خطبتي جمعة
خاتم النبيين

عبدالوهاب سنان النواري في الأحد ٠٩ - أكتوبر - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

الخطبة الأولی:

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

تبارك الذي نزل الفرقان علی عبده ليكون للعالمين نذيرا ، الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا.

هو الذي أرسل رسوله بالهدی ودين الحق ليظهره علی الدين كله.

قرآنا عربيا لعلكم تعقلون.

كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير.

آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين.

أما بعد أيها الإخوة المؤمنون، فإن موضوع خطبتينا لهذا اليوم المبارك سيكون حول خاتم النبيين (عليه السلام) . وحديثنا في هذا الموضوع المهم جدا، لن يكون من باب المديح والإطراء والمغالاة والتجهيل والتعتيم ونشر الخرافة، كما هو الحال في خطب وعاظ الجهل والسلاطين، فلدينا آلاف وربما ملايين الوعاظ الذين يقومون بالواجب.

حديثنا كالمعتاد سيكون من باب كشف الحقائق، ووضع النقاط علی الحروف، وإزالة اللبس، ونسف الخرافات والأساطير. قد يكون طرحنا صادما للكثير منكم، ولكن هذه آيات الله جل وعلا، حاكمة بيننا وبين من يختلف معنا.

وحتی لا يزايد علينا أحد في حب خاتم النبيين نقول للجميع: أن محبة خاتم النبيين لا تعني أن نغالي في حبه ونعطيه ما ليس له. لا تعني أن نجعله شريكا لله جل وعلا، من خلال إعطائه العصمة والشفاعة وحق التشريع .. الخ.

محبة خاتم النبيين تتجلی من خلال التمسك بالرسالة القرآنية التي أرسله رب العزة بها. محبته تتجلی من خلال تبرئته من كل تلك الأكاذيب التي نسبت إليه، ونفي كل تلك الأساطير التي تحيط بسيرته. محبته تتجلی من خلال السير علی منوال سيرته القرآنية العطرة.

وبعد هذا نقول وبإختصار شديد: إن أنبياء الله ورسله هم أصلح البشر لتحمل مسؤوليه الرسالة، وإلا لما اختارهم الله جل وعلا، بعدله وحكمته لهذا الدور العظيم، وفي ذلك يقول سبحانه: الله أعلم حيث يجعل رسالته (الأنعام 124) .

تنقسم حياة خاتم النبيين إلی قسمين: حياته الجاهلية، وحياته القرآنية. وحياته في الجاهلية تأخذ النصيب الأكبر من عمره، فقد أخذت تقريبا ثلثي عمره، بينما أخذت حياته القرآنية الثلث الأخير من حياته.

والقرآن الكريم يحدثنا عن حياته في الجاهلية كإنسان طبيعي يسري عليه ما كان ساريا في المجتمع آنذاك، فالإنسان بالطبع ابن بيئته، وفي ذلك يقول له الحق تبارك وتعالی: ألم يجدك يتيما فئاوی ، ووجدك ضالا فهدی ، ووجدك عائلا فأغنی (الضحی 6-8) .

وبأسلوب أكثر إيضاحا يحدثنا رب العزة: بأن خاتم النبيين كان قبل نزول القرآن الكريم عليه من الغافلين، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالی: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرءان وإن كنت من قبله لمن الغافلين (يوسف 3) .

ويحدثنا رب العزة أيضا: بأن خاتم النبيين لم يكن يدر ما الكتاب ولا الإيمان حتی نزل عليه الوحي القرآني، فأصبح به خاتم النبيين داعيا إلی الصراط المستقيم، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالی: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلی صراط مستقيم (الشوری 52) .

ويحدثنا رب العزة: بأنه لم يخطر ببال خاتم النبيين يوما أنه سيصبح نبيا يلقی إليه الوحي، وأن القرآن الكريم فرض عليه فرضا، وأصبح به ملزما بأن لا يكون ظهيرا للكافرين، وأن يدعو إلی سبيل ربه ولا يكونن من المشركين، جاء ذلك في قوله تعالی: إن الذي فرض عليك القرءان لرادك إلی معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدی ومن هو في ضلال مبين ، وما كنت ترجو أن يلقی إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين ، ولا يصدنك عن ءايات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلی ربك ولا تكونن من المشركين (القصص 85-87) .

وقد كانت تلك المرحلة الجاهلية من حياة خاتم النبيين حجة له في مواجهة تذمر وتعنت المشركين، فحين كانوا يطلبون من خاتم النبيين أن يأت بقرآن آخر أو يبدل تعالمه، كان يرد عليهم خاتم النبيين بأنه لا يستطيع أن يفعل ذلك من تلقاء نفسه، وأنه يتبع ما يوحی إليه فحسب، وأنه لو شاء الله ما تلی القرآن عليهم ولا أراهم به، ثم يذكرهم بتلك الفترة الطويلة التي قضاها من حياته بينهم وهو مثلهم لعلهم يعقلون، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالی: وإذا تتلی عليهم ءاياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرءان غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحی إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ، قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ، فمن أظلم ممن افتری علی الله كذبا أو كذب بأياته إنه لا يفلج المجرمون (يونس 15-17) .

إذن كانت هذه نبذة عن حياة خاتم النبيين في المرحلة الجاهلية قبل أن ينزل عليه القرآن، فماذا عن حياته بعد نزول القرآن العظيم؟

هذا ما سنتناوله في الخطبة الثانية بإذن الله جل وعلا.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، إنه تعالی ملك بر رؤوف رحيم.

قلت ما سمعتم، واستغفر الله العلي العظيم لي ولكم، ولوالدي ووالديكم، ولسائر المؤمنين والمؤمنات من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

عند الحديث عن المرحلة القرآنية من حياة خاتم النبيين (عليه السلام) ينبغي أن نتعرف علی الحقائق التالية:

أولا: أن نزول الوحي القرآني عليه لم يغير شيئا في بشريته، فهو مع نزول الوحي عليه بشر مثله مثل غيره، وفي هذا السياق نزلت عشرات الآيات القرآنية التي تؤكد هذه الحقيقة، ونكتفي بقوله تعالی: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحی إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا (الكهف 110) .

وحقيقة أنه بشر مثله مثل غير معناها أنه يصيب ويخطئ، وأنه يذنب ويستغفر، وأن له شهوات ونزوات وطموح وشطحات، وله في المقابل مميزاته وسجاياه الخاصة، وأنه لا يستطيع أن يقوم بخوارق العادات، وأنه لا يختلف عن غيره من البشر إلا بكونه يوحی إليه بالقرآن الذي كان حاظرا معه طيلة حياته القرآنية، يوجهه ويرشده ويعاتبه ويؤنبه ويزجره ويهدده .. الخ.

ثانيا: أن مهمة خاتم النبيين تنحصر في التبليغ لا غير، وفي ذلك وردت عشرات الآيات القرآنية التي تحصر مهمته في التبليغ، كقوله تعالی: إن عليك إلا البلاغ - فإنما عليك البلاغ - ما علی الرسول إلا البلاغ .. الخ. فليس من مهامه هداية الناس، لان الهداية حرية شخصية، لذا قال له رب العزة: ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء (البقرة 272) . وهو بهذا لا يستطيع أن ينقذ أحدا من النار عبر الأكذوبة المعروفة بشفاعته، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالی: أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار (الزمر 19) .

ثالثا: أن أمية خاتم النبيين لا تعني أنه كان جاهلا بالقراءة والكتابه، بل بالعكس فقد كانت أولی الأوامر الإلهية لخاتم النبيين هي أن يقرأ ويتعلم باسم ربه الأكرم الذي علم بالقلم، وفي ذلك يقول له الحق تبارك وتعالی: اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم (العلق 1-5) .

وبالفعل فقد تعلم خاتم النبيين القراءة والكتابه وهو الذي لا يمكن أن يخالف توجيهات الله جل وعلا، وكيف لرجل معجزته الوحيدة كتاب سماوي يقرأه علی الناس أن يكون جاهلا بالقراءة والكتابة، وعلی إثر ذلك قام خاتم النبيين بكتابة آيات الله جل وعلا، بيده، وبطريقة كتابة إعجازية خاصة.

رابعا: أن خاتم النبيين لم يكن معصوما من الذنب والخطأ في حياته العامة والخاصة، وأن عصمته لم تكن إلا من خلال الوحي القرآني، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالی: قل إن ضللت فإنما أضل علی نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب (سبأ 51) .

وكم جاءت من الآيات التي تعاتبه وتؤنبه وتصحح له المسار وتأمره بالإستغفار، ونكتفي بقوله تعالی: فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار (غافر 55) .

خامسا: أن خاتم النبيين لا يعلم الغيب، ولا يدري ماذا سيحصل له أو لغيره في المستقبل، وبالتالي فإن خاتم النبيين لم يتكلم في غيبيات علی الإطلاق، نفهم ذلك من قوله تعالی: قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحی إلي (الأنعام 50) . ويقول أيضا: قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحی إلي وما أنا إلا نذير مبين (الأحقاف 9) .

سادسا: أن القرآن الكريم هو المعجزة الوحيدة لخاتم النبيين، فليس له معجزة حسية علی الإطلاق، وهو الأمر الذي كان محل أعراض وجدل ومعاجزة من قبل المشركين وأهل الكتاب، وهو أمر كان يحزن النبي كثيرا، لذا قال له رب العزة: وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بأية ولو شاء الله لجمعهم علی الهدی فلا تكونن من الجاهلين (الأنعام 35) .

سابعا: أن خاتم النبيين ليس بدعا من الرسل، وليس متميزا عليهم في شيء، والمؤمنون مأمورون بأن لا يفرقوا بين أحد من رسل الله جل وعلا. فلا يحق لنا أن نصفه بما لم يصفه به القرآن الكريم، والقرآن لم يصفه بأنه سيد وخير المرسلين، وإنما وصفه بأنه خاتمهم، وأمره أن يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، أي أن يعمل ما بوسعه كي يكون مثلهم، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالی: فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل (الأحقاف 35) .

ثامنا: أن خاتم النبيين مات أو قتل بإعتباره بشرا مثلنا، وهذا أمر طبيعي أخبره به رب العزة في حياته، وذلك في قوله تعالی: إنك ميت وإنهم ميتون (الزمر 30) . مات خاتم النبيين ودفن في الأرض، وهناك تولی الدود والتربة مسؤولية تحليل الجثة وتحويلها إلی تراب.

والقضية ليست محمد وإنما الذي أنزل علی محمد، القضية المركزية هي القرآن الكريم الباقي الخالد، أما محمد فهو وسول قد خلت من قبله الرسل، والمطلوب من الناس أن يتمسكوا بما نزل عليه ولا ينقلبوا علی أعقابهم، نفهم ذلك من قوله تعالی: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم علی أعقابكم ومن ينقلب علی عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين (آل عمران 144) .

ومظاهر الإنقلاب عن هدي الله جل وعلا كثيرة، فهي لا تنحصر في التكذيب والكفر والنكران، بل وتشمل أيضا الغلو والتطرف والإفتراء علی الله جل وعلا الكذب، وجميع هذه المظاهر للأسف الشديد ضاربة في عمق تاريخ هذه الأمة، لذا نحاول ما أمكننا أن ننبه ونحذر منها، وأن نتعلم ونعلم الناس مبادئ وحقائق ديننا السمح الحنيف.

تاسعا: كانت هذه نبذة مختصرة عن خاتم النبيين، تحدثنا فيها عن جوانب محدودة من حياته، لان الوقت لا يسمح لنا بالالمام بكل الجوانب، وكل جوانب حياته مهمة ولا بد أن نتطرق لها في الخطب القادمة بإذن الله تعالی.

ختاما: يقول الحق تبارك وتعالی: يا أيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا ، وسبحوه بكرة وأصيلا ، هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخركم من الظلمات إلی النور وكان بالمؤمنين رحيما (الأحزاب 41-43) .

وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين (غافر 60) .

ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ، ربنا وآتنا ما وعدتنا علی رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد.

ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته علی الذين من قبلنا ، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ، واعف عنا ، واغفر لنا وارحمنا ، أنت مولانا فانصرنا علی القوم الكافرين.

قوموا إلی صلاتكم يرحمكم الله

اجمالي القراءات 6740