطية وأتباعها من المعتزلة وغيرهم من فلاسفة المسلمين ، وهاجمهم فى كتبه داعيا الى وقف الاجتهاد العقلى وأنه ( ليس فى الامكان أبدع مما كان ) ثم هاجم برفق شيوخ الدين الصوفى الذين يعلنون عقائد الحلول والاتحاد .

هوجم الغزالى بقسوة مما جعله يؤلف كتابه ( اشكالات الاحياء ) ليدافع عن كتابه، إلا إن جهده فى النهاية أسفر عن تقرير التصوف كمبدأ وحصر الانكار على بعض أشخاص من الصوفية المتطرفين. وهذا ما سار عليه شيوخ الدين السنى بعد عصر الغزالى وهم الذين  توارثوا الاحتفاء بالغزالى بعد موته وأطلقوا عليه لقب ( حجة الاسلام ) كما لو أن الاسلام تركه خاتم النبيين محمد عليه وعليهم السلام بلا قرآن وبلا حجة طيلة خمسة قرون الى أن جاء الغزالى.

بالغزالى تمت فى عصر السلاجقة العباسى ولادة ( التصوف السنى ) فكريا وثقافيا، واصبح الدين المستنسخ من التصوف والسنة محتاجا الى رعاية سياسية ليصمد أمام التشيع و دعاته من الفداوية او الباطنية الحشاشين الذين سبقوا عصرهم فى غسيل مخ الأتباع بحيث ينتحر أحدهم طاعة للأوامر.

7 ـ وهنا جاء دور صلاح الدين الأيوبى المتوفى سنة 589، وعلى يديه تمت الولادة السياسية للتصوف السنى.هناك جانبان غامضان فى شخصية صلاح الدين الأيوبى يفسرهما هذا السياق عن الصراع بين دينى السنة والتشيع.

الأول ان صلاح الدين سبق الجميع فى استعمال الحرب الفكرية فى مواجهة الدولة الأيدلوجية التى تقوم على عقيدة معينة ولا يكفى القضاء عليها عسكريا وسياسيا بل لا بد من مطاردة عقائدها الدينية بعقائد أخرى تتداخل معها وتعارضها فى نفس الوقت. الغريب أن من جاء بعد صلاح الدين لم يفعل مثله. الوالى محمد على باشا الذى قضى على الدولة السعودية الأولى عسكريا سنة 1818م اكتفى بذلك وترك العقيدة الوهابية تنمو وتعيد أقامة الدولة السعودية الثانية، ثم الثالثة الحالية. عبد الناصر الذى قضى على الاخوان المسلمين ـ وهم صناعة وهابية سعودية ـ اكتفى بوضعهم فى السجون تاركا الفكر الوهابى حرا طليقا بدون نقاش. مما أسهم فى مساعدة الاخوان حين عادوا فى عصر السادات ، فاستطاعوا فى مدة قصيرة التحكم فى العقلية الدينية وتوجيهها لمصلحتهم. هؤلاء القادة العسكريون من محمد على باشا الى عبد الناصر الى جنرالات الأمريكان فى عصرنا لم يبلغوا عبقرية صلاح الدين الأيوبى فى استعمال الحرب الفكرية ضد عدو سياسى يقوم على دين معين أو يستخدم ايدلوجية معينة.

 الجانب الآخر الغامض فى شخصية صلاح الدين هى تسامحه مع الصليبيين فى حروبه بحيث كان يطلق سراح الأسرى منهم بالآلاف ويعطيهم الفرصة للدخول فى حرب أخرى ضده ، وفى نفس الوقت كان لا يتسامح مع الشيعة او الصوفية المتطرفين .

حين بنى جوهر الصقلى القاهرة لتكون عاصمة للدين الشيعى بنى أيضا الأزهر قاعدة لدين التشيع فى الحرب الفكرية ضد الدين السنى. وبعد الغاء الخلافة الفاطمية انتقم  صلاح الدين الأيوبى لدينه السنى باغلاق الأزهر وانشاء خانقاه سعيد السعداء لتعيد نشر الدين السنى المختلط بالدين الصوفى الصاعد وقتها، واستورد صوفية سنيين وجعل لهم شعائر دينية تجتذب اهتمام المصريين وتبعدهم عن الدين الشيعى .لم يكن هذا حبا فى التصوف بدليل أنه سنة 587 قتل شهاب الدين  السهرودى فيلسوف الاشراق وزعيم التصوف المتطرف. كان هدف صلاح الدين ارساء معالم الدين المستنسخ الجديد المعروف بالتصوف السنى والذى لا مجال فيه لمتطرفى التصوف أو متطرفى الحنابلة فى نفس الوقت.

8 ـ بعد صلاح الدين تم تطبيق الدين الجديد ( التصوف السنى ) بمقولة الجمع بين الحقيقة والشريعة، أى الحرص على وجود (الحقيقة) أو العقيدة الصوفية على أساس أنها خاصة بالعارفين من الأولياء أصحاب العلم اللدنى ، وانه محظور على غيرهم التكلم فيها أو الاعتراض عليها،مع الحرص على (الشريعة ) أى التمسك بالمذاهب الفقهية الأربعة فى الفروع أو العبادات.

وتسامح السنة فى تقديس شيوخ التصوف ( المعتدلين ) واعتبارهم أولياء الله، كما اعترف الصوفية بتقديس أئمة المذاهب الفقهية الأربعة وجعلوا لهم مناقب وكرامات مثل المعهود لشيوخ التصوف. وانضم الى قائمة التقديس آل البيت والصحابة جميعا خلافا للشيعة الذين يقولون بكفر أبى بكر وعمر وعثمان وسائر من يبغضهم الشيعة من كبار الصحابة.

9 ـ انتشار دين التصوف السُّنّى منذ القرن  السادس الهجري

من العوامل التي ساعدت علي انتشار التصوف السنى وتسيده ضعف الحكام وظلمهم وشقاقهم فيما بينهم من سلاجقة وايوبيين الي ان ورثهم المماليك الذين تفوقوا علي الجميع في الظلم والقسوة . وهذا الصنف من الحكام لا يستريح الي فقيه حنبلي يقول له افعل أو لا تفعل ويسيطر على الشارع بحديث ( من رأى منكم منكرا فليغيره ) لأنه لا يعرف سوي العنف والسيف ويريد رجل دين ينافقه ويوافقه وينشر السلبية و( عدم الاعتراض ) والخنوع والخضوع للمستبد ويعتبر ظلمه عقابا الاهيا للرعية . ومن هنا وجد الحكام الظالمون ضالتهم في الصوفية الذين يجيدون فن الدعاء للحاكم وتقعيد اسلوب النفاق له .

وتقرب الصوفية للعوام بكل الطرق فلم يعد التبحر في العلم طريقا للولاية و انما مجرد الادعاء بالعلم اللدني والكرامات يفتح الابواب لكل طموح من العوام ليكون شيخا صوفيا طالما وجد من يصدقه من المريدين والاتباع .

والعوام يجدون لدي التصوف كل ما يريدون اذا صاروا أتباعا للشيوخ الصوفية ، فاصحاب الهوى في الانحلال الطبيعي والشاذ يجدون مسوغا دينيا لدي الصوفية يحل لهم ما يشاءون، وهواة الغناء والرقص يجدون مجالا لهم في الحفلات والموالد الصوفية ، وهواة المآدب والطعام والرحلات يجدون ما يريدون خلال الموالد والنذور والسياحة الصوفية، ثم في النهاية يجد العوام طريقا بسيطا للتدين خلال  ما تعوده اسلافهم وهو تجسيد الاله في قبر مقدس (ضريح ) وفي شيخ مقدس حي او ميت ، ويعتقد انه يدخل الجنة من  خلال علاقته المادية المباشرة بذلك الاله المادي الذي يراه ويلمسه .أما المثقفون من الفقهاء فقد ضعف مستواهم العلمي بقدر ما زاد خضوعهم للسلطة القائمة ورأوا مصلحتهم في مسايرة الوقت.

10 ـ الطرق الصوفية

تحول التصوف النظرى الفلسفى المحصور بين النخبة الي طرق صوفية شعبية متعددة ومتفرعة ومتزايدة، سندها الأساس سلاسل من العهد عبر الشيوخ، يزعمون انها انتقلت الي الشيخ الحالي من السابقين عبر الزمن الي ان تصل الي (علي )ابن ابي طالب ثم الي النبي ثم الي جبريل ثم الي الله تعالي ، وهو نفس النسق الذي اعتمده الدين السني في تزييف  الاحاديث عبر سلاسل الرواة من شيخ معاصر الي النبي او الي الله تعالي في الحديث القدسي .

وادت كثرة الطرق الصوفية وتشعبها وسهولة تكوينها الي ان انتظم في سلك التصوف الجميع بالاعتقاد او بالاسترزاق من العوام والفلاحين الي الفقهاء والامراء والسلاطين، واصبح التصوف هو الدين الواقعي المتسلط في بلاد ( المسلمين ) وحل فى المركز الأول محل الدينين السني والشيعي .

11 ــ سطوة التصوف السُّنّى على دين السُنّة

وإذا كان التصوف في حقيقته ابنا للتشيع متفقا معه في الأساسات وبعض الشكليات وتقديس الأئمة من آل البيت فانه لم يضف جديدا للدين الشيعي، ولكنه حين ساد في عالم الدين السني فانه في الحقيقة سلب الدين السني ابرز خصائصه، واصبح مصطلح السنة مجرد شعار سياسي تتمسك به الدولة المملوكية التي تأخذ شرعيتها السياسية من وجود خليفة عباسي ضمن حاشية السلطان بعد تدمير الدولة العباسية علي يد المغول. ومن هنا أصبح مصطلح السنة مجرد واجهة تواجه بها الدولة المملوكية اعداءها الشيعة ، بالاضافة الى انهم جعلوا السنة خاصة بالعبادات أو" الشريعة " مقابل " الحقيقة " أى  العقائد الصوفية من الحلول والاتحاد ووحدة الوجود التى تناقض عقيدة الاسلام .

عقائد السنة التي فهمها ائمة الفقه السني تخالف عقائد التصوف ، بل ان ائمة الفقه السني الذين شهدوا بدايات التصوف انكروا عليه مثل الشافعي وابن حنبل ، واكثر من هذا حارب الحنابلة اللاحقون التصوف في ما بين القرن الثالث الي الخامس من الهجرة .ولكن أتيح للتصوف فى العصر المملوكى أن يتسيد الحياة الدينية للمسلمين، وهذا ما سنتوقف معه فى الفصل التالى.

اجمالي القراءات 9515